لجولات الدم المسفوك بمجانية رهيبة في الشرق الأوسط خلال مرحلة الثمانينيات المتفجرة و حتى اليوم أسباب و عوامل و توجهات و ملفات سرية شكلت على صعيد الفعل و الممارسة الميدانية صفحات مؤلمة من تاريخ المنطقة الحديث وهو تاريخ مرعب أختلطت فيه الأوراق و الملفات و تشابكت فيه كل القضايا و تزاحمت كل الوقائع حتى إختلط الحابل بالنابل ووهنت الذاكرة التاريخية بعد تزايد الكوارث و تواليها، و لعل الإرهاصات الأولى للحرب العراقية / الإيرانية التي إندلعت عام 1980 و كانت البوابة الحقيقية للجحيم الشرق أوسطي و المدخل الفعلي لكل التطورات التي حدثت بعد ذلك تعتبر هي الأساس المكين و المدخل السليم لمناقشة تاريخ مرحلة حاسمة لم نزل نكتوي من نيرانها حتى اليوم و ستستمر مؤثراتها لآماد غير منظورة.

إرهاصات و مقدمات حرب الخليج الأولى!

في صيف 1979 حدثت تطورات داخلية ساخنة في العراق حسمت الصراع على السلطة البعثية و التي كانت تعاني منذ محاولة إنقلاب مدير الأمن العام الأسبق ( ناظم كزار ) في صيف 1973 من خلافات صامتة و لكنها ملحوظة بين التيارات البعثية المختلفة و العامة، و بين التيار العشائري المغلق الذي مثلته قيادة البكر / صدام و التي أدت لهيمنة تكريتية ملحوظة على شؤون الحزب الحاكم و السلطة بأسرها وهي قضية ظلت تتفاعل بعد الإنقلاب السياسي الكبير في إيران وسقوط نظام الشاه الإمبراطوري و إقامة الجمهورية الإسلامية بعد عودة الإمام الخميني لإيران في 11 فبراير 1979 وهي العودة التي شكلت متغيرا ستراتيجيا كبيرا على المستويين الدولي و الإقليمي و ادت لسخونة واضحة في المشهد الإقليمي بعد تبلور شعار ( تصدير الثورة الإسلامية ) الذي إتخذه الإيرانيون أو طرف مهم في السلطة الثورية الجديدة بمثابة هدف ستراتيجي معلن كان من أثره تنشيط عمل حركة المعارضة الدينية في العراق و الدخول في مواجهة مباشرة مع النظام الحاكم وهي مواجهة كانت موجودة منذ بداية السبعينيات بل أن سراديب ( قصر النهاية ) و هو المعتقل التعذيبي البعثي الكبير قد شهدت حالات إعدام بشعة لأوائل الدعاة من أمثال السيد عبد الصاحب الدخيل عام 1969، فكان ذلك المعتقل يضم بين جدرانه مختلف التوجهات السياسية السائدة في العراق، و كانت المرحلة الفاصلة.

بعد تطور نشاط ماكان يسمى بالحزب ( الفاطمي ) الذي هو حاليا ( حزب الدعوة ) و كانت مواجهته الكبرى مع النظام البعثي في عام 1974 و التي إنتهت بإعدام عدد من قياداته الأولى كعارف البصري و مجموعته ثم جاءت ما عرف بإنتفاضة ( خان النص ) قرب النجف في عام 1977 و المحاكمات التي تلتها و أدت لإنشقاق حزبي بعثي واضح المعالم بعد أن تم طرد قضاة المحكمة التي شكلت لمحاكمة قيادات التحرك الشعبي الشيعي و في طليعتهم المرحوم محمد باقر الحكيم الذي حكم بالإعدام ثم شمله عفو رئاسي خاص فيما بعد!، وقتها طرد قضاة المحكمة الخاصة الذين كانوا كل من الرفاق الدكتور عزة مصطفى العاني و السيد فليح حسن الجاسم من القيادة القطرية بوشاية من القيادي حسن العامري و ذلك لضعف إيمانهم الحزبي لأنهم لم يوقعوا على أحكام الإعدام التي كانت معدة مسبقا!! في مهزلة من مهازل إدارة السلطة للصراع الداخلي في العراق، و مع مجيء النظام الثوري الجديد في إيران إنتعشت الحركة السياسية الدينية المعارضة في العراق بشكل واضح و تزامن مع الشهية المفتوحة لصدام حسين في الهيمنة المباشرة على السلطة و الإنفراد في القرار! خصوصا و أن الحزب وقتذاك ( أو أطراف منه تحديدا ) كان يتهيأ تنظيميا و فكريا و سياسيا لمرحلة الوحدة مع النظام السوري! و تنفيذ ما عرف في حينه بميثاق العمل القومي المشترك! وهو مشروع ولد ميتا للتناقضات الحادة التي تطبع النظامين و الحزبين اللدودين، المهم أن صدام و مجموعته قد تمكنا من إبعاد منافسيهم في الحزب و القيادة و كانت إعدامات أغسطس عام 1979 لثلث الجهاز الحزبي و لعناصر قيادية بارزة إعلانا واضحا عن نهاية القيادة الجماعية في حزب البعث بل عن نهاية حزب البعث ذاته، وهيمنة صدام و جماعته على الأمور في واحد من أشد الإنقلابات الدموية في العراق و الشرق الأوسط بشاعة و غموضا و حيرة و إرتباطا بالمخططات الأميركية تحديدا ليتهيأ النظام بكل مفرداته و عناصر قوته و تشكيلاته للدخول في ترترتيبات إقليمية و دولية جديدة عمادها تهيئة الساحة لحرب شرسة مع النظام الإيراني الذي كان بدوره يعد العدة العملية و التنظيمية لإسقاط النظام في العراق وهي أمور سنتناولها لاحقا في متابعات تاريخية خاصة، و قد إعتمد النظام الإيراني في تغلغله في العراق على الحواضن الدينية و الطائفية و بدأ حملة التحريض و الشحن و إعداد الساحة و عن طريق تفعيل المعارضة الدينية الداخلية و توريطها في صراع غير متكافيء أبدا ستكون نتائجه إنتحارية، في 19 نيسان / إبريل عام 1979 إستلم المرحوم آية الله الراحل السيد محمد باقر الصدر برقية خاصة من الراحل الإمام الخميني ردا على رسالة سرية كان قد بعثها الصدر بيد أشخاص عن طريق الكويت للخميني، و قد أرسل الخميني البرقية للصدر بصورة علنية و عن طريق البريد العراقي!! وهو الخاضع لمراقبة السلطة و مخابراتها كما هو معروف و قدمت هذه البرقية لمكتب صدام حسين و كان نصها يقول:

