في الفصل الحادي عشر من ميثاق الأمم المتحدة الصادر عام 1946 وفي المادتين 73 و76 أشير إلى مفهوم الحكم الذاتي...حيث تم الزام الدول الأعضاء من الذين يضطلعون الى ادارة مثل هكذا انظمة في دولهم بانماء اقاليمهم لكي تنال شعوبها القومية حقوقها على كل المستويات الثقافية والسياسية والإجتماعية وبشكل شفاف.


كثيرون من قادتنا يصرحون هنا وهناك وكثيرون يعقدون المؤتمرات والندوات وكثيرون يتكلمون عبر الفضائيات ووساءل الإعلام الأخرى عن الحكم الذاتي للكلدان والسريان والأشوريين، فمنهم من يعتبر ان نجاح نظام الحكم الذاتي او الفدرالي هو من يرتبط بالحكومة المركزية ومنهم من اعتبر ان نجاحه يكمن في الإرتباط بحكومة الإقليم، وهناك من شذ عن قاعدة الإرتباط بالحكومات واكتفى بعدم تأييد اي من المشروعين والإحتكام الى الشعب لتقرير ذلك، لكن القاسم المشترك الذي يجمعهم هو سعييهم الحثيث جميعا للخلاص من البؤس الذي يعيشه شعبهم المسكين، لكني انا مثلهم وحالي مثل حالهم ابحث ايضا عن خلاص لشعبي المُقتل والمُهجر، فالعراق وشعبه الذي تعرض الى ابشع هجمة بربرية نالت من شعبه ما نالت فقتل من قتل من الأبرياء والكفاءات والكهنة وهاجر من هاجر من الطيبون ذو العقول النيرة بل واساءت هذه الهجمة الى كل قيمه الإنسانية والتاريخية والحظارية بحيث اصبح العراقي البرئ ومن جميع المكونات هدفا للإرهابيين والطائفيين والخارجين عن القانون، فاختار الهرب يبحث عن ملاذ آمن ليس الى الخارج فقط انما في داخل وطنه، فبعد دكتاتورية نظام صدام الطاغي واخطائه الجسيمة فوجئ العراقيون بنظام دكتاتوري من شكل آخر وغريب
التوجهات وبنمط جديد، ترى اليس من حقنا ان نحزن على ما جرى لوطننا وشعبنا، اليس لنا الحق ان نقترح ما يجب عمله لإستعادة شعب العراق أمنه واستقراره، ثم اليس الإعتراف بالخطأ quot;فضيلةquot; كما يقولون فلماذا لا نؤشر مكمن الخطأ لكي يسعى الخيرون تصحيحه، اليس من يحكمون العراق بعد غزوه عام 2003 بحاجة الى اعادة نظر في طريقة ادارتهم للدولة والشعب، فالعراق هذا البلد المتنوع الأديان والقوميات ما زال تحت الإحتلال وما زال يبحث عن الحكم الديمقراطي الذي سيعيد اليه سيادته، ان انجاح اي مشروع لحماية شعب العراق بكل مكوناته القومية والطائفية لن يتحقق الا بتحقق الحكم الديمقراطي الحقيقي، فشعب العراق في حالة هلع واضطراب، وهو بحاجة الى وقت طويل لكي يستوعب مفهوم الديمقراطية والتي من شأنها ستقوده الى استيعاب مفهوم الحكم الذاتي او الفدرالية، ولأجل تسليط الضوء عن ماهية الحكم الذاتي ساشير الى بعض الامور والتي اعتقد انها مفتاح لإنجاح اي مشروع، فكل اضافة هنا او نقدا هناك وكل تثمين هنا او تأييدا هناك انما هو من اجل صالح شعب العراق، فالمحصلة هي الغاية والغاية هي العراق المستقل والمزدهر.

