لماذا لجأ، أو أضطرَّ، مصطفى كمال quot;أتاتوركquot; لتغيير أيديولوجيَّة الدولة التركيَّة، واتَّجه لتبني العلمانيَّة، واستبدل النظام السلطاني _ الإسلامي، quot;دولة الخلافةquot;، بالنظام الجمهوري العلماني؟. ما هو دور اليهود في إنتاج النسخة الجديدة من تركيا، عبر جماعة الاتحاد والترقِّي، التي بدأت حكم تركيا فعليَّاً سنة 1908، وتكلَّل هذا الحكم، بوصول مصطفى كمال باشا، (وهو من يهود الدونما القاطنين في سالانيك)، لسدَّة الرئاسة، وبدئه عمليَّة الفصل القسري والدموي للدين عن الدولة؟. لماذا جرت هذه الانعطافة التاريخيَّة الحادَّة في تركيا سنة 1923، بعد مضي ستة أعوام على الثورة البلشفيَّة على النظام القيصري _ الأورثوذوكسي سنة 1917. لماذا تبنَّى أتاتورك النموذج الغربي للدولة، وهو يعلم أن فرنسا وبريطانيا هما اللتان تقفان وراء تقسيم التركة الجغرافيَّة والبشريَّة للسلطنة العثمانيَّة في اتفاقيَّة ساكيس _ بيكو سنة 1916؟. ما هو سر العداء الضمني للأتاتوركيَّة، الذي يخشى أن يجاهر به الإسلام السياسي، بنسختيه؛ الأربكانيَّة والأردوغانيَّة، والحنين إلى السلف العثماني quot;الصالحquot;، والرغبة في إعادة ترتيب الدولة، بما ينسجم وهذه الرغبة؟. إن استطعنا الإجابة عن هذه الأسئلة، وربما دزينة أسئلة أخرى متفرِّعة عنها، حينئذ، قد نصل لالتقاط رؤوس الخيوط التي ستقودنا لمعرفة جوهر وماهيَّة الأزمة الحاليَّة العاصفة بتركيا، والتي باتت تأخذ أبعاداً وأشكالاً سياسيَّة، تُنذر بخضَّات قويَّة واهتزازات حادَّة، ستحدِّد هويَّة تركيا.

بتغلغل العنصر اليهودي في جسد السلطنة العثمانيَّة، ووصوله لمراكز القرار في الباب العالي، بدأ العدُّ التنازلي للهيبة والسطوة والهيمنة التي كانت تتمتَّع بها السلطنة. وبوصول جماعة الاتحاد والترقِّي للحكم، والنفوذ اليهودي فيها كان قويَّاً جداً، بات دور السلطان هامشيَّاً، ودخلت السلطنة الحرب الكونيَّة الأولى، متضعضعة. وقبل أن تخرج منها مهزومة، زادت من حجم أزماتها الداخليَّة، التي أخذت شكل الهجوم على الداخل، بغية الاستحصال على نصر وهمي، فكان quot;الهولوكوستquot; الأرمني، سنة 1915 _ 1917، وراح ضحيته 1،5 مليون أرمني و 0،5 كردي. وعليه، ليس من المبالغة أو التجنِّي، القول: إن اليهود، يقفون وراء خراب السلطنة، ومذابح الأرمن. هذا الخراب الهائل، الذي أشار إلى أن quot;الرجل المريضquot;، شارف على سكرات الموت، وفتح الطريق أمام لمعان نجم مصطفى كمال، كـquot;منقذquot;، للمتبقِّي من تركة السلطنة، وتحصينها بالنظام الجمهوري، وإعلان الطلاق التام مع هويَّة الدولة، وهي الإسلام، وتبنِّي العلمانيَّة، تغزُّلاً بالغرب الأوروبي. لأن الأخير، كان مزمعاً على إطلاق مخطط جديد، بعد سايكس _ بيكو، يعيد تقسيم تركة السلطنة، عبر اتفاقيَّة quot;سيفرquot; سنة 1920، التي كانت تقضي بضرورة قيام دولة أرمنيَّة وكرديَّة شمال شرق، وجنوب شرق تركيا. وتالياً، استحوذ اليهود على تركيا، وضربوا جذورهم فيها عميقاً، قبل استحواذهم على الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة وتطويعها. وهذا ما يفسِّر اعتراف تركيا، كأول دولة إسلاميَّة، بالدولة العبريَّة سنة 1949. وتربطها الآن بإسرائيل أوثق الاتفاقات الأمنيَّة والعسكريَّة الاستراتيجيَّة.

على ضوء ذلك، إن تبنِّي أتاتورك للعلمانيَّة سنة 1923، كان تكتيكاً سياسيَّاً، ولم يكن ثمر جهد تنويري ثقافي مرير من الصراع مع المؤسَّسة الدينيَّة، كما جرى في أوروبا، التي جاءت فيها العلمانيَّة، على متن ثلاثة قرون من الصراع مع الكنيسة، وثمرة عصر النهضة والتنوير الأوروبي. وما يؤكِّد أن سعي أتاتورك نحو العلمانيَّة، لم يكن استراتيجيَّاً، هو تقرُّبه من لينين، وإيهامه له، أنه اشتراكي النزعة، وأنه انقلب على الإقطاع والفساد السلطاني...الخ. في حين، كان أتاتورك يميل نحو الغرب. وسعى أتاتورك، عبر تبنِّي النظام الجمهوري العلماني، تحصين تركيا من الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي، ونجح في ذلك.

