تعرّض السود في أمريكا في زمن ما، للتمييز والمعاملة العنصرية بسبب اللون فقط، وتتعرض المسلمات في هذا الزمن، في أمريكا، وفي الغرب بشكل عام، أحياناً، وغير ممنهج، للتمييز والنظرة الخاصة، بسبب الحجاب. فقد جاء في الأنباء أن القائمين على حماية أوباما قاموا بطرد سيدتين عربيتين محجبتين من مؤتمر تضامني عقد في ميشيغان وشاركت فيه فعاليات عربية في الولاية، وذلك على هامش الحملة الانتخابية للمرشح الديمقراطي الأمريكي الكيني الأصل والمسلم المرتد باراك حسين محمد أوباما، ( لا ندري لماذا لم يصدر فقهاء الإرضاع والجماع حتى الآن أية فتوى في موضوع ارتداد أوباما عن الدين الإسلامي لإعادته إلى دين الحق، هل هان عليهم الدين لهذا الحد أم ينتظرون صافرة الانطلاق من أولي الأمر؟)، ولم يسمح للسيدتين بالظهور في خلفية الصورة خوفاً من إثارة quot;هواجس معينةquot;،(ربما إرهابية)، وردود أفعال غير محمودة العواقب لدى الناخب الأمريكي قد تؤثر، لاحقاً، على حظوظ المسلم المرتد أوباما، عافانا الله وإياكم، في الدخول للبيت الأبيض، لاسيما وأنه quot;متهمquot; من قبل خصومه السياسيين بأنه مسلم، ( ياللعار هل أصبح الإسلام تهمة في نفس زمن الصحوة البترولية المباركة، أية مفارقات نرى ونسمع؟).

مع العلم بأنه قد سبق لأوباما وفي أكثر من مرة، أن قال، وبالفم الملآن: quot;أنا لست مسلماًquot;. ولم يقلل الاعتذار اللاحق من قبل أوباما وفريقه الانتخابي من وقع ودلالات الحدث الكبيرة التي تنطوي على قدر كبير من التحقير والإهانة العنصرية الفاقعة لحقت بالسيدتين المحجبتين اللتين لم يكن وجودهما بذاك الرمز البدوي التقليدي محض مصادفة، ولكن ربما لتذكير المسلم المرتد أوباما بهويته الدينية السابقة، ولتؤكدان على رغبة بالاختلاف( ليس طبعاً على مبدأ خالف تعرف)، والتميز عن الآخرين مشوب باعتقاد( هكذا تعتقدان وليس ذنبهما)، بالتفوق والاصطفاء الإلهي كسليلات لخير أمة quot;كانتquot; قد أخرجت للناس. ( من حق أي إنسان أن يعتقد وquot;يتوهمquot; بما يشاء بغض النظر عن كون ذلك حقيقة أم لا، ومن حق الآخرين، بالمقابل، قبول أو رفض ذاك التوهم والاعتقاد). وتصرّف السيدتين ما هو في أحد وجوهه سوى إعلان عن هوية دينية، ورغبة كامنة في التميز عن الآخريات بناء على تلك الهوية في مجتمع تقوم دعائمه على التنوع والتعدد ورفض اعتبارات التميز الما قبل وطنية. ذات الهوية الدينية التي تتفاخر بها السيدتان، وياللمفارقة، كان فد تبرأ وتنصل منها أكثر من مرة المسلم المرتد أوباما لعلمه اليقين بأنها ستكون عرقوب أخيل Achillesrsquo; heel الذي قد يطيح بطموحاته الرئاسية
وتخرجه من السباق نحو البيت الأبيض. بل زاد على ذلك بأنه أعطى تصريحات تطمينة غاية في المجاملة والتودد والتذلل والمحاباة للإسرائيليين في خطابه الأخير والشهير أمام لجنة الشؤون العامة الأمريكية ـ الإسرائيلية المعروفة بـAIPAC، في محاولة قوية منه لقطع أية علاقة له بجذوره الإسلامية ( ما هكذا يكون الوفاء لدين الله يا سيد أوباما؟؟؟!!!).

لا تخرج، في الواقع، همروجة الحجاب برمتها، في الغرب والشرق على حد سواء، عن المحاولات المستمرة والدؤوبة لتسويق الأنماط السلوكية البدوية المختلفة، ومن ضمنها النقاب اليوم، إلى المجتمعات المجاورة. والحجاب لا يختلف كثيراً عن الغترة والعقال والزبيبة والجلباب الرجالي الذي تم بهم quot;غزوquot; دول الجوار أيضاً. فإذا كان للغترة والعقال البدويين أي معنى أو رمزية قدسية أو بعد سماوي وعقائدي فسيكون عندها للحجاب. ولا يختلف الحجاب هنا عن الجينز الأمريكي كثيراً الذي غزا العالم كله تقريباً رغم أنه ليس من عند الله، وكان زي رعاة البقر في الغرب الأمريكي، ولكنه ارتبط بتصدير القيم والمفاهيم مع التمدد السياسي والعسكري والاقتصادي والنمط السلوكي الأمريكي، وكما يحصل في أي مجتمع من المجتمعات وفي أي زمن من الأزمان،( فهل يأتي يوم يكفـّر فيه من لا يلبس الجينز؟ ربما). من يتذكر اليوم مثلاً، quot;السكسوكةquot;، أواللحية اللينينية المميزة في أوج التغول السوفياتي وعز المد الشيوعي الأحمر الذي اكتسحت ثقافته حتى قلب أوروبا الغربية العقلانية الديكارتية واليابان البوذية؟