فالحكم الذاتي كما اقره القانون الدولي هو تمتع اقلية قومية معينة بحقوق ثقافية و سياسية واجتماعية في إطار الدولة الواحدة حيث يكون للمناطق و الأقاليم الذي تسكنه أغلبية من تلك القومية مؤسسات رسمية لإدارة هذه المناطق من ناحية الخدمات التربوية والثقافية والسياسية، وكمثال على ذلك ما حصل في العراق عام 1970 حيث تم اقرار قانون الحكم الذاتي للكرد استنادا للدستور العراقي الصادر في العام نفسه،غير أن الواقع العملي لم يكن لصالح تحقيق ذلك حيث لم يمض إلا سنوات معدودة حتى انهار الحكم الذاتي، والسبب كما هو معلوم السياسات الخاطئة للنظام آنذاك، فلو كان هناك اهتمام بوضع الأقليات من قبل النظام آنذاك، لتحقق الحكم الذاتي ليس للكرد فقط انما لباقي المكونات القومية ولتحققت الوحدة الوطنية العراقية والتي يتمناه كل العراقيون حتى هذا اليوم.

أما فيما يخص النظام الفدرالي وهي فرصة للإشارة اليه، فانه يحقق التوازن بين السلطة المركزية والسلطات المحلية وهذا أمر صحيح وطبيعي، نعم أن الفدرالية هي افضل وسيلة في إدارة الدولة التي فيها اكثر من قومية أو طائفة مذهبية خاصة إذا كانت الحريات والحقوق معطلة كليا كما هو حاصل في الدولة العراقية الحالية، ففي النظام الفدرالي والمتحقق عبر آلية شرعية ودستورية هناك احترام لكل القوميات ولكل المذاهب الدينية كما ان هناك احترام لكل الاحزاب السياسية حيث في النظام الفدرالي لن يكون هناك دور للحاكم الاوحد او للسلطة التي تتبنى موقفا طائفيا منفردا كما كان قد حصل في زمن صدام وكما يحصل اليوم، انما سيكون لحكم المؤسسات الدستورية والقانونيه الدور الفاعل للحفاظ على امن الوطن وسلامة مواطنيه، كما سيجنب الدولة أهواء و أخطاء القائد الأوحد او السلطة الطائفية المنفردة، بل ولا تسمح لهم بجلب الماسي و الحروب و الدمار والطائفية على شعوبهم، وحكم نظام صدام للعراق وحكومة ما بعده خير شاهد على ذلك.

ولأني ما زلت اتكلم عن الفدرالية اشير الى ما جرى في العراق، ففي 1992 وبالرغم من اعلان الكرد قيام اقليم كردستان والذي لم يتحقق عبر استفتاء شعبي عراقي ودستوري، لكنه تحقق واثبت صلاحيته في وطن تسوده صراعات طائفية واقليمية ودولية كالعراق واستمر الحال الى ان اقدمت اميركا على غزو العراق عام 2003 حيث ثبت اقليم كردستان واصبح واقعا على الأرض واصبح للكرد حق في إدارة إقليم كردستان إلى جانب حقهم في المشاركة في السلطة المركزية في الدولة، ولا ننكر ما تحقق في الأقليم من استقرار وامن استقطب اهتمام العالم المتمدن، لكني اعتقد بل كنت اتمنى لو كان قد تحقق ذلك في ظل حكم ديمقراطي حقيقي وعبر مؤسسات دستورية وعن طريق استفتاء شعبي حقيقي ايضا لكان قد تسنى لشعوب القوميات الأخرى وعبر السياق نفسه الحصول على حقها في حكمها الذاتي بشكل مشروع شفاف يرضي كل شعب العراق ويسكت كل المشككين.


ان مطلب الفدرالية او الحكم الذاتي حق مشروع، لكني احذر من تحويله الى حق لتقرير المصير والذي يعني الإنفصال او الإستقلال وهذا وكما اعتقد غير موجود في تفكير القيادة الكردية ولا في تفكير القيادات السياسية للكلدان والسريان والأشوريين على الأقل في الوقت الحاضر وذلك بسبب الظروف الصعبة التي يمر بها العراق والمنطقة من تدخلات اجنبية، كما ان غالبية شعب العراق أصلا يكره فكرة التقسيم الطائفي والقومي ويعتبر الفدرالية دخيلة على طريقة معيشته الوطنية، انه تواق فقط الى الحرية وبناء علاقات انسانية متحظرة سواء مع ابناء شعبه ومن مختلف الأنتماءات، او مع شعوب العالم وخاصة شعوب دول جواره.

