قبل أن أتطرق إلى ما لا يزال موضع خلاف مع الرفيق قوجمان يلزمني الاعتذار عن خطأي في افتراض أن الرفيق قوجمان يرى أن انحراف خروشتشوف وعصابته حالة خاصة، إذ ها هو اليوم يؤكد أن الإنحراف إنما كان تعبيراَ عن صراع طبقي محتدم داخل المجتمع السوفياتي. إنني وإذ أشكره على تصحيحي أود أن ألفت نظره إلى أن ما دفعني إلى ذلك الإفتراض الخاطئ هو غياب كل إشارة للصراع الطبقي في المجتمع السوفياتي في كتاباته بحدود ما قرأت له. صحيح أنني لم أقرأ إلا الجزء اليسير من كتاباته، لكن تغييب الصراع الطبقي عن أي بحث في انهيار مشروع لينين يجب أن يكون ممنوعاً وخاصة على كاتب ماركسي بقامة قوجمان. كما يلزمني قبل ذلك أيضاً الإشادة بالدور المركزي الذي يعطيه الرفيق قوجمان لمنهج الديالكتيك الذي بدونه لا يمكن سبر الحقائق من أعماق التاريخ أو بالمثل استشرافها في المستقبل ؛ مع أن الإلتزام المطلق بالديالكتيك الذي عبر عنه الرفيق قوجمان كان يستوجب منه أيضاً عدم إهمال الصراع الطبقي في كل تناول لانهيار المشروع اللينيني. الكفاءة الكليّة التي يتميز بها منهج الديالكتيك الماركسي تنعكس تماماً لتصبح حالة قصور كلّي لدى إساءة استخدامه. الرفيق قوجمان وقع في سلسلة من الأخطاء نتيجة لخطأ أولي في استخدام الديالكتيك الماركسي، حيث أن أحد القوانين الأساسية الثلاث في الديالكتيك الماركسي وهو قانون quot; نفي النفي quot; يقضي بفناء النقيضين في الوحدة الواحدة فناءً كليّاً حال اصطدامهما في ثورة أو طفرة، الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى تغيّر نوعي في الوحدة ذاتها. فمثلاً، انتهى النظام الإقطاعي بقيام الثورة البورجوازية وفنيت نهائياً الطبقتان المتناقضتان اللتان شكلتا المجتمع الإقطاعي، الإقطاعيون من جهة والأقنان من جهة أخرى. وفي الشيوعية التي تقود إليها الثورة الإشتراكية تفنى الطبقتان المتناقضتان في النظام الرأسمالي وهما الرأسماليون من جهة والبروليتاريا من جهة أخرى ؛ كل من النقيضين ينفي نقيضه وبذلك فقط يحدث التغيير النوعي. ليس فقط في القصور الثوري ينتفي النقيضان كما أشار الرفيق قوجمان بل إن نفي النفي يتم أصلاً في الثورة.

كثيرون من الكتاب في الماركسية يضلّون في هذه الضلالة تحديدا،ً وما يضلّهم فيها هو أن الثورة الإشتراكية في روسيا وطّدت طبقة البروليتاريا ولم تمحوها أو تتسبب في فنائها. أمام حالة الضلالة الخطيرة هذه يلزم التوقف طويلاً للكشف عنها والتعرف على شواهدها.

