تسود الساحة العراقية منذ سقوط النظام الاسود وحتى الآن صراعات مختلفة بدءاً بالعنف المسلح وانتهاءً بالصراع السياسي تحت قبة البرلمان. لا شك ان هذه الصراعات سيما المسلح منها تقدم للمحتل الامريكي ذريعة استمرار الاحتلال على طبق من ذهب، ذريعة معمدة بدماء العراقيين وعذابهم وشقائهم.


الجيش العراقي غير قادر على بسط سلطته على ارض بلاده، ويستبعد ان يكون قادرا على ذلك في الأمد القريب، سيما وانه لا يمتلك قوة جوية ضاربة وغير مؤهل مهنياً وتسليحياً وتسود صفوفه امراض الساحة السياسية العراقية. لذلك فان عدم ابرام معاهدة عراقية ndash; امريكية ورحيل القوات الامريكية المفاجئ او السريع كما تطالب به الكثير من الاصوات العراقية وغير العراقية يترك فراغاً امنياً وعسكرياً كبيراً داخل العراق. وهذا الفراغ يستدرج اصحاب الشهيات المفتوحة في عراق مضطرب ليحقق هؤلاء مصالحهم وطموحاتهم ورغباتهم على حساب مصالح الشعب العراقي، خصوصاً انهم يمتلكون نفوذاً داخل المجتمع السياسي العراقي يجعلهم قادرين على اضرام حرب اهلية لو تطلبت مصالحهم ذلك.


الطرف الاقدر على الاستفادة من الفراغ العراقي بعد انسحاب القوات الامريكية السريع سيكون بالتأكيد ايران التي تملك من القوة والعائدات والاوراق داخل المجتمع السياسي العراقي ما يغريها بالتحرك السريع لاحكام حضورها القوي على المسرح العراقي.
هناك أيضا،الجوار الاقليمي الآخر الذي تسيطر عليه نزعة ثأرية تسندها لوائح لا تنتهي من وقائع لتدخلات خارجية يحملها الانتحاريون وفرق الاغتيالات. لم تعمل هذه التدخلات على توطيد استقرار العراق بعد انهيار حكم صدام حسين، بل عملت على دعم الاحتلال من خلال ضرب القدرة العراقية على بناء العراق ذاته كدولة مستقلة. يفضل الجوار الآخر بقاء العراقيين غارقين في دمائهم الى الابد، منكرا عليهم الحق في الحياة حتى لو كانت عسيرة على النحو الذي يعيشه العراقيون منذ اعوام.


ان الطموح الايراني وتزايد سيطرة ايران على المسرح السياسي العراقي من جانب واصرارها على المضي في مشروعها النووي والفراغ الوطني الامني والعسكري العراقي من جانب آخر دفع بعض دول الجوار الى النفخ في بعث صدام ومده بالدعم المعنوي والسياسي والمالي ليتسلل الى الساحة السياسية العراقية ثانية بما لديه من قواعد مدنية وعسكرية ليضاعف مساحة المقابر الجماعية وليوازن الخطر القادم من الجار الشرقي للعراق.


ان الجوار الاقليمي لا يريد رؤية العراق كدولة مستقرة، ناهيك بعراق قوي، لأسباب تعود للنزعة الثأرية وخشية من انقلاب العراق الُمدمَّر والمحتل الى نموذج اقتصادي وسياسي يطرح على حكام الدول المجاورة اسئلة صعبة تدور حول شرعية السلطات المستحوذين عليها وشرعية وجود الجيش الامريكي الذي يسرح ويمرح على ارضهم بمنتهى الحرية والحفاوة البالغة وحول شرعية الوجود الاسرائيلي الرسمي وغير الرسمي داخل بلدانهم.


ان الرعب الايراني الذي يسيطر على السياسة الامريكية لا يستبعد ان يجعل امريكا تبارك هذا الحل، كحل محتمل لمأزقها السياسي والعسكري. ان جهوداً مكثفة ومرسومة بدقة تبذل، عربياً وغير عربياً، وبحجة المصالحة الوطنية لدفع امريكا الى النظر بجدية لهذا الحل.