برقية الإمام الخميني للسيد محمد باقر الصدر

بسمه تعالى

سيدي محمد باقر الصدر الأكرم دام ظله، و ردتني رسالتكم الشريفة وقد قرأتها بإمعان و تدقيق و إنكم تخبرونا فيها أنكم عازمون على مغادرة العراق أنت و عائلتك الكريمة، أنا أقول لكم لا تغادر فإن أنت غادرت العراق و غيرك من القيادات الشريفة تغادر العراق من سيبقى ليقود الثورة؟ لا أسألك بالله أن تغير فكرك، فإن الفرج آت، و إن طريق الحسين لم يعبد بالزهور بل كان مخضب بالدماء الزكية بدءا من جدكم عبد الله الرضيع و إلى جدكم الحسين ( ع) فهل لك أن تترك نهج جدك و تفتش عن سبيل في هذه الدنيا الفانية؟ لكان أولى بجدك الحسين أن ينعم بها و ما عرضه عليه اللعين يزيد بن معاوية لعنهما الله ليوم الدين، و تترك الثورة الحسينية المنتظرة في العراق، لم تتركها ياسيدي العزيز؟ لا مكان لك إلا في العراق فإن الثورة آتية لا محال، و إن جندك الميامين هم بإنتظار تحرككم و توجيهاتكم لطريق النصر و إعلاء شأن الإسلام، لا تنسى إنك حفيد الحسين فالحسين لم يهرب من أرض كربلاء، و إن إيران تحت تصرفكم وهي مددكم للثورة!

و أعتقد أن الصيغة التي كتبت بها البرقية السالفة الذكر كانت توجيها عمليا لتغيير الأوضاع السياسية في العراق و بشكل علني و مفضوح أمام السلطة و امام صدام شخصيا الذي كانت معروفة طبيعة ردود أفعاله على مثل هذه الأمور!! و اللبيب من الإشارة يفهم؟.

وفي نفس السياق تحركت أجهزة النظام الإيراني الثوري الجديد لفتح كل أبواب التسلل الحدودي و إدخال الإسلحة و إمداد الجماعات المؤيدة لها و شهدت شوارع العراق إشتباكات يومية مع قوى الأمن العراقية كما إستدعى النظام الإيراني من جديد القيادات الكردية وفتح لها التسهيلات في شمال العراق فضلا عن التحريض الإعلامي الكبير و المتبادل من خلال إذاعة قصر شيرين و إذاعة طهران / القسم العربي و على مدار الساعة، كما تم ضبط أكثر من 24 ألف قطعة سلاح مهربة من إيران و أطنان أخرى من المتفجرات، و قامت إيران بطبع فئات من العملة العراقية المزورة و ضخها في الأسواق العراقية و تأسيس جيش من المتطوعين العراقيين بدعم من الحرس الثوري الإيراني الناشيء وقتها و هذا الجيش قوامه أربعة فرق عسكرية إسمه ( جيش كربلاء )!، كما كانت الطائرات المقاتلة الإيرانية تخترق بإستمرار الأجواء العراقية و تضرب القرى الحدودية و كذلك الحال مع المدفعية الإيرانية، و تمكنت المضادات الجوية العراقية من إسقاط طائرة عسكرية إيرانية في قاطع مندلي و أسر طيارها في 3 مايو 1980 و لم يطلق سراح الطيار من الأسر إلا قبل إحتلال العراق بإسبوعين فقط؟؟؟ أي بعد ثلاثة و عشرين عاما من الأسر!!، و طبعا صفحات التسلل و إعداد العدة ليوم الإنفجار الكبير في 22/9/ 1980 وهو موعد إعلان الحرب رسميا كانت تتقاطر لتشكل في النهاية مشهدا إقليميا مفجعا توالت بعده الكوارث حتى اللحظة الراهنة!، فحجم التورط الإيراني الكبير يحتاج لملفات ضخمة لتوثيقه، و ما نراه و نلمسه اليوم هو إعادة لصفحات الماضي بطريقة مأساوية مفجعة، فقدر شعوب المنطقة أن تعيش على إيقاعات سياسة حافة الهاوية... إنه التاريخ حين يتكلم فلا يجامل أحدا!.

وطبعا النظام العراقي بدوره لجأ لأساليب التآمر و التعاون مع بقايا نظام الشاه و مع المعارضين الإيرانيين و في طليعتهم الراحل شاهبور بختيار و مارس من أساليب تفريغ الساحة الداخلية و شن حملة متقدمة لتجفيف المنابع عن طريق حملات التهجير العشوائية التي طالت أبرياء لا علاقة لهم بأية صراعات سياسية أو مذهبية!، أوراق التاريخ القريبة مؤلمة و حافلة بفواجع و كوارث رهيبة لم تسلط عليها أضواء التاريخ كثيرا...!

داود البصري

[email protected]