حصدت الحرب العالمية الثانية أكثر من ستين مليوناً من الأرواح البشرية، وتسبب بها الفاشيون القوميون في كل من إيطاليا وألمانيا واليابان ودول المحور الأخرى كما كانوا يطلقون عليها. ومذابح الأرمن راح ضحيتها أكثر من مليون قتيل شنـّها متطرفون قوميون أتراك. وحروب صدام العبثية ضد quot;الفرس المجوس الروافضةquot;، باعتباره حامي البوابة الشرقية للإمبراطورية البدوية وينتمي لواحدة من أفضل أمم الأرض (ورجاءً لا تؤاخذوه فهكذا اعتقد المسكين، وزُرِع في مخه)، طحنت أكثر من مليوني قتيل ناهيك عن مغامراته quot;القوميةquot; الأخرى ضد مواطنيه في شمال العراق.

ومذابح الخمير الحمر، والحرب الأهلية الإسبانية التي قادها الجنرال الفاشي فرانكو، ومذابح الهوتو والتوتسي، والكونغو، والتطهير العرقي في البلقان، والإبادة الجماعية للدارفوريين على أيدي الجنجويد العرب البرابرة، وغيرها الكثير مما لا يمكن حصره في هكذا عجالات، هي بسبب الميول الفاشية والقومية والنزعات العنصرية، وتفضيل قوم على قوم بناء على معايير لا إنسانية مجرمة ووضيعة. فقد اتسم الفكر القومي عموماً بخداع الجماهير وتضليلها واللعب بعواطفها القبلية والإثنية وجرجرتها إلى معارك وحروب مأساوية تحقيقاً لغايات فردية وسلطوية تتعلق وتنطوي على ميول باتجاه الزعامة والنرجسية وجنون العظمة وعبادة الذات( هتلر، موسوليني، صدام، هيروهيتو) أدت في النهاية إلى محارق وهولوكوستات وحروب دموية طاحنة وباهظة التكاليف.

وفي ضوء ما يعيشه العالم المعاصر، والمجتمع المعولم المفتوح الذي أصبح قائماً بمجمله اليوم على اقتصاد المعرفة وتبادل وتلاقح وانسياب المعلومات والأفكار والتقارب وذوبان الفوارق والاختلافات بين الشعوب، وكانت هذه العولمة ثمرة تحولات تراكمية طويلة المدى وانزياحات ثقافية وفكرية ومعرفية إحلالية جذرية وعميقة بدّلت من الطابع والوجه التقليدي للمجتمعات، واتسمت بروح الانفتاح والمرونة والابتعاد عن التشنج والتعصب، وتم لذلك إصدار القوانين والتشريعات العصرية التي تواكب تلك المتغيرات وتعمل على تذويب الفوارق والتمايزات والاختلافات فيما بين شعوب العالم في شماله وجنوبه، شرقه وغربه، نقول في ضوء ذلك يصر أصحاب الفكر القومي على إبداء نزعات التعالي والتمايزات والسمات المختلفة والخصائص والصفات العنصرية والبشرية الذاتية والعرقية الخاصة التي تميـّزهم عن سائر الشعوب والأمم والأقوام. ولقد أدى الانفتاح فيما بين المجتمعات المختلفة إلى عمليات اصطفاء طبيعية فكرية فرضت بموجبها موجة من الأفكار والقيم السلوكية الجديدة، وماتت واندثرت أخرى ولم تعد قابلة للعيش والحياة. وقد أدت حركة الهجرات الكبيرة بين شمال العالم وجنوبه إلى ولادة مجتمعات متعددة متنوعة فسيفسائية الطابع أذابت بعض الخصائص الذاتية للمكونات الاجتماعية المختلفة لتتوافق مع القيم الجديدة، والتخفيف من الغلواء العنصري بغية التأقلم والعيش السلمي في المجتمع الجديد. ونشأ نموذج ما يمكن تسميته بالإنسان المعولم القابل للعيش والتأقلم في أي مجتمع. فهل هناك من ضير لو تنازل الإنسان عن قليل من سماته العرقية أمام الأخوة الإنسانية الأشمل والأعم؟

فالسلوك العنصري الاستفزازي القائم على إبراز الخصائص الذاتية لقوم أو عرق أو إثنية ورفعها والتلويح بها أمام الآخر ينطوي على قدر كبير من الأخطار التفجيرية، هذا إذا علمنا أن أية قومية هي أعلى مراحل القبيلة. والقبيلة حين تصبح كياناً سياسياً تستبدل اسمها بالقومية التي هي التجسيد الحي لما يمكن تسميته بالقبلية السياسية. ويعمل على تأجيج النزعات القومية والفاشية لدي الآخرين ما يفضي إلى تهديد السلم الأهلي للمجتمعات الوطنية ذات الطابع التعددي ونسفها من الداخل. وإذا كانت الحداثة نفسها في الغرب قد باتت في حكم الماضي والموات، وكثير من المجتمعات تعيش اليوم في مراحل ما بعد الحداثة، فأين يمكن أن نصنف اليوم الفكر القومي والسلفي الذي يعيش في مناخات قرون وأزمنة بائدة يحاول القوميون والسلفيون إعادة إحيائه ونبشه من الماضي والتراث وتقديمه كحلول سحرية لمجرد تسلحه فقط برمزيات أسطورية وطواطم تاريخية لا تقدم ولا تؤخر، ولا يمكن التعويل عليها في أية عملية تغيير حقيقية تستهدف نشل هذه المجتمعات وإيقاظها من سباتها التاريخي المزمن، ودفعها للنهوض من كبوتها الحضارية التي أطالت المكوث والوجوم.