بدأ أتاتورك علمانيَّته، بنكثه لوعوده للأكراد، التي قال فيها: إن الجمهوريَّة هي مشروع شراكة كرديَّة _ تركيَّة. وسَحَقَ تمرُّداتهم (1925، 1930، 1938...)، بوحشيَّة، قلَّ نظيرها. واتَّجه لاقتلاع الدين من المجتمع، عبر سلسلة إجراءات تعسُّفيَّة: ترجمة القرآن الكريم للغة التركيَّة، ومنع قرأته بالعربيَّة. ترجمة الآذان للتركيَّة، ومنع ترديده بالعربيَّة، تغيير اللغة التركيَّة من الأحرف العربيَّة للأحرف اللاتينيَّة...، إلى درجة منعهِ لاعتمار الطرابيش العثمانيَّة، على أنها رموز quot;دينيَّةquot; تنتمي للحقبة العثمانيَّة!. ولو كان مصطفى كمال، من الأتراك الأقحاح، (وهذا ما هو حرام على النخب السياسيَّة والثقافيَّة الخوض فيه في تركيا)، لقلنا: إن موقفه العدائي من الإسلام، واعتباره ديناً عربيَّاً، يتأتَّى من النزوع القومي التركي الطوراني. إلا أن تركيَّة مصطفى كمال، قيد مساءلة، ومشكوك فيها!؟. وعليه، إن علمانيَّة تركيا، هي علمانيَّة مأزومة منذ نشأتها، بولادة قيصريَّة، لأنها قامت على قمع الدين، والموروث العربي فيه، ولم تُبتنى على فصل الدين عن الدولة، كما جرى في أوروبا.

أوروبا كانت أكثر تديُّناً من السلطنة العثمانيَّة، وخاضت حروباً دينيَّة خارجيَّة (الحروب الصليبيَّة) وداخليَّة شرسة. وقصص محاكم التفتيش وفظائعها غنيَّة عن التعريف، والحروب الكاثوليكيَّة _ البروتسنتيَّة معروفة. وليس بخافٍ، إن الكنيسة الكاثوليكيَّة، قامت بإعدام أكثر من مليون شخص بتهمة الهرطقة. أمَّا الآن، فقد تقلَّصت حدود الكنيسة وسلطتها وسطوتها ضمن حدود الفاتيكان. فقيم الحداثة والديموقراطيَّة والعلمانيَّة الموجودة في المجتمعات الغربيَّة، تقف وراءها جهد عقول مئات النهضويين والتنويريين، وعشرات الملايين من الضحايا، وحربين كونيتين، والعديد من الحروب الأهليَّة...الخ. امَّا في تركيا، فجاء تبنِّي قيم الحداثة والعلمانيَّة بشكل صوري وقسري، دون جهد مجتمعي. وتمَّ استبدال الدولة الدينيَّة، بالدولة _ الأمَّة، بنسخة تتماهى والفاشيَّة والنهازيَّة. وتمَّ فصل الدين عن الدولة بالعنف والإكراه، وتحويل الأتاتوركيَّة إلى دين للدولة، ثم فصل المجتمع عن الدولة، ثم فصل العلمانيَّة عن الدولة، ثم فصل الدولة عن الدولة، وصولاً لدولة محنَّطة، تشكو من وهم الحداثة، وأزمة الهويَّة الملتبسة.

يزعم البعض في تركيا؛ إنهم يدافعون عن العلمانيَّة، ولا يدرون أنهم يسيئون لها، أكثر من أردوغان نفسه، لأن أفضل طريقة لنسف فكرة ما، هو الدفاع عنها بشكل مبتذل. وواقع الحال في العلمانيَّة التركية، أن المدافعين عنها، اتجهوا للسلوك المافيوي، وامتهان المؤامرات والدسائس والقتل والإرهاب.

مهما زعم أردوغان، تبني قيم الحداثة، وإظهار حزبه بأنه علماني، ولا يسعى لجر تركيا للوراء، فهذا محض دجل. وقوة أردوغان، تتأتى من غباء المدافعين عن العلمانيَّة، إذ إنهم يدافعون عن بطانتهم المهترئة ومسلكهم الأسود، الدموي في التعاطي مع أزمات المجتمع والدولة، بأسلوب يتنافى وقيم الحداثة والديموقراطيَّة والعلمانيَّة. وإن استطاعت تركيا الخروج من معمعة الصراع بين العلمانيَّة المشوَّهة والإسلاميَّة المستبطنة، بإنجاز علمانيَّة جديدة، بعيدة من الأتاتوركيَّة والأردوغانيَّة، حينئذ، يمكن الاطمئنان على مستقبل تركيا وعلمانيتها.

هوشنك أوسي
[email protected]