والحجاب في ظل أحوالنا هذه هو إعلان عن هوية، وكشف عن ذات بكل تضاريسها الفكرية، والتزام محدد بنمط سلوكي معين وعادات، ورفض غير مباشر، في ذات الآن، للأنماط الحداثية وغير الحداثية الأخرى الموجودة على الساح، رغم أنه هو ذاته وليد عصور ونمط علاقات وتفكير غير حداثي ساد في وقت من الأوقات وبما يحمله في عمقه الإيديولوجي من تكفير معلن لكل من لا يلتزم هذا الخيار السلوكي البدوي الذي يترافق عادة مع السلبية في النظرة إلى الحياة بشكل عام، والنكوص والتقوقع على الذات. والحجاب هوية أممية دينية مميزة لبشر معينين وعابر للأوطان.

فالحجاب لا يمكن أن يكون محدداً وحيداً لهوية وطنية بذاته، فهو مشترك مثلاً، بين مصر، والمغرب، وألبانبا، ونيجيريا، وماليزيا، وإندونيسيا، وحتى بعض ولايات الهند والصين الفقيرة. وهناك محاولة واضحة لطمس الهوية الوطنية من خلال تقديمه عليها، ومقابل الرغبة القوية في التصريح عن هوية دينية وإيديولوجية بعينها. لا بل هو ربما، وبتحديد أكثر اختزالاً هوية مذهبية محددة ضمن الهوية الدينية الأكبر. حيث أن هناك بعضاً من quot;الفرق الضالةquot;، من غير الفرق الناجية طبعاً في الإسلام، لا تعبأ ولا تكترث كثيراً بالحجاب أو تعتمده كهوية. وترى هذه quot;الفرق الضالةquot;، أيضاً، في ترك الحجاب هوية وافتراقاً طوعياً وفصلاً ماهوياً ورغبوياً ذاتياً عن الفرق الناجية، تجنباً لإلصاق نفس الهوية الدينية والدلالات المذهبية التي يحملها الحجاب، وتعلن من خلال ذلك، ولا شعورياً، بأنها تنأى بنفسها عن تلك الهوية، مما يمهد لتمايزات بين نفس أبناء الهوية الوطنية تدفع باتجاه حساسيات واصطفافات لا تصب في المآل في الصالح الوطني العام. ويحاول الحجاب المفروض على المرأة، هنا، أن يكون تموضعاً وحداً فاصلاً بين المرأة المحجبة، والمجاميع الوطنية الأخرى غير المحجبة التي قد لا يعني لها الحجاب أي شيء.

ويضفي نوعاً من القوقعة والعزل الاجتماعي، بذات الوقت، على المرأة المحجبة التي لا تتيح لها هوية الحجاب الاندماج الطبيعي في المجتمعات ذات الرؤى المفتوحة ومتعددة الأنماط السلوكية. والحجاب كحامل ومعبر عن ثقافة، قد تصبح المحجبة بموجبه في المجتمعات التي لا تغلب عليه الأزياء البدوية، ومنها الحجاب، هدفاً لما يمكن اعتباره ممارسة عنصرية تتسبب في quot;تشويهquot; المنظر والتناسق العام، كما حصل مع السيدتين المحجبتين في مؤتمر أوباما. ويصبح الحجاب في الغرب تحديداً، تأسيساً لكانتون فكري مغلق ومعزول يقتصر على أعضائه الذين يتشاركون نفس الرؤية السلفية ما قد يصعب من مهمة الاندماج المطلوبة في الأوطان الجديدة، ويفضي بالتالي لإعادة إنتاج نفس ظروف التهميش والعزل واللاتشاركية التي كانت السبب في النزوح ووراء اختيار الوطن البديل.

