شاهدت يوم الجمعة المصادف 30/5/2008 ، ولأول مرة ، خطبة الجمعة التي ألقاها سماحة الشيخ جلال الدين الصغير العضو القيادي البارز في المجلس الأعلى الإسلامي وإمام جامع براثا ، ونقلتها قناة الفرات الفضائية التابعة لتنظيمه السياسي الذي هو نائب عنه في البرلمان ضمن قائمة الإئتلاف العراقي الموحد. وقد أثلج قلبي ما سمعته من هذا المسؤول الذي يريد أن يكون في احتكاك دائم مع الجمهور وقد أعجبني وزادت مكانته في نفسي وهو يعتذر للشعب العراقي لأنه لم يتحدث بشكل مبكر وبصراحة كمسؤول أمام شعب انتخبه، قبل يوم خطبة الجمعة عن كارثة يعاني منها الشعب العراقي منذ سنوات طويلة ، منذ عهد النظام الدكتاتوري المقبور إلى يوم الناس هذا وبضمنها بالطبع السنوات الخمس العجاف التي أعقبت سقوط النظام الصدامي.


إن قضية الكهرباء شائكة ومعقدة وتقنية وهي عصب الحياة الحديثة ويقاس بها مدى تطور البلد أو تخلفه، مدى انتعاش اقتصاده أو ركوده. فكل شيء تقريباً يعمل بالكهرباء اليوم وبدونها تشل الحياة فالحداد والنجار والسمكري والكهربائي وصاحب المطعم والمعامل والمستشفيات والأطباء ووسائل الإعلام والاتصالات والمختبرات والجامعات ووووو الخ لايمكنها أن تعمل أو تنتج بشكل صحيح بدون الكهرباء. وقد تناول الشيخ الصغير هذه المسألة بكل صراحة وشفافية ونحن على أبواب صيف لاهب كباقي مواسم الصيف التي مضت وعانى العراقيون جحيمها في بيوتهم أو أماكن عملهم ، بل أستطيع القول أن موسم الحر بدأ مبكراً هذا العام منذ شهر آذار الماضي عندما كنت في بغداد وتحملت أولى بشائر الحر القاتل. والعراقيون يتساءلون لماذا هذه الأزمة الدائمة والمستعصية على الحل؟ هل من المعقول أن بلداً متقدماً ومتطوراً جداً كالولايات المتحدة الأمريكية وبلداً كالعراق بكل إمكانياته المادية الضخمة وكوادره العليا عاجزون أو غير قادرون على وضع حد لهذه المحنة ؟ الجواب الأولي هو الفساد المستشري داخل أوصال وزارة الكهرباء وفي عروق مسئوليها من الوزير إلى أصغر موظف فيها، والإهمال واللامبالاة وانعدام الكفاءات وغياب الإرادة الحقيقية الصادقة ، حيث أن الوزارة لاتقدم للمواطنين سوى الوعود الكاذبة والمشاريع الوهمية وتعلق قصورها على شماعة الإرهاب والوضع الأمني المتردي في السنوات الماضية ، وعدم توفر التمويل اللازم والوقود اللازم اليوم، وغير ذلك من المبررات، وكلها ذرائع واهية وأعذار غير حقيقية ومبررات كاذبة أو مبالغ فيها.


فعندما يدعي وزير الكهرباء المحترم أنه لم يستلم الأموال اللازمة لتحقيق وعوده الكاذبة التي تبجح بها في السابق يرد عليه وزير المالية أن كلام وزير الكهرباء ليس صحيح وأن وزارة المالية سلمت حصة وزارة الكهرباء من الميزانية والأموال التي طلبتها لعملها ، فلماذا ، ولمصلحة من ، مثل هذا التضليل والمراوغة والتهرب من المسؤولية والتصرفات اللامسؤولة؟


ألا يتعظ وزير الكهرباء الحالي بسلفه أيهم السامرائي الذي تطارده الانتربول ومطلوب للعدالة العراقية بتهم السرقة والاختلاس والتلاعب بأموال الدولة وتوقيع صفقات وعقود مغشوشة وناقصة أهدرت المال العام ولم تحقق للمواطن أي شيء،؟ والمعروف أن الوزير السيء الصيت السيد السامرائي كان يوقع عقوداً لشراء محطات توليد الطاقة الكهربائية لاتتجاوز محتوياتها الصفحتين فقط ولاتتضمن أية شروط أو تفاصيل تقنية وملزمة للطرف المورد، بينما المتعارف عليه أن العقد يجب أن تضمن كل شيء حتى عدد ونوعية البراغي التي تربط الماكنات ناهيك عن التفاصيل التقنية الأخرى والضمانات والكفالات والصيانة وقطع الغيار وغير ذلك، والهدف من التسرع والتغاضي عن التفاصيل هو الحصول على أقصى ما يمكنه من العمولات والقومسيونات، هو وعصابته المتواطئة معه ،من الشركات الأجنبية، دون أن ينعكس ذلك إيجابياً وبشكل ملموس على المواطنين وعلى البنية التحتية لشبكات توليد الطاقة الكهربائية في البلاد والتي تعاني من تدهور مريع، وكانت النتيجة عشرات المحطات الجديد التي لاتعمل لعدم توفر باقي المستلزمات التقنية التي تحتاجها وما تعانيه من نقص في قطع أساسية لتشغيلها كما أخبرني أحد المدراء.