هذا من جانب ومن الجانب الآخر فان عدم ابرام اتفاقية عراقية امريكية يطرح الحل المؤقت، حل التمديد للقوات الامريكية لسنة اخرى. وهذا يعني الاستمرار في حكم العراق لسنة اخرى بموجب القرار 1483 السيء الصيت (ووفقاً للبند السابع) الذي نصب بريمر حاكماً أوحداً للعراق وما جرته قراراته السيئة من ويلات على العراق. انها قرارات ما زال يعاني منها حتى الآن، وعلى رأسها حل الجيش العراقي وتدمير البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية العراقية.


لمواجهة الاخطار المحتملة التي اشرنا اليها وللخروج مما يعيشه العراق الآن تحت ظل الحكم الامريكي بموجب قرار مجلس الامن الرقم 1483، نرى عقد اتفاقية عراقية ndash; امريكية متوازنة تسترشد باتفاقيات الدول المماثلة مثل المانيا واليابان وكوريا، وتستثمر الامكانيات الامريكية والاقتصادية والسياسية الهائلة وتحقق سيادة العراق ومصالحه الحقيقية المختلفة، يقرها مجلس الوزراء ومجلس النواب ويُستفتى عليها الشعب العراقي اذا اقتضى الامر ذلك.
بعض ملامح هذه الاتفاقية وليس حصراً، نرى ان تكون كما يلي:
1) ان تكون خالية من كل ما يخل بسيادة العراق وبالذات:
أ- تقليص عدد القوات الامريكية الهائل بصورة تدريجية مبرمجة.
ب ndash; ان تخضع تحركاتها داخل العراق برياً وبحرياً وجوياً للقرار الرسمي العراقي.
ج ndash; ان يكون منتسبوها خاضعين للقانون العراقي وامام القضاء العراقي.
د ndash; تنسحب الفقرة (ج) على القوى والشركات الامنية مهما كانت جنسيتها.
2) ان تعوض العراق عما سببته او تسببه مستقبلاً عن اية اضرار بسبب وجودها على الارض العراقية.
3) ان تتعهد بالمساعدة على بناء جيش عراقي حديث وكفوء، ومؤهل تسليحياً وتكنولوجياً ومهنياً.
4) ان تساعد على بناء اقتصاد عراقي متين ومتطور باستغلال كل موارده وبالذات النفطية سيما الصناعة النفطية.
وينسحب ذلك على الغاز الذي ما زال يبدد حتى الآن هدرا.
5) مساعدة العراق ودعمه في التفاوض مع تركيا بالذات وسوريا بالدرجة الثانية على نيل العراق حصته العادلة من المياه، اذ يواجه العراق حالياً ومستقبلاً جفافا شديدا، سيما عند اكتمال تنفيذ الـ 22 سداً تركياً التي تنوي الحكومة التركية تنفيذها والتي لم ينفذ منها حتى الآن سوى عدد قليل وكذلك المشاريع السورية الاكثر تواضعاً.
6) الغاء كل القرارات الدولية المجحفة التي ترتبت على حروب صدام الهوجاء والتي تحمل الشعب العراقي اضرارها وعانى منها اكثر من المجتمع الاقليمي والدولي.
7) دعم العراق في حالة اي تجاوز لحدوده.
8) وضع جدول زمني للوجود العسكري الامريكي على الارض العراقية.
9) ان يستفاد من كل الجوانب الايجابية للاتفاقيات المماثلة التي مكنت دول مثل المانيا واليابان وكوريا من بناء نفسها واستعادة مكانتها السابقة وسيادتها.
لا شك ان العراق المحتل يريد ان يتحرر من جملة القيود المكبلة له من الاحتلال وممن يساهم في تأييد الاحتلال من خلال ضرب قدرة العراق الذاتية على بناء ذاته كدولة مستقلة. الخيار المطروح الآن، العملي والواقعي، هو من الخيارات التاريخية المحصورة بين السيء والاسوأ. الترف ممنوع هنا واحتكار الوطنية والقومية والحس الديني ممنوع هنا ايضاً، اذا كان المطلوب بناء عراق مختلف عن عراق المقابر الجماعية. ان الدعوة الى اولوية مقاومة الاحتلال على كل اولوية اخرى لا تعني سوى النفخ في نيران حرب اهلية لا اول لها ولا آخر، ولا تسلم من شرورها حتى دول الجوار.

مجيد الحاج حمود