انتفاضة أكتوبر 1917 التي قام بها البلاشفة بقيادة لينين لم تكن ثورة اشتراكية لا بالمعايير التي حددها ماركس ولا بمعايير لينين أيضاً. كانت مجرد انتفاضة تصحيحية أو الأحرى تكميلية لثورة شباط فبراير البورجوازية بقيادة حزب بورجوازي هو حزب الإشتراكيين الثوريين
وعلى رأسه ألكساندر كيرانسكي رئيس الحكومة المؤقتة التي أطاحت بها الإنتفاضة. ولذلك بادرت حكومة لينين الأولى إلى تنفيذ ما أحجمت حكومة كيرانسكي البورجوازية عن تنفيذه من البرنامج المعلن للثورة البورجوازية بدءاً بالخروج من الحرب ثم تأميم الأرض وأخيراً دعوة الجمعية التأسيسية للجمهورية للانعقاد. كما ضمت حكومة لينين الأولى عدداً من الوزراء البورجوازيين. في آذار مارس 1918 قامت مختلف الأحزاب البورجوازية، بما في ذلك حزب الإشتراكيين الثوريين المشارك في حكومة لينين، وكبار ملاّك الأراضي وضباط القيصر بثورة مضادة فكانت حرباً أهلية استمرت لعام ونصف استطاع البلاشفة بتأييد واسع من صغار الفلاحين من سحق أعداء البلاشفة. حينذاك فقط، حين لم يبق أية قوى سياسية أخرى غير البلاشفة، أعلن لينين الثورة الإشتراكية العالمية ونادى إلى قيام الأممية الثالثة وتشكيل أحزاب شيوعية في مختلف بلدان العالم تأخذ على عاتقها النضال نحو إنجاز مشروع لينين في الثورة الإشتراكية العالمية. في العام 1921 بعد القضاء المبرم على جيوش التدخل تشكل المجتمع السوفياتي من طبقتين فقط، طبقة البروليتاريا وهي الطبقة الحاكمة من خلال الحزب الشيوعي وطبقة البورجوازية الوضيعة، الطبقة الوسطى، التي احتوت على ثلاث شرائح كبيرة مختلفة تمارس الإنتاج البورجوازي الفردي وهي 1. الفلاحون 2. الموظفون والمهنيون 3. العاملون في الصناعات الصغيرة.

إمّحت نهائياً الطبقة الرأسمالية وانتهت نهائياً كل أدوات انبعاث الرأسمالية من جديد في المجتمع السوفياتي بعد انتهاء الحرب الأهلية وحروب التدخل. أما قول الرفيق قوجمان.. quot; بنشوء حركة اجتماعية واقتصادية وسياسية رأسمالية متسعة النشاط داخل الحزب الشيوعي quot; هو قول افتراضي لا علاقة له بالحقيقة والواقع. كل الحركات الإعتراضية التي قامت داخل الحزب منذ انشقاق ليون تروتسكي عام 27 بل وقبله انحراف نيقولاي بوخارين عام 25 عبوراً بانحراف خروشتشوف في العام 54 وحتى انقلاب بوريس يلتسن وتفكيك الإتحاد السوفياتي في العام 91 إنما كانت تعبيرات مختلفة عن طموحات البورجوازيات الوضيعة التي شكلت الطبقة الوسطى السوفياتية بعد أن توسعت كثيراً تعويضاً عن التخلف الرأسمالي لروسيا القيصرية. في العام 1925 وكان الحزب يأخذ بخطة لينين quot; النيب quot; لصالح الفلاحين والعاملين في الصناعات الصغيرة، انحرف بوخارين منتصراً للفلاحين وقد أطلق شعاره الشهير quot; أيها الفلاحون اغتنوا بأنفسكم ! quot;، فكان هذا مدعاته لرفض قرار الحزب بإلغاء quot; النيب quot; عام 26 ثم معارضته الشديدة لخطة الحزب في التحول إلى الفلاحة التعاونية وانتهى به الأمر إلى الإتصال بهتلر والتآمر على الدولة السوفياتية عام 37. أما يسارية ليون تروتسكي فهي ومنذ نظريته المنحرفة في quot; الثورة الدائمة quot; التي نقضها لينين واعتراضه على تطبيق الإشتراكية في الإتحاد السوفياتي عام 1921 وحتى تلك المظاهرات التي نظمها وأعوانه في لينينغراد في الأول من أيار عام 1927 تنادي بسقوط قيادة الحزب وهو عضو فيها، كل تلك السياسات الموصوفة باليسارية إنما هي سياسات البورجوازية الوضيعة التي تنم عن قصر النفس الثوري وتتصف بروح المغامرة. يكفي أن نصغي إلى تروتسكي في محاكمته الصورية في ابريل نيسان 1937 يدعي أمام رئيس المحكمة، الفيلسوف الأميركي جون ديوي، أن كل سياسات ستالين التي طبقها، إن في الزراعة أم في الصناعة، إنما هي بالأساس من بنات أفكاره قام ستالين بسرقتها من أرشيفه السري !! لئن كان هذا صحيحاً فلما المعارضة إذاً؟! هل كان سيتوقف تروتسكي عن تنظيم أعمال التخريب في الحياة السوفياتية لو أن ستالين أعلن على الملأ أن كل تلك الأفكار العظيمة التي نهضت بالحياة السوفياتية هي من بنات أفكار الرفيق العظيم ليون تروتسكي؟! نعم، تلك هي وضاعة البورجوازية الوضيعة، وكما قال الرفيق ستالين.. كان تروتسكي مستعداً للاستشهاد لكن فقط من على مقصلة عالية تحيط بها الجماهير العريضة وتهتف باسمه !! كامينيف وصهره زينوفييف تعاونا مع تروتسكي ـ وثلاثتهم من اليهود ـ وتم طردهما من الحزب عام 1927، لكنهما عادا ليتآمرا على اغتيال سيرجي كيروف زعيم الحزب في لينينغراد ديسمبر 1934 وليحلا محله، ثم أدينا بالتعاون مع تروتسكي والتآمر على أمن الدولة من داخل السجن في العام 1936 وحكم عليهما بالإعدام. لم يستطع ستالين إعدام كل البورجوازيين الوضعاء في الحزب ولم يظفر باثنين منهم على الأقل تخفيا بسياسة quot; التقية quot; وهما لافرنتي بيريا الذي شكل منظمة الأطباء اليهود في الكرملين بهدف الإنهاء المبكر لحياة أبرز القادة السوفيات، وهو من اعترف بالتآمر على إنهاء حياة ستالين مبكراً، ونيكيتا خروشتشوف الذي سار على طريق تهديم المعسكر الإشتراكي وتحريف الماركسية اللينينية الإنحراف الذي تفشى اليوم في دعاوى وطنية وفي الطعن في صحة الماركسية اللينينية.