والأنكى من ذلك أن وزير الكهرباء الحالي لايعمل ولايسمح لأحد أن يعمل أي شيء يخفف من معاناة المواطنين المساكين ودفع عجلة إنتاج الطاقة الكهربائية إلى الأمام ولو نسبياً وفي مناطق محددة. فقد ذكر الشيخ جلال الدين الصغير جزاه الله خيراً مثالاً أدمى قلبي وفجر الغضب في أعماقي، لو كان صحيحاً ما نقله الشيخ الصغير،لاستحق هذا الوزير أن يقدم للمحاكمة والحساب العسير بعد إقالته من منصبه على الفور وسجنه مدى الحياة في زنزانة ليس فيها ماء ولا كهرباء كي يذوق ما سببه من أذى لهذا الشعب الأبي. ذكر الشيخ في سياق خطبته أن المملكة العربية السعودية تبرعت مشكورة بمبلغ 500 مليون دولار لتطوير قطاع الكهرباء في العراق ، وصار المسؤول السعودي المكلف بمنح المبلغ يدور على المسؤولين عن هذا القطاع لكي يتصرفوا بهذا المبلغ وفق الضوابط المتبعة . لكن وزارة الكهرباء كانت تغط في سبات عميق وكأن الأمر لايعنيها لامن قريب ولا من بعيد. . عندها اضطر هذا المسؤول الاتصال بالشيخ جلال الدين الصغير وأطلعه على تفاصيل القضية. وقال للشيخ بالحرف الواحد:quot; ألا تريدون الكهرباء؟ فرد عليه الشيخ :quot; ماذا تقول يارجل بالطبع نحن بأمس الحاجة إلى الكهرباء المفقودة quot; فرد عليه المسؤول المكلف بالمبلغ السعودي المرصود لتطوير شبكة الكهرباء العراقية ،إذاً لماذا لاتأخذوا المبلغ وتتصرفوا به لتحسين وضع الكهرباء المتردي عندكم؟ فما كان من الشيخ الصغير إلا أن اتصل هاتفياً بمعالي وزير الكهرباء المحترم وأطلعه على حيثيات الموضوع ورتب معه تحديد موعد لمقابلة المسؤول السعودي واعتقد الشيخ الصغير أن المسألة انتهت عند هذا الحد. مرت الشهور ولم يحدث شيء وعاد المسؤول السعودي المكلف من قبل دولته إلى الشيخ الصغير وهو يشكو الإهمال وعدم الاهتمام به من قبل وزارة الكهرباء. فعاود الشيخ الصغير الاتصال بوزير الكهرباء المحترم ليستفسر عما جرى . وكان جواب الوزير أن المبلغ السعودي المخصص للكهرباء عبارة عن قرض وعقب الوزير كأنه يريد أن يفحم الشيخ ويلقي عليه الحجةquot; نحن لسنا بحاجة إلى قروضquot; فرد عليه سماحة الشيخ الصغير بحسم أن المبلغ لم يكن قرضاً بل منحة وهو متأكد من ذلك ورآه بعينه. فتصوروا وزيراً لايميز بين القرض والمنحة وإلا ماتفسير ذلك إذا لم يكن سوء النية المقصود؟ وعندما استدعى مجلس النواب وزير الكهرباء المحترم لاستجوابه عن أزمة الكهرباء الطاحنة وعاد الوزير إلى وزارته سأله بعض المقربين منه والمدراء العامين في الوزارة كيف واجهت النواب وبماذا أجبت على تساؤلاتهم، رد الوزير عليهم باستهزاء وسخرية أن أعضاء مجلس النواب مجموعة من الجهلة ضحكت عليهم ببعض الكلمات والمصطلحات التقنية. هذا غيض من فيض ، فالدولة كلها مسئولة ويجب أن تحاسب على غياب التيار الكهربائي وانقطاعه لساعات طويلة ولأيام عديدة في أحيان كثيرة وفي كل مكان من العراق عدا مساكن ودوائر السادة المسؤولين الذين لايغيب عنهم الكهرباء ثانية واحدة وكل واحد منهم يشغل ست أو ثمانية مكيفات في بيته ليل نهار وقد شاهدت ذلك بنفسي في المنطقة الرئاسية وهم لايتقون الله في المساكين والمحرومين من أبناء الشعب.
والمثال الثاني الذي ذكره سماحة الشيخ جلال الدين الصغير له دلالة كذلك ، وبتعلق بتبرع دولة جارة للعراق هي إيران بمحطة كهرباء لمحافظة النجف الأشرف وبقيت تنتظر مبادرة من الحكومة العراقية ومن وزارة الكهرباء بشكل خاص لإتمام العملية، لكنها لم تتلق أي رد ولم تلق أي إذن صاغية، وعندما استفسرالشيخ الصغير من إيران عن سبب تأخير إيصال محطة الكهرباء التي تبرعت بها أجابت طهران أن وزارة الكهرباء العراقية لم توفر لها قطعة أرض لنصب المحطة فوقها.ولم يكلف وزير الكهرباء أو وزارته عناء البحث عن أرض لنصب وتشغيل هذه المحطة وترك الأمر مهملاً لشهور طويلة إلى أن بادرت محافظة النجف بنفسها بشراء أرض وتقديمها لنصب المحطة فوقها كما ذكر الشيخ فماذا ننتظر من أمثال هذا الوزير المتقاعس؟.


