يعد اليسار العراقي من أقدم التيارات السياسية التي عرفتها الساحة العراقية حيث تعود بدايات ظهوره في العراق الى عشرينات القرن الماضي ومنذ ذلك الوقت بدأ هذا التيار يكتسح الشارع العراقي بما طرحه من أفكار عن العدالة والمساواة والحرية والتي كانت تجد لها صداً طيباً خصوصاً لدى الشباب حتى أصبح التيار الأكبر في البلاد منتصف ذلك القرن وحينها لم يكن هنالك بيت في العراق إلا وفيه يساري أو أكثر ونتيجة لذلك كان لهذا التيار الكبير والواسع دوره الأساسي في رسم صور الأحداث التي مرت على العراق في ذلك القرن سواء بالسلب أو الإيجاب ثم شاء تغير الظروف التي ساهم تيار اليسار نفسه في خلقها وإيجادها عبر سوء تقديره وتصرفاته الى إبعاده عن الساحة السياسية العراقية وبالتالي أفول نجمه لفترة طويلة.. وبعد سقوط نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين في 9 نيسان 2003 توقع الكثيرون أن يلعب هذا التيار دوراً أساسياً ومحورياً في رسم صورة الأحداث والمشاهد التي ستقع بعد ذلك الحدث إلا أن الجميع ومنهم نحن فوجؤا وصُدِموا بالدور الضعيف والثانوي والهامشي والخجول والمهادن الذي لعبه ولايزال يلعبه اليسار منذ ذلك التأريخ وبدؤا يطرحون الكثير من التساؤلات عن سبب تراجع دور هذا التيار الذي يبدوا بأنه قد بدأ يسير شيئاً فشيئاً نحو نهايته.

أن هنالك الكثير من المواقف المؤسفة والمثيرة للجدل التي تسجل على مسيرة اليسار العراقي منذ تأسيسه وحتى هذه اللحظة إلا أن سكوته عما يحدث حالياً من إنتهاكات صارخة وبشعة للحريات العامة والخاصة للعراقيين وبالأخص للمرأة العراقية يبعث على الأسف لما آل إليه حال هذا التيار السياسي العريق !.. ففي الوقت الذي كان اليسار العراقي (داك طبل) لكل الأنظمة التي شهدها العراق على الإطلاق منذ تأسيس دولته الحديثة عام 1921 وحتى سقوطها في 2003 رغم هامش الحرية الكبير الذي كانت تتمتع به المرأة العراقية في ظل هذه الأنظمة بغض النظر عن إختلافنا أو إتفاقنا معها نراه اليوم صامتاً صمت أهل الكهف عما يصيب المرأة العراقية من ظلم وحيف من قبل أتباع وميليشيات أحزاب السلطة الحالية التي كانت حليفته في السابق ولاتزال وهو اليوم من أشد الداعمين لحكوماتها وهو موقف غريب من قبل تيار تقدمي حداثي متمدن يفترض أن يكون على رأس التيارات التي تتصدى وتقف بوجه مثل هكذا توجهات ظلامية متخلفة إلا إن هذا العجب سرعان ماسيزول إذا علمنا ووفقاً لأخبار مؤكدة من داخل العراق بأن بعض نشطاء اليسار في محافظات العراق الجنوبية بدئوا يتمثلون في الكثير من تصرفاتهم بأقرانهم من نشطاء الإسلام السياسي الذين تربطهم معهم علاقات دهن ودبس ويتعاملون معهم بكل مودة ولايقولون عنهم (الإسلاميون الراديكاليون أو الطائفيون الظلاميون) كما كانوا يقولون عمن سبقوهم (الملكيون الرجعيون أو القوميون العنصريون أو البعثيون الفاشيون) فهل هؤلاء يمثلون اليسار حقاً؟.. كما سجّلت بعض قواعد اليسار العراقي سواء تلك التي في داخل العراق أو خارجه سابقة في تأريخ تيارات اليسار العالمية عندما إستُقطِبت طائفياً خلال الإنتخابات التي جرت في العراق بعد سقوط النظام السابق عبر التصويت لقوائم تضم أحزاب وتيارات دينية طائفية والإمتناع عن التصويت للقائمة التي كانت تضم حزب اليسار الأول في العراق مما يكشف بوضوح حقيقة دوافع بعض مُدّعي اليسار الطائفية والمناطقية والإجتماعية البعيدة عن الحداثة والتقدمية والديموقراطية التي إدّعوها وصدعوا بها رؤوسنا لعقود.

