إنفجار الموقف على حين غرة بين كبرى حركات المعارضة الإيرانية وهي حركة ( مجاهدين خلق ) المقيمة في العراق منذ أكثر من ربع قرن وفي الشهور الأولى لإندلاع الحرب العراقية / الإيرانية و بين النظام العراقي القائم حاليا لم يكن سوى حالة تسخينية جديدة لصراع بنيوي ووجودي بين الإرادات الإقليمية و الدولية المتشاحنة في العراق، فملف العلاقات البينية العراقية / الإيرانية هو واحد من أغرب و أعجب الملفات في تاريخ العلاقات الدولية في العالم، فقد قامت أشرس حرب بين نظامين متضادين و متعادين يعمل أحدهما على إسقاط الآخر بكافة الوسائل و الأسلحة و أستمرت نلك الحرب لثمانية أعوام عجاف لتكون أطول حرب في تاريخ العالم المعاصر و بخسائر بشرية و إقتصادية مهولة حتى سميت ب ( الحرب المنسية ) دون أن تقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين المتحاربين و النظامين المتضادين؟ كما حملت تلك الحرب ملفات لمعاناة إنسانية هائلة بالنسبة لمواضيع الأسرى و المفقودين لم تنته ملفاتها أو تحسم بشكل واضح حتى اليوم أي بعد مرور حوالي عشرين عاما على توقفها و تبدل الصورة و المشهد الستراتيجي في العالم أجمع وفي العراق و إيران بشكل خاص، ولعل ملف حركات المعارضة هو واحد من أغرب و أعجب الملفات الذي تداخلت فيه أوراق و رؤى و تصورات و توجهات عديدة حتى أختلطت الصورة و أضحت متشابكة بشكل مزعج بعد أن دخلت الإرادات الدولية لتعبث بمحتويات ذلك الملف المدهش، فليس سرا إن النظام العراقي السابق قد إستفاد من قوة وزخم المعارضة الإيرانية المسلحة التي إشتبكت مع النظام الإيراني في صراع مصيري دموي رهيب بدءا من عام 1980 ذلك الصراع الذي تمخضت عنه سلسلة من الإغتيالات السياسية الكبرى في إيران تمثلت في مصرع العديد من قادة الخط الأول في النظام الإيراني من أمثال آية الله بهشتي و مطهري و محمد منتظري و محمد علي رجائي ثاني رئيس لجمهورية إيران الإسلامية و رئيس الوزراء أيضا باهنر و قيادات الحزب الجمهوري الإسلامي الكبرى ثم رد النظام الإيراني بحملة إعدامات كبرى ضد قوى المعارضة وخصوصا المسلحة منها كجماعة مجاهدين خلق التي تحالفت مع الرئيس الإيراني الأول الدكتور أبو الحسن بني صدر الذي هرب للعراق بمعية زعيم مجاهدي خلق السيد مسعود رجوي في صيف عام 1981، ليقيم هناك الوجود المسلح و الفاعل لحركته التي لقيت دعما واضحا من نظام صدام حسين بسبب لجوء طرفي النزاع العراقي / الإيراني للإستفادة من قوى المعارضة للمساعدة على إسقاط أحدهما الآخر! وهو وجود أدى في النهاية لإقامة مجمع مدينة ( أشرف ) قرب مدينة ديالى العراقية على الحدود المشتركة مع إيران مع تشييد بنية عسكرية حقيقية للمنظمة الإيرانية أستعملت جوانب منها في الصفحات و الأيام الأخيرة للحرب العراقية/ الإيرانية!، في المقابل فإن النظام الإيراني الذي رفع بدوره شعار ( فتح كربلاء )! و تعهد بإستمرار الحرب حتى إسقاط نظام صدام نشط بدوره في دعم قوى المعارضة العراقية من المؤيدة لطروحاته فقط لا غير! لدرجة أنه إصطدم مع حزب رئيسي إسلامي شيعي وهو حزب الدعوة لأنه لم يبد الخضوع الكامل للإرادة و المطالب الإيرانية و تنقل في دعم القوى الإسلامية حتى تهيأ له تأسيس تيار عراقي شيعي خاضع له بالكامل و مبايع لولاية الفقيه الإيرانية و يعمل لصالح المشروع السياسي والفكري الإيراني وهو تيار ( المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق ) الذي تأسس عام 1981 وكان رئيسه الأول إيراني الجنسية هو اليوم رئيس مجلس القضاء الإيراني الأعلى آية الله محمود الهاشمي ( الشاهرودي)!! فيما كان الناطق الرسمي لذلك المجلس هو المرحوم السيد محمد باقر الحكيم الذي أصبح فيما