نستذكر كل هذا لنؤكد أن القوى التي كانت تعارض سياسات الحزب بقيادة ستالين إنما كانت عناصر تمثل البورجوازية الوضيعة ولم تعبر عن أية طموحات رأسمالية بحال من الأحوال. ويجدر هنا استذكار قول لستالين بمعنى أن إلغاء الطبقة الرأسمالية ومصادرة أدوات إنتاجها كان أسهل الأعمال الثورية التي قام بها الحزب ؛ وهو ما يشير إلى أن الأصعب هو القادم أي إلغاء الطبقة الوسطى بشرائحها المختلفة. ليس من سبب يدعونا إلى الموافقة على أقوال الرفيق قوجمان حول عودة روسيا إلى النظام الرأسمالي. أُرغم البلاشفة على قيادة الشعوب السوفياتية إلى القفز عن المرحلة الرأسمالية أو اختصارها وقد نجحوا في ذلك أيما نجاح وعليه لن يعود التاريخ إلى الخلف ولم يحدث أنه عاد. لقد انتصرت الطبقة الوسطى على طبقة البروليتاريا انتصاراً حاسما في العام 1964 حين قام العسكر بانقلاب سريع على خروشتشوف ؛ ولمّا لم يكن لديها ما تفعله حيث أن نمط الطبقة الوسطى في الإنتاج نمط كسيح لا يلبي احتياجات الأمة وبحاجة دائمة إلى سند بروليتاري فما كان منها إلا أن اضطرت إلى إعلان إفلاسها في العام 91 وتفكيك الإتحاد السوفياتي وإعلان الثروات السوفياتية الهائلة مشاعة للنهب. إذّاك أغار لصوص البورجوازية الوضيعة على الثروات السوفياتية المشاع ونهبوا ما قووا على حمله فتحول واحدهم خلال أيام قليلة إلى مالك لعشرات المليارات من الدولارات في البنوك الأجنبية. ظن البسطاء من الناس أن روسيا من خلال أعمال النهب والسلب إنما تتحول إلى النظام الرأسمالي. لكن النظام الرأسمالي لا يتفق مع أعمال النهب والسلب التي تنتهك بشكل فاضح قدسية الملكية من جهة، ومبدأ الإتجار بقوى العمل البشرية من جهة أخرى، وهذان مبدآن أساسيان في النظام الرأسمالي. لن تقوم قائمة للنظام الرأسمالي في روسيا وفي سائر الجمهوريات الإشتراكية سابقاً. هذا بالإضافة إلى أن الطبقة الوسطى هي بطبيعتها معادية للنظام الرأسمالي ولن ترغب يوماً فيه. بناء النظام الرأسمالي عملية تاريخية معقدة وطويلة وليس من حجارتها قيام بعض اللصوص بوضع أيديهم على أموال طائلة لا تعود إليهم. القيمة الكلية المطلقة في النظام الرأسمالي هي قيمة العمل بينما ما جرى في روسيا في التسعينيات يتأتى أولاً وأخيراً من امتهان قيمة العمل. لا رأسمالية في روسيا بعد العام 1921.