المعروف أن لكل مشكلة حل ولمشكلة الكهرباء عدة حلول . لو كنت وزيراً للكهرباء وأميناً على مصالح البلد ومتحسساً بمعاناة الشعب ومتفهماً لاحتياجاته اليومية ، لتصرفت على الفور ومنذ اليوم الأول لتسلمي مهمة وأمانة هذه الوزارة للبحث عن الحلول اللازمة بأسرع وقت مهما كلف الأمر من جهد ومال ، ولاقترحت عدة مقترحات منها المؤقتة على المدى القصير والفوري ومنها الاستراتيجية طويلة الأمد وتحتاج للكثير من الوقت والجهد والمال لكنها تعطي ثمارها الأكيدة بعد أشهر أو سنوات قليلة. هناك أولاً مقترح الوحدات والتجمعات السكنية القريبة من بعضها والمشتركة ببعض المزايا الجغرافية حيث يمكن نصب محطات توليد كهرباء صغيرة خاصة بتلك الوحدات السكنية ومعها محطات احتياطية وتكليف القطاع الخاص بإدارتها والإشراف عليها ويقتصر دول الدولة على المراقبة والإشراف وتسهيل المهمات وتوفير الوقود الرخيص وقطع الغيار لإدامة الصيانة وفرض الغرامات العالية جداً على المخالفين أو المتلاعبين بحقوق الناس . الكل يعرف أن محطات توليد الطاقة الكهربائية تعمل إما على الهواء وطاقة الرياح quot; الأوليوناتquot; أو المراوح الضخمة والعالية التي تستغل الرياح وتحولها إلى طاقة كهربائية كما هو متبع في دول شمال أوروبا والدول الاسكندنافية وهولندا وهي وسيلة تحمي وتحافظ على البيئة ولاتلوثها. وهناك محطات تعمل بالمياه واستغلال الشلالات والسدود لتوليد الطاقة الكهربائية . وهناك محطات تعمل بالغاز وأخرى بالوقود كالكيروزين والنفط الأبيض والكازوال والبنزين وغيره من أنواع الوقود وهي متوفرة في العراق باعتباره بلد نفطي كبير، أو يمكن توفيرها عن طريق استيرادها في الوقت الحاضر. وهناك محطات توليد الطاقة الكهربائية تعمل بالوقود النووي أي توجد مفاعلات نووية سلمية تقتصر في عملها على توليد الطاقة الكهربائية الرخيصة والمضمونة والوفيرة لكنها تولد نفايات نووية يمكن طمرها في الصحراء الشاسعة تفادياً لضررها.وهناك بالطبع الطاقة الشمسية التي يمكن تحويلها إلى طاقة كهربائية شبه مجانية لأن الشمس في العراق متوفرة والحمد لله صيفاً وشتاءاً فلماذا لايتم استغلالها والأمر ليس طوباوياً أو مستحيلاً فلقد درست هذه الإمكانية دراسة معمقة ووضعت دراسات جدوى لهذا الغرض ويكفي نصب أجهزة مختلفة الأحجام ذات مرايا خاصة تستقبل وتختزن الطاقة الشمسية ثم تحولها إلى طاقة كهربائية حسب الطلب والحاجة. وهذه الأجهزة متوفرة بأحجام واسعار مختلفة ومتننوعة منها مايكفي لبيت واحد تثبت فوق أسطح المنازل أو وسط مجمع سكني محدد أو فوق أسطح بنايات سكنية ومنها محطات ضخمة لتجهيز مدن كاملة بالتيار الكهربائي . المشكلة تكمن في ثمنها المرتفع الذي يدفع مرة واحدة عند شرائها، أما المادة الأولية اللازمة لتشغيلها فهي مجانية وهبة من الله للبشر ، والصيانة ليست عسيرة أو معقدة. فلماذا لم يفكر بها أحد أو يبادر إلى تطبيقها ولو على سبيل المثال وتقديم عينات عملية ملموسة على أرض الواقع؟


