هناك سؤال طرحه المراقبون حينما تعرض المجتمع الكويتي إلى هزة طائفية نتجت عن عملية التأبين الآثمة للمسئول العسكري في حزب الله عماد مغنية. وكان التأبين قد أثار تداعيات خطيرة هددت أمن وسلم المجتمع وكادت أن تعصف به. وكان من الاتهامات التي انتشرت، تلك التي تحدثت عن وجود علاقة بين الجماعة السياسية الشيعية الكويتية التي تبنّت التأبين مع جهة خارجية، عبر رابط فقهي ديني متمثّل في تقليد الولي الفقيه الذي يقف على رأس هرم دولة ولاية الفقيه التي تبنت تأسيس ورعاية حزب الله، أي إيران. والسؤال هو: هل تقليد أفراد هذه الجماعة لمرجع الدين، ولي الفقيه، ممّن يعتبر المسؤول الأول عن سياسات دولة ولاية الفقيه، هو بمعنى ارتباط تلك الجماعة بالخارج؟
مما هو معروف أن نظام التقليد عند الشيعة يعني تقليد الشخص العامي لمرجع الدين الفقيه الجامع للشرائط. لكن، هناك نظريات عديدة تأسست حول تقليد العامي لمرجع الدين، بعضها تؤمن بالمشروع السياسي الديني، وبعضها لاتؤمن بذلك بل تعتقد بأن الحكومة الدينية لاتتحقق إلا بشرط بظهور ووجود quot;الإمامquot;، وهو المهدي المنتظر الغائب والإمام الثاني عشر حسب العقيدة الشيعية.
وفي المشروع السياسي الديني الشيعي، هناك نظريات مختلفة، من ضمنها مشروع ولاية الفقيه المطبّق في إيران، الذي يقف على رأس هرمه - كما قلنا - مرجع الدين المسمى بالولي الفقيه. وحسب الفقه الشيعي، لابد أن يخضع الشخص الشيعي العادي (غير المتخصص في العلوم الفقهية وغير المحتاط) للمرجع عن طريق نظام التقليد. وفي مشروع ولاية الفقيه في الجمهورية الإسلامية في إيران لابد أن يخضع المواطنون الإيرانيون لهذا النظام من خلال التقيّد الصارم بأحكام وفتاوى وأوامر الولي الفقيه في العبادات والأحكام والمعاملات وكذلك في الموضوعات أو السياسات.
وهناك من هم غير إيرانيين ممن يؤمنون بنظرية ولاية الفقيه حيث يخضعون أيضا لنظام تقليد الولي الفقيه، لكنهم لا يعيشون في إيران إنما في بلدانهم، وهؤلاء إما أفرادا، أو جماعات سياسية منظّمة، مثل جماعات حزب الله في الدول الخليجية والعربية المختلفة ومنها في الكويت، لكن أبرز تلك الجماعات هي تنظيم حزب الله في لبنان.
هناك من يزعم بأنه لا يمكن للشخص العادي غير المتخصص في العلوم الفقهية الشيعية - والذي استطاع أن يضع علامات استفهام عديدة وجريئة أما نظام التقليد - أن يطرح تساؤلا حول مشروعية نظام التقليد. أي أن يطرح تساؤلا حول كيفية حصول هذا النظام على مشروعية للتدخل في تفاصيل حياة الانسان وقضاياه الدينية والدنيوية، ومنها في الشؤون السياسية. فمن البديهي أن يكون نظام التقليد محل تساؤل بشأن أصله التاريخي ومشروعية استمراره وإمكانية تطوره وتغيّره في ظل التطور والتغيّر الجاري في الحياة العامة. فقد أصبح التقليد عند الشيعة جزءا رئيسيا من الحياة. والذين يستشكلون على الإنسان العامي أن يطرح تساؤلا حول تاريخ هذا النظام أو مشروعيته، هم ممّن ساهموا في تكميم أفواه الناس وزرعوا ثقافة quot;اللاسؤالquot; في المجتمع. فنظام التقليد عند الشيعة لم يتبلور إلا على يد الشيخ مرتضى الأنصاري، الذي عاش في العراق منتصف القرن الثالث عشر الهجري، والذي فعّل موضوع التقليد، الذي هو للأسف شأن مناهض للحرية والعقلانية. وقد أفتى الأنصاري ببطلان عمل الشيعي الذي لا يقلّد الفقيه أو يحتاط. وقد جاء بعد الانصاري تلميذه صاحب كتاب العروة الوثقى كاظم اليزدي ليشرح وينظّر لفكرة أستاذه، حيث بحث بالتفصيل في باب التقليد ووجوب اتباع المرجع في الأحكام العبادية. وقد التزم الفقهاء الشيعة بهذه العلاقة وبنوا على إثرها أحكاما وقوانين ترسّخ التقليد وتبطل العمل القائم على عدم الرجوع إلى مرجع التقليد.