ليس الرأسماليون هم من انقلب على خروشتشوف في العام 1964. العسكر هم من قام بالإنقلاب إثر إعلان خروشتشوف عزمه على تخفيض النفقات العسكرية. بعد رحيل القائد البولشفي القوي جوزيف ستالين في آذار مارس 1953 انتقلت صناعة القرار الوطني من قيادة الحزب إلى قيادة العسكر في مجمع الصناعات العسكرية. قام العسكر بانقلاب من وراء الستار عام 1954 وأزاحوا جيورجي مالنكوف الذي طالب بقوة تخفيض النفقات العسكرية وأتوا بخروشتشوف الذي وافق على زيادتها. وقاموا بانقلاب آخر مكشوف عام 1957 بقيادة نشطة من المارشال جوكوف في مواجهة محاولة كتلة مالنكوف استعادة القيادة وتم طرد جميع البلاشفة من القيادة. وقاموا مرة ثالثة بانقلاب مفضوح على خروشتشوف هذه المرة عام 64 للأسباب التي ذكرنا.

الشرائح التي وقفت بقوة ضد الحزب والعبور الإشتراكي هي شرائح من الطبقة الوسطى التي تعارض نمط الإنتاج الرأسمالي بقدر ما تعارض العبور الإشتراكي وهي تخصيصاً طبقة الفلاحين من جهة والعسكرتاريا من جهة أخرى. نستذكر في هذا السياق انحراف نيقولاي بوخارين ورفيقه رئيس الوزارة أليكسي ريكوف دفاعاً عن نمط الإنتاج الفلاحي وكيف نظم الفلاحون في الأعوام 29 ـ 1932 عصياناً ضد السلطة وأحرقوا حيواناتهم ومخزونهم من الحبوب مستهدفين تجويع الشعب وتقويض السلطة. نستذكر أيضاً المناقشة العامة الحادة في قيادة الحزب والدولة بمشاركة ستالين في العام 1951 حول مسألة إلغاء طبقة الفلاحين الكولخوزيين بجرة قلم، وهو ما طالبت به غالبية القيادة وعارضه ستالين. لقد عانت الدولة كثيراً من عدم إيفاء الفلاحين بتسديد حصص الدولة من إنتاجهم الأمر الذي دفع بخروشتشوف عام 57 إلى وضع خطة quot; إصلاح الأراضي البكر والبور quot; وهي خطة تثير السخرية والضحك في آن كما شرحها خروشتشوف نفسه في مذكراته، وتعارض خطة الحزب التي وضعها ستالين القاضية بإذابة طبقة الفلاحين خلال سنوات قليلة بينما زادت خطة خروشتشوف من سعة طبقة الفلاحين بحدود مائتي ألف فلاح، وقد عاد إلى شعار بوخارين بعد ثلاثين عاماً من التطبيق الإشتراكي لينادي quot; أيها الفلاحون إغتنوا بأنفسكم ! quot;. لقد انحرف خروشتشوف ذات الإنحراف الذي انحرفه بوخارين في الثلاثينيات. لقد وصف فياتشسلاف مولوتوف خروشتشوف بأنه إبن بوخارين بالمعمودية.

أما عن العسكرتاريا فإننا نستذكر هنا محاولة إنقلاب قائد الجيش الماريشال ميخائيل توخاتشيفسكي عام 1937 الفاشلة بسبب معارضة ستالين لزيادة الإنفاق العسكري وهي المحاولة التي ضعضعت كيان القوات المسلحة وتسببت بخسائر هائلة للقوات المسلحة في المواجهة الأولى للعدوان الهتلري، ولعلها كانت الدافع الأقوى لهتلر لنقض ميثاق عدم الإعتداء وإعلان الحرب على الإتحاد السوفياتي في يونيو حزيران 1941. هذا بالإضافة طبعاً إلى الإنقلابات الثلاث التي سلف ذكرها.