لقد بات واضحاً اليوم بأن بعض اليساريين ينطلقون في تحديد مواقفهم مماحدث ولايزال يحدث في العراق منذ 9 نيسان 2003 من منطلق مضحك ومخجل وهو أن النظام الحالي جاء بعد نظام صدام الذي كان عدوهم في حين كان أصحاب النظام الحالي حلفائهم أيام معارضتهم جميعاً لنظام لصدام لذا لابد لهم بل لزاماً عليهم من منطلق العناد والثأر لا مِن منطلق العقل والمنطق والتقييم الموضوعي تأييد النظام الحالي حتى وإن كان فاشلاً كسابقه ومبنياً على أسس خطيرة.. فمشروع صدام السياسي كان مشروع قومي شمولي تحول شيئاً فشيئاً لمشروع ديكتاتوري بحت عبر ترسيخ سلطة الحزب الواحد التي تحولت لسلطة القرية الواحدة ثم العائلة الواحدة وأخيراً الفرد الواحد الذي يمثله صدام نفسه والذي جَرّ الخراب والدمار على العراق أما المشروع السياسي الحالي فهو مشروع إسلامي راديكالي طائفي شمولي بإمتياز بات واضحاً أن لاخير فيه للعراق وشعبه كسابقه فإذا كان مشروع صدام قد قام على مدى ثلاثين عاماً بتدمير هيكلية الدولة العراقية وتصديع بنيانها من الخارج فإن المشروع الحالي قد قام خلال فترة قياسية هي 5 سنوات لاغير بتدمير ليس فقط هيكلية الدولة بل وأسسها ودعاماتها وصولاً لتدمير بنيانها بالكامل وإستبدالها بدولة هجينة مسخ لاعلاقة لها بالعراق الذي نعرف لذا لا أفضلية واضحة للمشروع الحالي على الذي سبقه ليحظى بهذا التأييد الواسع والدعم اللامحدود من قبل شرائح واسعة من اليسار العراقي ولتحظى أحزابه الإسلامية الراديكالية الطائفية التي كانت ولاتزال تُكفِّر اليسار بهذا الدفاع المستميت عنها من قبل من تحلل دمائهم رغم أنهم يلمسون لمس اليد ويرون بأم أعينهم يومياً حجم الدمار الذي أحدثه ويحدثه هذا المشروع في العراق!.. فهل السبب هو دوافع طائفية لم يعد من الممكن إستبعادها في ظل ظهور أدلة كثيرة ودامغة تثبت وجودها على الأقل في نفوس البعض؟ أم إن السبب والثمن كان نشوة السماح بالعمل السياسي الشكلي علناً بعد سنوات طويلة من العمل السري وفرحة التواجد كديكور تكميلي ورقم طائفي بمجلس الحكم سيء الصيت والحصول على منصب وزاري أو منصبين في حكومات لا شَرعية سيذكرها تأريخ العراق بصفحات سوداء؟.. وهو سبب ماأتفهه وثمن ماأبخسه لأعرق تيار سياسي في العراق يحمل إرثاً يؤهله لأن يتصدر بثقة وجدارة عملية سياسية سليمة بدلاً من السير والهرولة بركاب عملية سياسية مريضة وفي غرفة الإنعاش سرعان ما ستلفظ أنفاسها الأخيرة.