المشكلة أن العاملين في وزارة الكهرباء لايشعرون بمعاناة المواطنين بل أن الكثير منهم يستغلها ويبتزون المواطنين في عمليات القطع والتوزيع غير العادل للتيار على هذه المنطقة دون تلك لأنها تدفع أكثر . وهم يتمتعون بالكهرباء دون باقي المواطنين حيث لاتنقطع الكهرباء عن بيوتهم ولا ثانية واحدة وتقدم لهم مجاناً وهذه معلومة أعرفها جيداً لأنني عندما كنت أزور أهلي في مسقط رأسي أطلب منهم اصطحابي وقت الظهيرة إلى بيت صهري أو نسيبي الذي يعمل في دائرة الكهرباء في المحافظة لكي اتمتع ببعض البرودة من مكيف الهواء الذي يعمل عنده بلا انقطاع وأشاهد برامج التلفزيون دون انقطاع وأفتح الانترنيت دون انقطاع. ونفس الشيء أقوم به في بغداد حيث يستضيفني أحد أقاربي المدير في وزارة الكهرباء لأن بيته لايخلو من هذه الطاقة التي لا أتحمل انقطاعها أو غيابها لأن ذلك يدمر أعصابي. فلايمكنني تحمل الحياة في العراق لاسيما في الصيف بدون الكهرباء فكيف يتحمل هذا الشعب الصابر هذه الكارثة منذ سنوات لاتعد ولاتحصى؟.


أتذكر خبراً إعلامياً قبل بضعة أشهر بهذا الصدد قرأته في صحيفة لومند الفرنسية عندما تعرضت دولة جنوب أفريقيا لشحة في التيار الكهربائي وأصابها نقص حاد في الطاقة الكهربائية التي تحرك عجلة الاقتصاد والانتاج ، استنجدت دولة جنوب أفريقيا بفرنسا الرائدة في مجال توليد الطاقة الكهربائية بالمفاعلات النووية. فما كان من رئيس جمهورية فرنسا نيكولا ساركوزي إلا أن طار على وجه السرعة بصحبة جيش من التقنيين والأخصائيين من شركة الكهرباء الوطنية للقيام بما يلزم لتوفير الكهرباء لجنوب أفريقيا في غضون بضعة أشهر تعد على أصابع اليد والواحدة. وليس هناك سر في هذا إذ باشرت فرنسا في نصب بضعة مفاعلات نووية سلمية ومدنية مهمتها توفير الطاقة الكهربائية الكافية وبسعر معقول وهذا الأمر ليس مستحيلاً تحقيقه في العراق شرط توفر النية الصادقة والإرادة الحقيقية والإمكانات المالية من خلال إبرام عقود مماثلة تخضع لإشراف ومراقبة لجنة الطاقة الذرية والدولة المزودة أي فرنسا . فلو كنت وزيراً للكهرباء لطرت فوراً إلى باريس وقابلت القائمين على قطاع الطاقة الكهربائية فيها ولن أغادر باريس قبل التوقيع على عقود تجهيز العراق بالكهرباء إلى أمد غير محدود خاصة وأن فرنسا وعلى لسان مسؤوليها وعلى رأسهم الرئيس ساركوزي نفسه ووزير خارجيته بيرنارد كوشنير ، الذي زار العراق للمرة الثانية قبل أيام ، مستعدة لمساعدة العراق في إعادة البناء والإعمار وبناء وترميم البنى التحتية وتطوير العلاقات الثنائية بين البلدين في كافة المجالات. وهو نداء مفتوح أوجهه للسيد رئيس الوزراء الأستاذ نوري المالكي ، وللسادة أعضاء مجلس النواب ورئيسه وللسادة أعضاء مجلس الرئاسة وفخامة رئيس الجمهورية الأستاذ جلال طلباني أن ينقذوا الشعب العراقي وإخراج العراق مرة وإلى الأبد من أزمة الكهرباء القاتلة وليعلم الجميع أن صبر العراقيين مهما طال فسوف ينفذ وعندها ستحل الكارثة.

د. جواد بشارة

باريس
[email protected]