ما نرمي إلى إيضاحه للرفيق قوجمان هو أن العدو الداخلي للبروليتاريا السوفياتية ليس هو الرأسماليين أو العناصر التي كانت ترمي إلى بعث النظام الرأسمالي في روسيا، بل هو الطبقة الوسطى. نمط إنتاج الفلاحين والعسكر هو النمط الفردي الخاص بالطبقة الوسطى وهو النمط الذي يتعارض تماماً مع النمط الرأسمالي. لا الفلاحين ولا العسكر يقبلون باستعادة النظام الرأسمالي. لقد صارعوا قوى جبارة تمثلت بقوى البروليتاريا المتجسدة بالحزب الشيوعي السوفياتي دفاعاً عن نمطهم في الإنتاج وليس النمط الرأسمالي. هكذا هو جوهر الصراع الطبقي.

يقول الرفيق قوجمان.. quot; دكتاتورية البروليتاريا أداة لمنع الطبقة الرأسمالية المطاح بها عن كل محاولاتها لاستعادة سيطرتها السابقة quot;. حقيقة الأمر أن هذا ليس وظيفة دولة دكتاتورية البروليتاريا، ولو كان الأمر كذلك لما اعتبرها كارل ماركس سلطة ضرورية فيما بعد الثورة في البلدان الرأسمالية المتقدمة، كونها الأداة الوحيدة الكفيلة بإنجاز الثورة الإشتراكية. وظيفة دكتاتورية البروليتاريا هي إلغاء كل أنماط الإنتاج البورجوازية الأخرى غير النمط البروليتاري أو الأحرى المجتمعي ، بالإضافة إلى تطهير المجتمع من كل ما علق به من قاذورات خلال تاريخه الطبقي الطويل.

قد يتبادر إلى ذهن البعض أن طبقة البروليتاريا التي كانت في روسيا القيصرية قد قامت بالثورة الإشتراكية دون أن تحدث عملية نفي النفي وبقيت طبقة البروليتاريا هي ذاتها في quot; النظام quot; الإشتراكي وهو ما يبرز في الصورة التي يقدمها الرفيق قوجمان. ثمة خطآن جسيمان في مثل هذه الصورة، أولهما وهو الأهم، أن الإشتراكية التي كانت في الإتحاد السوفياتي ليست نظاماً اجتماعياً مستقراً ويعمل تلقائياً إنما هي ثورة في طور الإنجاز، ثورة تقودها طبقة البروليتاريا ولا تكتمل وتنتهي إلا بالعبور إلى الشيوعية. ما يتلو النظام الرأسمالي ليس هو النظام الإشتراكي، وهو ليس نظاماً على الإطلاق، بل هو الشيوعية حيث تزول البروليتاريا نهائياً، كما أن الشيوعية ليست نظاماً أيضاً إذ تحل محل علاقات الإنتاج في المجتمعات الطبقية الرغبة الإنسانية في العمل، وهي الرغبة التي تميّز بها الإنسان على سائر الحيوانات الأخرى، الرغبة التي سماها هيجل  أو التعريف بالذات. أما الخطأ الثاني فهو أن البروليتاريا السوفياتية ليست هي البروليتاريا في زمن القيصر فقد كانت قبل الثورة تعمل عملاً مأجوراً ويتم استنزافها على الدوام لكنها أصبحت بعد الثورة تعمل لذاتها وكما لو أنها هي صاحب العمل الذي يفرض شروط عقد العمل وليس الرأسمالي كما كان في السابق. كانت البروليتاريا تتعرض لقوى القمع الرأسمالية أما بعد الثورة فإن قوى القمع في أيديها وهي التي تفرض شروط الإنتاج المتغيرة باستمرار. السلعة التي تنتجها البروليتاريا الإشتراكية ليست هي ذات السلعة التي كانت تنتجها البروليتاريا قبل الثورة بالرغم من أن قيمتها الإستعمالية هي ذاتها ظاهرياً على الأقل. نقول البروليتاريا الإشتراكية لأن الإشتراكية هي الثورة الدائمة التي تقوم بها البروليتاريا ولا تنتهي الثورة إلا بزوال البروليتاريا. الإشتراكية ليست نظاماً إجتماعياً بل هي مجرد ثورة بروليتارية دائمة تأخذ على عاتقها تحطيم مختلف علاقات الإنتاج القائمة دون أن تستبدلها بعلاقات إنتاج أخرى وهو شرط العبور إلى الشيوعية المتحررة من أية علاقات للإنتاج.