لم يكن الاجتهاد عند الشيعة معروفا ولم يفتح بابه إلا في القرن الخامس الهجري. وقد كان التقليد في بداية نشوء الاجتهاد محرّما عند الشيعة، إذ كان يقول الشيخ الطوسي في كتابه quot;تلخيص الشافيquot; أن العامي quot;لا يجوز أن يقلد غيره بل يلزمه أن يطلب العلم من الجهة التي تؤدي العلمquot;. ويقول السيد إبن زهرة في quot;الغنيةquot; بأنه quot;لا يجوز للمستفتي أن يقلّد المفتي لأن التقليد قبيح ولأن الطائفة الشيعية مجمعة على أنه لا يجوز العمل إلا بعلم، وإنما أمر أهل البيت برجوع العامي إلى المفتي فقط، فأما العمل بقوله تقليدا فلاquot;.
أما إذا نظرنا الى الوضع اليوم فإننا نري أن التقليد بات متحكّما بالحياة ومسيطرا على الإنسان الشيعي، وأصبح هذا النظام بمثابة quot;تبعيةquot; وquot;ارتباط أعمىquot; أكثر منه رجوع إلى الفتوى. فالمقلّد اليوم لا يعتمد على عقله في التفكير أو الحوار أو المجادلة، أو حتى في اتخاذ القرار. بل العقل الآخر المرتبط بالمرجع الديني أصبح هو البديل لعقله، وبالتالي لقراره ومن ثم لفعله. فالمقلِّد يعتمد على عقله فقط لدعم موقف العقل الآخر (عقل المرجع) وأتباعه.
ومما هو معروف أن نظام التقليد يختص عند كثير من مراجع الدين بالمسائل العبادية والأحكام، لكنه اختص زورا بالمسائل غير العبادية التي تسمى بالموضوعات والسياسات بالرغم من نفي الفقهاء ومراجع الدين الشيعة حق تدخل الفقه بالموضوعات والسياسات. وإذا ما تمعنّا في تجربة ولاية الفقيه وإدارة الدولة والمجتمع في الجمهورية الإسلامية في إيران، سنجد أن مسألة تدخل الفقيه في الموضوعات والسياسات واضحة وضوح الشمس، لكن تحت إطار الدفاع عن مصالح الدولة.
لقد أنشأ مراجع الدين الشيعة مجموعة من الأفكار والتصوّرات قضت بتشييد نمط من العلاقة quot;القياديةquot; بينهم وبين الناس أو المقلّدين، فاستفادوا من ذلك في تأسيس نظام سلطوي quot;أبويquot;، من أبرز صوره مفهوم ولاية الفقيه. لذلك يعتبر العديد من المثقفين، والناس العاديين أيضا، أن نظام التقليد، إضافة إلى أنه quot;تبعيةquot;، قد وصل الى مرحلة من quot;الاستسلامquot; للمرجع الديني أو القائد الديني، وذلك بتفويض المرجع أو القائد حق التدخل في جميع أمور الحياة، ومصادرة حق العامة في تقرير مصائرهم، بل وحقهم أيضا في الاجتهاد في أمور حياتهم، ومحاصرة حريتهم الطبيعية تحت مسمى الحكم الديني.