عزيزي القاريء.. صدِّق أو لاتصدِّق !.. قد تلتقي في يوم من الأيام بشخص يدعي بأنه (يساري) ويعيش في أوروبا يتغنى بأحزاب الإسلام السياسي ويروج لآيديولوجياتها ويدافع عن حقها بالمشاركة في العمل السياسي بل وربما ستفاجأ بدفاعه ودفاع أمثاله المستميت عن تجربة راديكالية شمولية كتجربة الجمهورية الإسلامية في إيران وتفضيله لها على تجربة ديموقراطية ليبرالية كالتجربة البريطانية أو الألمانية مثلاً !.. بل إن بعض مدعي اليسار داخل العراق وخارجه باتوا من الزبائن الدائميين لبعض الجوامع والحسينيات ويتواجدون فيها ويحضرون مناسباتها الدينية أكثر من تواجدهم بالمراكز الثقافية وحضورهم لمحاضراتها الفكرية وندواتها الثقافية ومعارضها الفنية وتبدوا هذه الضاهرة المخجلة أكثر وضوحاً خارج العراق فهل هذا هو ما آل إليه حال اليسار العراقي في مطلع القرن الواحد والعشرين؟ وماهي الصورة التي سيعكسها ويوصلها أمثال هؤلاء عن اليسار لأحرار الشعب العراقي وللمؤمنين بالأفكار الديموقراطية الليبرالية التقدمية من أجياله الشابة؟ وهل إن مثل هذه الصورة المشوهة والرسالة الخاطئة ستخدم اليسار العراقي وتزيد من شعبيته أم ستضره وتنهيه؟.. إن الحقيقة التي يحاول البعض اليوم التغاضي عنها هي إن اليسار العراقي لايمتلك حالياً قاعدة شعبية واسعة لا في الداخل ولا في الخارج وإن وجدت فهي في غالبيتها من أجيال سابقة نجح تيار الإسلام السياسي في إستقطاب وكسب شرائح منها (بفهلوته ووصوليته) وخسرها اليسار(ببساطته وفهاوته وبروده) أما الأجيال الشابة فوجودها شبه معدوم ضمن هذه القاعدة لأنه ماتزال بينها وبين اليسار العراقي جدران عازلة وأسئلة عالقة لأسباب عديدة منها التي ذكرناها آنفاً تحتاج الى كثير من الوقت والجهد من قبل اليسار العراقي لتذليلها وتوضيحها ولكن رغم كل ذلك يبقى اليسار على رأس التيارات السياسية العراقية القليلة التي لاتزال تحظى ببعض التقدير من شرائح واسعة من الشعب العراقي بضمنها تلك التي تختلف معه في الآيديولوجيا. لذا إن أراد اليسار أن يعود إليه حضوره السابق بين الجماهير العراقية وأن يكون فعلاً الممثل الحقيقي لها ولطموحاتها فعليه إجراء مراجعة تأريخية كاملة لمسيرته النضالية الطويلة وإعادة تقييم بعض المحطات المهمة في هذه المسيرة ووضع النقط على الحروف للكثير منها كما نتمنى عليه أن يأخذ بنظر الإعتبار مجموعة من الإقتراحات التي ربما سبَقَنا الى بعضها آخرون والتي نرجوا أن تجد لها صدوراً رحِبة وآذاناً مفتوحة صاغية لدى من يتصدون اليوم لتمثيل هذا اليسار ويدعون الحرص على تأريخه وهي:

- تغيير تسمية الحزب الشيوعي التي يراد على مايبدوا أن تكون أزلية لحزب اليسار الرئيسي في العراق والتي يمثل الإبقاء عليها رغم كل التغيرات والمستجدات التي طرأت على الساحة الدولية والمحلية دليلاً على تقولب المفاهيم وتوقف الزمن لدى بعض الأطراف في هذا الحزب على الرغم من إن أغلب الأحزاب اليسارية في العالم قد غيرت أسمائها الى أسماء أكثر قبولاً وموائمة لمفاهيم العصر الحالي.. فغالبية البشر ومنهم العراقيين طبعاً يؤمنون بمفاهيم العدالة الإجتماعية والمساواة بين البشر وهي المفاهيم التي يتبناها اليسار العالمي في كل أرجاء المعمورة ولكن كم من هؤلاء يؤمنون بمصطلح الشيوعية بما يثيره من إشكالات معروفة؟.. لذا لاندري ما المانع من تغيير إسم الحزب الشيوعي الى حزب اليسار الديموقراطي على سبيل المثال علماً بأن هنالك أسماء كبيرة من منظري اليسار قد سبقتنا الى مثل هذا الإقتراح ولكن لاعين رأت ولا أذن سمعت ممن لديهم القرار في مثل هذا الموضوع.