إن أغرب ما قرأت لرفيقنا العزيز حسقيل قوجمان هو قوله.. quot; ان التحول من المجتمع الاشتراكي الى المجتمع الشيوعي هو من الناحية الديالكتيكية يشبه التحولات الاجتماعية السابقة للمجتمع الاشتراكي. فهو نقض المجتمع الاشتراكي quot;. مثل هذه الفكرة الغريبة على النظرية الماركسية تأتت من تصور خاطئ للرفيق قوجمان عن المجتمع الإشتراكي وكأنه نظام إجتماعي مستقر يعمل بميكانزما ذاتية. نعود لنؤكد تصور ماركس لهذا الأمر وهو أن الإشتراكية هي المرحلة الأولى للشيوعية وهي مرحلة عبور تقوده دولة دكتاتورية البروليتاريا حصراً. تقوم الدولة خلال هذا العبور بإلغاء كل نمط بورجوازي للإنتاج وبتعبير لينين quot; محو الطبقات quot; بما في ذلك حل التناقضات المختلفة في المجتمع مثل التناقض بين العمل الذهني والعمل اليدوي، والتناقض بين الريف والمدينة، ويتم كل ذلك خلال العبور إلى الحياة الشيوعية. الإشتراكية إنما هي الثورة الدائمة التي تنجز مختلف الأعمال التمهيدية للشيوعية. فكيف والحالة هذه يمكن اعتبار الإشتراكية نقيضاً للشيوعية؟! دولة البروليتاريا الدكتاتورية الإشتراكية هي الأداة الوحيدة التي تحقق الشيوعية. ليس هناك من ثورة مناقضة للبروليتاريا من أجل الولوج إلى الشيوعية. العكس هو الصحيح إذ لن يتم الوصول إلى الحياة الشيوعية إلا بتوالي الانتصارات لدولة البروليتاريا حتى النهاية، حتى زوالها، وهو ما لم يتم في الإتحاد السوفياتي بعد أن انهزمت طبقة البروليتاريا على أيدي الطبقة الوسطى.

حرص الرفيق قوجمان على ألاّ يعترف بوجود طبقة وسطى في المجتمع ؛ وتأكيدا على ذلك إضطر إلى القول أن.. quot; أغلبية السكان في جميع البلدان الرأسمالية، عدا انجلترا، ليسوا من الطبقة العاملة بل من الفلاحين والمراتب المتوسطة بين الطبقتين quot;. القول يالمراتب المتوسطة يعني عدم الإعتراف بأن مجموع هذه المراتب تشكل طبقة. لكن إذا ما كان تعريف الطبقة هو تلك المجموعات في المجتمع التي تمارس ذات النمط من الإنتاج فإن المراتب التي أشار إليها الرفيق تشكل بالتأكيد طبقة واحدة تمارس ذات النمط من الإنتاج وهو الإنتاج الفردي (Individual Production) مثل موظفي الإدارة والعسكر والمهنيين كالأطباء والمعلمين وكذلك الفلاحين. كل المجتمعات الطبقية عبر التاريخ لم تستغن عن الطبقة الوسطى حيث هي بالإجمال الوسيلة الوحيدة التي تستخدمها الطبقة العليا لاستغلال الطبقة الدنيا. صحيح أن الطبقة الرأسمالية حرصت باستمرار على الحؤول دون نمو الطبقة الوسطى حماية لإنتاجها لكن دورة الإنتاج الرأسمالي ما كانت لتكتمل بغير الخدمات الكثيرة التي تنتجها الطبقة الوسطى بما في ذلك دورة الإنتاج في بريطانيا. كل منتجي الخدمات هم من الطبقة الوسطى بما في ذلك خدمات البنوك وشركات التأمين مضافاً إليهم الفلاحون. عالم اليوم عالم تحكمه الطبقة الوسطى حيث هي في الولايات المتحدة الأميركية تضم حوالي 83% من الشعب الأمريكي وفي بريطانيا حوالي 80% وقريباً من هذه النسبة في دول أوروبا الغربية الرأسمالية سابقاً. ولنا أخيراً أن نتساءل بدهشة.. كيف لرفيقنا العزيز حسقيل قوجمان أن ينكر وجود 80% من الشعب البريطاني؟!!

فـؤاد النمري
www.geocities.com/fuadnimri01