لم يكن من المستغرب أو مصادفة، البتة، أن يأتي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10/12/ 1948، بـُعيد الحرب الكونية الثانية مباشرة والتي تسببت فيها النزعات والأحلام القومية، وذلك للحد من نوازع الشر والميول الفاشية والتمييز العنصري التي حملها، ويحمل، بذورها الفكر القومي، والتي طبعت الحياة والمجتمعات البشرية في مراحلها الفوضوية والأبوية وأدت إلى حروب طاحنة ومهلكة ومجازر وعمليات إبادة جماعية وتطهير عرقي راح ضحيتها عشرات الملايين من الضحايا الذين كانوا وقود التطلعات والأحلام القومية والعنصرية للفاشيست القوميين. كما أنه ليس من المستغرب، أيضاً، أن بعضاً من الدول القومية، لم تلتزم، حتى اليوم، بما جاء في هذا الإعلان، لأنه ينسف أسس وجودها وبقائها.

وعلى أنقاض تلك المراحل السوداء في التاريخ البشري، باتت تترسخ وتترسب اليوم، وبشكل ممنهج، قيم ومبادئ مستحدثة تنبني على تقديس واحترام إنسانية الإنسان بشكل عام واعتباره قيمة مطلقة ومجردة بذاتها وبغض النظر عن العرق، أو اللون، والجنس وهذا ما يتناقض كلياً مع جوهر الفكر القومي القائم على تفضيل قوم وعرق ولون بعينه. ولذا يعتبر الفكر القومي اليوم وبشكل عام في ذمة التاريخ وفي حكم الموات وييبدو القوميون كأهل الكهف وكمستحاثات بشرية طالعة من قيعان التاريخ وكائنات شائخة فاتها قطار العولمة السريع والتآخي الإنساني الرفيع. وفي عالم اليوم، مثلاً، يعتبر نموذج الاتحاد الأوروبي للكيان السياسي الإنساني العصري اللا قومي والقائم كلياً على احترام إنسانية الإنسان المطلقة غير المؤطرة بمحددات الماضي التقليدية، وتقديم المصالح الاقتصادية والازدهار والرفاه وسيادة القانون الإنساني والعلماني الوضعي على أي شيء آخر، هو الأنموذج الأنسب والأنجح والذي فرض نفسه بقوة وأصبح منافساً لقوى عظمى.

ومادام هناك مجال وسماح وتهاون من المجتمع الإنساني المعولم مع نشر وتغذية الفكر القومي ونزعاته، فهناك إمكانية كبيرة، حتى اليوم، لحدوث صدامات ونزاعات ونشوء حروب وصراعات بين المكونات العرقية المختلفة في المجتمع الواحد تنجم عنها عواقب وخيمة. فهل آن الأوان للمنظمات الحقوقية الدولية والهيئات الدولية ذات الصلة لتجريم الفكر القومي باعتباره خارجاً عن القانون، ومشروعاً لحروب مستقبلية ومجتمعية، وعائقاً أمام الوصول لحالة من التوحد والاندماج القائمة على أسس إنسانية مثلى تنتفي منها كافة أشكال التمييز وتنعدم منها كافة الاستفزازات والدعوات العنصرية القومية؟ ومتى يسلـّم القوميون بهزيمتهم الفكرية، ويرفعون الرايات البيضاء، ويعترفون بالفشل، ويعتذرون، بالتالي، عن كافة الحروب والتصفيات التي سببوها، وأخذت طابعاً عرقياً وعنصرياً حاداً، ويعلنون التوبة، والرجوع عن خطاياهم وليس عن أخطائهم، مع التعهد بعدم تكرارها ثانية لأن في ذلك خطر، خطر حقيقي على بقاء الجنس البشري.

وبإحساس ملموس بـquot;التقادمquot; الفكري وفقدان الصلاحية وانتهاء الدور التاريخي، وبشعور قوي بالحرج الشديد من الطرح العنصري القومي الفاشي ولإعادة إلباسه أثواباً عصرية وحداثية، تجري بين الفينة والأخرى محاولات لتجديد ما يسمى بالفكر القومي من قبل فلول القوميين المهزومين ( هذا إذا سلمنا طبعاً، وجدلاً، بوجود أي نوع من الفكر الراقي في الطرح القومي المبني على تميز وتفرد قوم بعينهم). ونصيحتنا المجانية الأخوية للقوميين في كل مكان من العالم، بأن محاولتهم يائسة ولن يكتب لها التوفيق بحمد الله. وعليهم أن يندمجوا مع الشعوب الأخرى، فقط، بناء على أسس الأخوة الإنسانية السامية مع كافة الشعوب والأعراق، وينسوا قوميتهم لوهلة، وأن تكون أطروحاتهم وتحركاتهم وفق تلك المنظورات فقد انتهى عصر القوميات تماماً. ولا يجب أن يعتقدوا، البتة، بأن على رؤوسهم quot;ريشةquot; تميزهم عن باقي شعوب العالم، لأنهم فقط من نسل أولئك الهمج البرابرة الأعراب الغزاة الذين اجتاحوا الحضارات القديمة وعبثوا بها وخـرّبوها. وحرّي بهم، بدلاً من ذلك، أن يعملوا على التنصل والتبرؤ من، وتجريم الفكر القومي وليس تجديده أو ترميمه وترقيعه من هنا وهناك، إن كانوا يرومون، فعلاً، وجه الحقيقة، والتاريخ، والله.

نضال نعيسة
[email protected]