إن صورة نظام التقليد ووجهة الكثير من مراجع الدين الذين أعطوا لأنفسهم حق التدخل في كافة شؤون حياة الإنسان، باتت أقرب إلى المؤسسة التي تحتكر تفسير الدين وتأويله والنطق باسمه، وأصبحت تطوّق الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وبالتالي باتت تلغي دور الناس الطبيعي في الحياة. ففي بداية نشوئها لم تكن المرجعية الدينية سوى نظرية بسيطة تقوم على مبدأ ضرورة استشارة الجاهل للعالم، لكنها تطورت لاحقا لتنحصر في تقليد مرجع معين، ثم لتصبح قيادة سياسية ودينية، ثم سياسية كاملة ذات ولاية عامة مطلقة على الناس، وتضخمت لتحتكر كل شيء من السياسة إلى الفقه، إلى الفكر والثقافة والاجتماع. ومن أسباب هذا التوسع أو التضخم، الاعتقاد الرائج بأن المرجعية الدينية قادرة، من خلال نظام التقليد، أن تجيب على جميع أسئلة الحياة وفي جميع جوانبها. وهذا الاعتقاد راسخ في أذهان غالبية كبيرة من الشيعة، إلا أنه لا يتماشى مع طبيعة الحياة وأسسها ومفاهيمها وبالذات مفهوم الحرية. فليس من شأن الفقه التدخل في جميع الأمور والقضايا، كما ليس من مسؤولياته الإجابة على جميع الاسئلة. لذلك نجد أن مراجع الدين لم يستطيعوا أن يجاروا التغيّر والتطوّر الراهن في الحياة، فأصبح نظام التقليد مرآة تعكس عدم استطاعتهم طرح حلول واقعية لمشاكل الحياة، وبات المقلّدون يعيشون في إطار رؤى تاريخية وفي ظل أمانٍ بعيدة عن روح العصر والمنطق والنقد.
إن مما لاشك فيه أن الانسان المؤمن العادي قد يكون في أحيان قليلة بحاجة إلى استشارة المرجع الديني الفقيه والرجوع الى الفتوى في المسائل العبادية، لكن أن يستشير هذا الإنسان مرجع الدين في قضايا الموضوعات فهذا مما لا يمكن للعقل الطبيعي الراهن أن يقبله. فمسألة التقليد باتت تشمل السيطرة على العقل البشري في العبادات والموضوعات، والتي تعتبر تبعية واستسلاما وإلغاء للعقل اكثر من أي شيء آخر. فالتقليد ليس إلا نظاما يسعى الى هذا الإلغاء بوصفه عقلا نقليا يفتقد أبسط آليات التفكير العقلي الحر. فمنهج النقل يفضي إلى الإتباع، وكلاهما يناهض الإبداع ويعاديه، ويسعى إلى القضاء عليه. فلا يعقل أن تتم مطالبة المقّلد بالاستئذان من مرجع الدين في جميع القضايا، منفذا نظام الوصاية بحذافيره، ومريدا للدين الذي يمثله هذا المرجع أن يمتلك حلولا لجميع المسائل والمشاكل. فمعارضة عملية النقد والتدقيق تجاه ما ينتجه مرجع الدين ستفقد البشر أي قدرة على تغيير واقعهم أو تعديله، إلا التغيير المرتبط بما يأمر به المرجع وينفذه المقلّد من خلال آلية التقليد، فيما سيضرب بعرض الحائط التفكير البشري المتحرر من سلطة التقليد.
إذن، من شأن نظام التقليد أن يكون مانعا من وصول الإنسان إلى حقائق الأمور، ومانعا من عبوره إلى معالم القضايا في الحياة. فلا يمكن وصف هذا النظام، وبالذات في مسألة تدخله بالموضوعات، إلا بأنها حركة معارضة للتطوّر ولا تسير نحو التغيّر والتقدّم، وذلك لوقوفه في الضد من التحرّر العقلي والفكري. ولأن الفقه علم قديم لم يتطور، بالتالي لا يستطيع أن يقدم إجابات وافية وحلولا مقنعة حول أسئلة الحياة الجديدة. فالمنهج الفقهي المعمول به في الحوزات العلمية، غير قادر على تسريع حركة سيره في الحياة الجديدة، إذ ما زالت خطواته الفكرية ومناهجه العلمية تعيش في فلك العلوم القديمة، وهو ما يصعّب وصول أحكامه الى المقاصد الحديثة.
ختاما، نذكر القارئ بالسؤال الذي طرحناه في أول المقال، لكننا نتوقع أن يكتشف الإجابة استنادا إلى ما تم من سرد وشرح.

فاخر السلطان

كاتب كويتي
[email protected]