عودة الى مطلب الحكم الذاتي، انني شخصيا وكما اشاهد حال العراق اليوم فاني لست متفائلا ولا مشجعا لمن يطالب بالحكم الذاتي اليوم وخاصة ذلك المطلب الذي يقتصرعلى منطقة سهل نينوى فقط، ويهمل مناطق شعبنا التأريخية الأخرى، إلاّ اني وفي نفس الوقت لا ارفض الحكم الذاتي خاصة اذا كان في زمن عراق ذات سيادة مطلقة على ارضه وثروته وخال من سلطة الطائفية والتحزب الضيق، انني مع الحكم الذاتي او الفدرالية ولكن في ظل حكم مركزي شفاف وديمقراطي علماني، لكني اؤكد ايضا بل واجزم بان من يحكم العراق اليوم لا يبدو انه باتجاه الديمقراطية والوحدة الوطنية الحقيقية وتحقيق مصالح القوميات والطوائف، فلو كان كذلك لما تعثرت المصالحة الوطنية ولما حدث ما حدث من هدر للدماء وتهجير وارهاب وطائفية معلنة، كما اني اعتقد بان هناك بعض من الحكام وعلى كل مساحة العراق قد ورثوا قيماً تجعلهم يتمسكون بالدور السلطوي والانفراد في الحكم و ممارسة الاضطهاد القومي والمذهبي وإهدار حقوق الإنسان، الى جانب آخرين ممن ورثوا فلسفة رفض الأخر والثأر من كل الذين يعارضون توجهاتهم او افكارهم، ولا يخفى على احد من ان هذه العقد قد تكون دوافعها مذهبية او حزبية او عنصرية، وكلنا يعلم ان سياسة الاضطهاد لن تدوم لاسيما وان قواعد حقوق الإنسان ملزمة للدول المنظوية تحت لواء هيئة الأمم المتحدة، وان من حق هذه الهيئة التدخل لغرض إلزام الدول التي تنتهك هذه الحقوق، لذلك فان اي دولة تهدر بقسوة حقوق شعبها وترتكب ضده الانتهاكات والجرائم فانها ستتدخل لإعادة هذه الحقوق.

أن نظام الحكم الذاتي وكما هو معروف يعني السماح لكل مؤسساته أن تقوم بدورها القانوني في المساهمة ببناء الدولة الأم وعلى كل المستويات كما انه يعمل من اجل تحقيق العدالة في توزيع الثروات الوطنية توزيعا عادلا يصب في خدمة جميع مواطني الدولة ويساهم في تأسيس قواعد المجتمع المدني الجديد الذي يرفض الحكم الشمولي الذي ينفرد بالحكم... لكني اعود واذكر بان تحقيق كل ذلك يجب ان يتم في ظل حكم ديمقراطي نزيه وغير شمولي ولا طائفي كما اشرت الى ذلك مسبقا.


وبما انني اكتب عن الحكم الذاتي فاني ارى تقاربا بينه وبين النظام الفدرالي كمفهوم، ومتى ما تحققت قيادة حكيمة للعراق فاني اقر بان الفدرالية هي ضمان لوحدة الوطن وهي لا تؤدي الى تجزئته كما يعتقد الكثيرون، ان النظام الفيدرالي يقوم على الاختيار والإستفتاء وفقا للقانون و الدستور الدائم الذي اذا ما كُتب بعيدا عن الطائفية والمصلحية واُقر من قبل الشعب بكل مصداقية واذا ما حدد الحقوق و الواجبات لكل طرف بشكل عادل فان النظام الفدرالي سيأخذ طريقه بشكل طبيعي وسيحقق وحدة الوطن والشعب لا تجزئتهم.


ختاما نقول أن الدولة التي تختار هذا الشكل من انظمة الحكم كالعراق مثلا، يجب ان تكون دولة ذات سيادة واستقلال كاملين، وأن تقوم على نظام حكم برلماني ديمقراطي ومؤسساتي حقيقي، وليس على حكم الفرد أو الأقلية الطائفية او الحزبية، مما يجعل الضمانات متحققة لتطبيق الفدرالية او الحكم الذاتي، وهذا الحال بالطبع يقلص فرص الاضطهاد أو الاستبداد، كما سيجعل توظيف موارد الدولة لخدمة أبنائها دون إهدار أو إنفاق في اتجاهات تضر بأبناء الوطن الواحد، ولا تؤدي الى انتشار الفساد ونهب المال العام.

ادورد ميرزا
استاذ جامعي مستقل