شكل التفاهم الإيراني- السوري، والتقاء المصالح المشتركة فيما بينهما، وتطابق الرؤى الإقليمية الذي أفضى إلى درجة عالية من التنسيق حيال ملفات الإقليم الساخنة ذات الاهتمام المشترك، وبعيداً عن أية تأويلات إيديولوجية أخرى كون quot;حماسquot; أيضاً هي من ضمن وأحد أهم مرتكزات هذا التنسيق والتفاهم (يعتبر الرئيس مبارك حماس مجرد استطالة إيرانية)، نقول شكل ذلك، وبقدر ما هو بروز لقوّى إقليمية ناشئة تعيد شيئاً إلى الخلل الكبير في موازين القوى، معضلة حقيقة ومؤرقة لقوى عالمية وإقليمية متطابقة الرؤى والأهداف هي الأخرى. وكان ذلك التفاهم أحد أهم أسباب إعاقة تقدم مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي اكتسب قوة دفع وزخماً عاليين في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق 2003.

ويعتبر الآن، بالمقابل، تفكيك هذا التفاهم أحد أهم أولويات سياسات تلك القوى. ألم تربط تسيبي ليفني وزيرة الخارجية الإسرائيلية بين أي انسحاب إسرائيلي من الجولان بفك عرى ما يسمى بالتحالف السوري الإيراني؟ فيما اعتبر نتنياهو أن انسحاب إسرائيل من الجولان يحوله إلى قاعدة متقدمة لإيران تهدد إسرائيل. وجوهر التجاذب القائم اليوم في المنطقة والسعي الدبلوماسي الحثيث يرتكز على ما يسمى بنزع سوريا من الحضن الإيراني هذا إذا سلمنا بوجود الحالة أصلاً، وبصوابية هذا الطرح من الأساس. وقد يكون السلوك الإسرائيلي الجديد، ومن ورائه الأمريكي، بالتفاوض مع سوريا، ليس سوى مجرد طعم في محاولة لإحداث خلخلة في جدار العلاقة السورية الإيرانية ومناورة تكتيكية في ذات السياق والاتجاه جوبهت برد سوري مفحم وواضح ومن أعلى المستويات.

لقد اتسمت السياسات الرسمية العربية التقليدية فيما مضى بمحاولة إظهار قدر من التناغم في العلاقات والمواقف العربية حيال كافة القضايا والملفات المطروحة على الساحة. وكانت قرارات القمم العربية توافقية وشكلية بروتوكولية، بشكل عام، وبدون أية فاعلية أو تأثير، وتصاغ لترضي جميع الأطراف ودون أن تسبب أي حساسية وإزعاج لأحد بما فيهم أمريكا وإسرائيل، وبقدر واضح من عدم الرغبة في حدوث أدنى استفزاز للجانب الأمريكي بالذات.

نعم لقد لعبها السوريون بمهارة وحنكة واقتدار. وما قدموه من طول بال وأناة وأداء سياسي بارع، حتى الآن، ليس سوى رأس جبل الجليد الظاهر مما يعتقد أن لديهم من أوراق يصرّون على عدم إظهارها للعيان. وما زال في الجعبة السورية، على ما يخمـّن، الكثير من المفاجآت. ولقد تحقق لسوريا اليوم من خلال ذلك، وضعاً إقليمياً باعتقادنا، أقوى من أي وقت مضى. وكان الإقرار الإسرائيلي، والأمريكي من ورائه طبعاً، للعودة إلى طاولة المفاوضات إحدى ثمرات ذاك الأداء. وأما هذا الاستقطاب والوضوح الحالي في العلاقات العربية العربية فهو برأينا ضروري جداً، ولا يمكن أن نراه صداماً مع قوى عربية أخرى، بقدر ما هو إعادة رسم وتحديد ضروري لشكل العلاقات العربية العربية مستقبلاً والذي يجب أن تكون قائمة على الوضوح والمكاشفة والمصارحة واحترام الخيارات الذاتية، طالما أن الاتفاق والعمل العربي المشترك ممنوع حتى إشعار آخر وعلى كف العفريت الأمريكي. وإن تحديد العلاقات العربية العربية اليوم على هذه المبادئ والأسس الجديدة فيه خير ودفع للعمل العربي المشترك أكثر مما سبق بكثير، ومما كان قائماً برمته على إخفاء التناقضات والتباينات والاختلافات والتعتيم والمداراة والابتسام أمام الكاميرات.

ولم يسبق أن تحقق لسوريا ولشعوب المنطقة في تاريخها المعاصر، وخلال كامل حقبة ما يسمى بالتنسيق والتضامن العربي، هذا الكم الملموس من القوة والإنجازات الإستراتيجية الهامة والقدرة على التحكم بالقرار الوطني. واستطاعت أن تحقق لنفسها اليوم، وضعاً إقليمياً ووطنياً منيعاً نسف معه كل محاولات الخارج المتعددة لتقويضه واختراقه وإحداث أي نوع من الضعف والاختراق فيه.

تتسم المواقف العربية اليوم عموماً بالضعف والتفكك والتراجع والاتكالية والتبعية لعواصم القرار الكبرى. والقرار العربي الرسمي اليوم لا يعكس مصلحة عربية بقدر ما يجسد مصالح قوى كبرى تريد الهيمنة على المنطقة والاستئثار بها واستمرار عمليات النهب المبرمج لثرواتها وتجيير كافة قدراتها لمصالح تلك القوى. وقد أدى هذا الواقع إلى الإضرار بالمصالح العربية العليا وظهور الوضع العربي على ما هو عليه من رداءة ورثاثة وضعف وشلل وإحباط. ولا نعتقد إن أي عودة لسوريا لأي نوع من التنسيق وفق شروط النظام العربي القديم الذي كان مسؤولاً بالكامل عن إنتاج نفس تلك الشروط، سيعود عليها بأي نفع كان، بل سيعني، حتماً، عودتها للمربع الأول وتخليها عن الكثير من المكاسب والإنجازات ومعها موقع استراتيجي متميز وهام، لتكافأ عليه ثمن بخس وهو مجرد أن تلحق فقط بركب التبعية، والاتكالية والانهزام، والانضمام لجوقة المنتظرين لاستجداء بركات ورضا العم سام.

نضال نعيسة