بعد رئيسا للمجلس الأعلى! ذلك المجلس الذي كان رأس الحربة المتقدم للنظام الإيراني في العراق و الذي شكل هو الآخر تنظيما مسلحا بدعم كبير من الحرس الثوري الإيراني روعي في ذلك التنظيم أن يكون تنظيما عسكريا عقائديا مستل من عمق التاريخ الشيعي، فتأسس تنظيم ( التوابين ) من العسكريين العراقيين الأسرى الذين أعربوا عن ندمهم لقتال إيران و تطوعوا كي يكونوا جنودا للثورة الإسلامية في العراق وحيث زج في هذا التنظيم في المعارك الساخنة على الجبهة العراقية / الإيرانية و خاض قتالا شرسا أيضا ضد جماعة ( مجاهدي الشعب الإيراني ) خصوصا في موقعة ( إيلام ) و ( قصر شيرين ) في الأيام الأخيرة للحرب مع العراق!، ثم تطور هذا التنظيم العسكري العقائدي المسلح ليكون فيلق بدر الذي تحول بعد الإحتلال الأمريكي للعراق لتنظيم سياسي عقائدي كما قيل!! رغم أن عناصره المسلحة و أسلحته و جهاز إستخباراته ما زال يهيمن اليوم على كبرى المدن و الحواضر الشيعية العراقية وهي مدينة النجف وحيث ما زالت بنيته العسكرية قائمة وقوية تحت الأرض بل أنها قويت شوكتها في ظل هيمنة جماعة المجلس الأعلى الذي غير إسمه وولائه الفقهي ( تكتيكيا) على الحكومة العراقية فهم يمتلكون أخطر المناصب السيادية في الدولة العراقية الراهنة كوزارات الداخلية و المالية وفي ظل تشابك غريب وعجيب للملفات و الولاءات! فقد نجح المجلس الإيراني الأعلى في الحفاظ على ولاءاته الإيرانية وعلى صداقاته التحالفية و الستراتيجية الكبرى مع قوات الإحتلال و الإدارة الأميركية لحاجة الطرفين الماسة لبعضهما البعض، أما المعارضة الإيرانية المسلحة و التي كانت موضوعة في السابق على القائمة الأمريكية السوداء بإعتبارها جماعة إرهابية فقد تخلت كما قيل عن السلاح و روقبت من القوات الأمريكية التي حرصت على إدامة شعرة معاوية معها إنتظارا لمفاجآت الأيام القادمة رغم أن إرادة النظام الإيراني الكبرى كانت تتمثل في ضرورة التخلص من تلك المعارضة وطردها من العراق الذي تحولت أرضه مسرحا لصراعات عقيمة و شرسة بين الإرادات الإقليمية و الدولية و فشلت حكومة الإئتلاف الشيعية في تنفيذ رغبات النظام الإيراني لتعارضها مع الإرادة الأميركية فهي وحدها التي تقرر ما هو كائن أو سيكون!، و لم يكن هنالك بديل للنظام الإيراني عن خيار تصعيد وجوده الإستخباري و العسكري في العراق وهو ما أدى قبل أسابيع لقصف محطات تزويد المياه لمدينة أشرف بصواريخ إيرانية موجهة وحيث ردت الحركة الإيرانية المعارضة بحملات إعلامية و تعاونت مع الأحزاب و الجماعات العراقية المعارضة للمشروع الإيراني ورفعت شعار طرد النظام الإيراني و أجهزته المخابراتية من العراق كما حصل في المؤتمر الأخير الذي حضرته قيادات عراقية مهمة من أمثال الدكتور صالح المطلك و أحزاب الوفاق الوطني و الحوار الوطني وجمع غفير من زعماء العشائر العراقية الشيعية أو السنية مما أثار حلفاء إيران في البرلمان العراقي و جلهم من جماعة المجلس الإيراني الأعلى أو حزب الدعوة و شركاه الذين طالبوا بطرد المعارضة الإيرانية من العراق بذريعة أنهم شاركوا في قتل العراقيين في إنتفاضة ربيع 1991!!، وخلاصة القول فإن الحكومة العراقية عاجزة بالمطلق عن حسم ملف وجود أو إبعاد المعارضة الإيرانية لأنه من الملفات الحساسة الخاضعة للإرادة الأميركية و التي وحدها تقرر طبيعة النقلة السياسية القادمة و المرتبطة بطبيعة الستراتيجية الدفاعية للبنتاغون خلال المرحلة القادمة... وكل الصراخ و الإتهامات في البرلمان العراقي بين المتنازعين مجرد أصوات هائمة... فالسيد الأمريكي هو وحده صاحب القرار الأخير...! تلك هي الحقيقة فقط لا غير..!.

داود البصري

[email protected]