وقد يصبح الحجاب، وفي خطوة استعلائية واستعراضية استفزازية هي الأخرى، وكما تفعل الممثلات المصريات حين يتـُبن ويتحجبن، مصدراً لمباهاة المرأة المحجبة على قريناتها الأخريات من النساء، التي تبوح بذلك علناً وأمام الكاميرات، ولا تتواني عن الجهر بأنها اختارت طريق الحق وجادة الصواب والخلاص باختيارها للحجاب وبأن الأخريات لم ينلن هذا الشرف لأنهم ربما ببساطة لا يستحقونه، وهو في هذه الحالة صك براءة وافتراق عن باقي مكونات المجتمع. وبنفس الطريقة قد تتباهى نساء أخريات بالانعتاق وبأنهن تركن الحجاب وتحررن من quot;التقاليدquot; البالية والعبودية والاسترقاق، ولا حاجة بنا لكثير من الفصاحة والدهاء للقول بأن القاسم المشترك بين الفريقين quot;المتناعرينquot; هو الحجاب.

ويصبح عدم ارتداء الحجاب في المجتمعات المغلقة والمحجبة مدعاة للنظرة الدونية والتلميحات العنصرية واللا أخلاقية، واعتباره أحيانا تحللاً وفجوراً وخرقاً للقانون العام. وفي بعض الدول المتزمتة تتدخل الشرطة الدينية لفرض زي معين على المرأة، حتى الأجنبية، بكل ما في ذلك من انتهاك للحرية وقلة احترام للخيارات الشخصية. وتتعرض اليوم كثير من الفتيات والنساء المسلمات العاملات في الغرب لشتى أنواع المضايقات العنصرية والفصل من العمل وإنهاء الخدمات ونظرات الارتياب بسبب إصرارهن على ارتداء الحجاب وإعلان هوية مختلفة تتحدى القيم والأنماط السائدة لتتميز به إيديولوجياً، وسلوكياً، وعقائدياً، وماهوياً عن الآخريات.

ومفاعيل الحجاب لا تقتصر على النساء العاديات، فقد يطال الرجال وزعماء أحزاب وساسة كبار. فقد يواجه، مثلاً، واحد وسبعون عضواً من حزب العدالة والتنمية التركي من بينهم رجب طيب أردوغان، ورئيس الجمهورية عبدالله غول، عقوبة حرمان quot;عنصريةquot; من العمل السياسي لمدة خمس سنوات، بسبب خرقهم للدستور التركي في التعديل الذي سمحوا بموجبه بلبس الحجاب في الأماكن الرسمية، وهللت له الفضائيات البدوية باعتباره فتحاً إسلامياً مبيناً، حيث تنص المادتان الأولى والثانية من الدستور التركي على أن تركيا دولة علمانية ديمقراطية قانونية والحجاب يتناقض مع هاتين المادتين. وهذا الأمر لو تم، سيعني القضاء كلياً على مستقبلهما السياسي. يحصل كل هذا مع هؤلاء الرجال أيضاً، بسبب الحجاب.


وفي تصريحات تتسم بالعقلانية والمرونة الواقعية البعيدة كلياً عن التشنج الإيديولوجي، وعقب quot;همروجةquot; منع الرموز الدينية في فرنسا في العام 2003، والتي تعود جذورها، في الحقيقة، إلى العام 1989 عندما تم طرد ثلاث فتيات مغربيات من معهد بإحدى الضواحي الباريسية، فقد اعتبر شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي quot;أن من حق المسؤولين الفرنسيين إصدار قانون يحظر ارتداء الحجاب في مدارسهم ومؤسساتهم الحكوميةquot;.

وقال طنطاوي في تصريحات أوردتها وكالة الصحافة الفرنسية وقتئذ، (3/12/2003)، وقبيل استقباله في القاهرة لوزير الداخلية الفرنسي آنذاك نيكولا ساركوزي (اليوم هو رئيس جمهورية quot;قد الدنياquot; والله يحرسه وعين الله حوله وحواليه): quot;إن الحجاب فريضة إسلامية وإذا قصـّرت المرأة في ذلك يحاسبها الله، ولا يمكن لأي مسلم حاكما كان أم محكوما أن يخالف ذلكquot;. وأكد: quot;أن هذه الفريضة تنطبق في حال إقامة المرأة في بلد مسلم وليس في بلد لا يعتنق مواطنوه الإسلام مثل فرنساquot;.

هل يعني هذا الكلام أي شيء للسيدات المسلمات في الغرب، واللواتي يتعمدن افتعال الصدامات والمشاكل وإثارة الرأي العام واستفزازه، في قلب المجتمعات الغربية بسبب إصرارهن الغريب على ارتداء الحجاب (والنقاب في بعض الحالات)، ولفت أنظار الناس إلى هذا الزي الغريب ومضامينه الجنسية والدينية الواضحة التي لا تحتمل اللبس والتأويل والجدال؟


ما الذي قد يمنع مستقبلاً حدوث نفس تلك الإهانة العنصرية التي لحقت بسيدتين محترمتين، لم تقترفا أي ذنب آخر، ولا أي شيء سوى أنهما أصرتا على ارتداء ذلك الزي البدوي التقليدي الوافد إلينا من جزيرة الأعراب، والمسمى حجاب؟

نضال نعيسة
[email protected]