- تصحيح موقف اليسار الحالي الغير واضح من النظام الملكي وإعلان موقف واضح إنساني على الأقل يستنكر ويندد بالمجزرة التي حدثت في 14 تموز 1958 للعائلة المالكة ويعتبرها جريمة ويُجرّم كل من قام بها وليس الإستعداد للإحتفال باليوبيل الذهبي لإنقلاب 14 تموز كما تحاول أن تفعل اليوم بعض الجهات المحسوبة على اليسار والحزب الشيوعي العراقي!!

- تحديد وإتخاذ اليسار ممثلاً بالحزب الشيوعي لموقف واضح وشجاع مما يحدث بالعراق اليوم بدئاً بالعملية السياسية المشكوك بشرعيتها مروراً بالدستور المثير للجدل وصولاً لأحزاب الإسلام السياسي التي تدير هذه العملية السياسية ووضعت هذا الدستور وتمسك اليوم بزمام السلطة في العراق سواء تلك التي ظهرت في داخل العراق أو تلك التي كانت تعمل الى جانب اليسار أيام المعارضة والكف عن مجاملتها ومجاراتها في كل ماتفعل حتى على حساب الثوابت الفكرية لليسار وفَض أي إرتباط أو إتفاق سابق إلتزم به اليسار مع هذه الأحزاب التي كشفت اليوم عن حقيقتها البشعة.

- إجراء اليسار مراجعة شاملة لرؤاه وإنطباعاته وأساليب عمله السابقة وإعادته النظر بخطابه الإعلامي الرتيب والمستهلك وهو برأينا المتواضع السبب بكون القواعد الجماهيرية لحزبه الرئيسي في العراق اليوم هي نفسها التي كانت قبل 40 سنة وأتحداه أن يقول ويدعي بأنه قد كسب أو إستقطب دماءً شابة أو أجيالاً جديدة الى صفوفه منذ عودته للعراق بعد 2003 وحتى الآن إلا ماندر فهو لايزال متمسكاً بتكرار وإجترار نفس الرؤى والأساليب والإنطباعات والمصطلحات السابقة التي باتت غير عملية وغير مجدية وغريبة على الكثيرين في الوقت الذي بات لزاماً عليه الإنفتاح على الأجيال الجديدة التي نشأت خلال العقود السابقة داخل العراق يوم كان الحزب خارجه سواء تلك التي لاتزال موجودة بالداخل حتى الآن أو تلك التي ركبت قطار الغربة خلال التسعينات أو بعد الإحتلال في2003 وتعيش اليوم بالمنافي.. فأي فِكِر وأي حزب يحمل فِكِر لايمكن أن يستمر ويطور بالتقوقع والإنكفاء بل بالتواصل مع العالم الخارجي وما بين اليسار وهذه الأجيال بحار عميقة ومسافات شاسعة تقع عليه محاولة تذليلها.

عموماً ليس لدينا مانقدمه سوى النصيحة لكنك لاتهدي من أحببت بل الله يهدي من يشاء.. وحالياً نقول مبروك لليسار وحزبه الرئيسي في العراق(وبالعافية عليه) حلفاء الأمس وشركاء اليوم من أحزاب الإسلام السياسي الذين سينتهون ويزول سلطانهم عاجلاً أو آجلاً ومبروك عليه الأسابيع والأشهر السابقة واللاحقة التي عاشها وسيعيشها في كنفهم وفي ظل حكمهم الظلامي وحكوماتهم الطائفية الميليشياوية التي إستكثر مجرد الأنسحاب منها في حين يتباهى حتى الآن بأنه قد رفع يوماً السلاح بوجه حكومات ليبرالية وقومية علمانية.. ولكن وكما بدأ يطفوا على السطح يبدوا بأن الأمر لاعلاقة له بالمباديء بل تقف خلفه دوافع وغايات أخرى وبالتالي إذا إستمر حال اليسار العراقي على ماهو عليه اليوم فنهايته التلاشي والتبخر من الساحة السياسية العراقية لأنه شيئاً فشيئاً سيفقد أعضائه ومحبيه وحتى المتعاطفين معه ولن تتبقى منه سوى أطلال وذكريات يتحدث بها الناس عن ما كان يسمى يوماً في العراق (اليسار).

مصطفى القرة داغي

[email protected]