التقديم والتأخير من المواضيع التي إهتم الباحثون بها سواء في القرآن الكريم أو الأدب العربي وقد أفرد لها العلماء أبواباً بل وألفوا فيها مصنفات كثيرة لما لهذا الموضوع من أهمية. لأن تقديم الألفاظ بعضها على البعض الآخر لا يأتي إعتباطاً وإنما لا بد من أسباب تجعل هذا اللفظ يتقدم على غيره من الألفاظ في سياق الكلام، ومن أهم تلك الأسباب هو العناية والإهتمام بما ينسجم ومقتضى الحال، لذلك فإننا نرى أن القرآن الكريم يقدم ألفاظاً في موضع ويؤخرها في موضع آخر بما يتلائم ومقتضى الحال. فقد نجد القرآن الكريم يقدم السماء على الأرض في موضع ويؤخر السماء في موضع آخر حسب سياق الكلام فإذا كان غرض السورة بيان شؤون السماء والملائكة والجنة والنار فلابد هنا من تقديم السماء أما إذا كان السياق يشير إلى أغراض دنيوية فإن الأرض تقدم في هذه الحالة. وكذلك الحال بالنسبة للجن والإنس فبالرغم من أن القرآن الكريم راعى السبق الزمني للجن وجعل هذا اللفظ يسبق الإنس في كثير من آياته إلا أن هناك ثلاث آيات يقدم فيها الإنس على الجن لإعتبارات يقتضيها السياق كما في قوله تعالى : ( قل لئن إجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ) الإسراء 88.

وتقديم الإنس هنا لابد منه كون الآية ناظرة لموضوع التحدي والمجيء بقرآن مثل هذا القرآن ومن الأنسب أن يوجه التحدي للإنس أولاً لأنهم أصحاب الفصاحة والعلوم التي حملها القرآن الكريم وكذلك النبي الذي أنزل عليه القرآن الكريم من جنسهم وغير ذلك من الأمور التي جعلت الإنس يقدمون في هذا الموضع. علماً إن بعض الجن يعملون في القرآن الكريم كما في متفرقات سورتي الجن والأحقاف. وأيضاً نجد أن القرآن الكريم يقدم الإنس في موضعين آخرين في سورتي الجن والأنعام حيث يقول في الأنعام : ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ) الأنعام 112.

وذلك لأن المعاملة السيئة التي تلقاها الأنبياء من الإنس وشياطينهم تفوق الجن بكثير لما لها من أسباب لدى الأقوام الذين بعث الله تعالى الأنبياء لهم حتى أنهم تلقوا مختلف أنواع التعذيب على أيدي شياطين الإنس من المترفين. أما في قوله تعالى : ( وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على كذباً ) الجن 5. وهذا إستنكار من الجن أنفسهم مبطن بعدم تصديقهم من أن بعض الإنس ينسب إتخاذ الولد لله تعالى. وهذا الإستنكار فيه نوع من التوبيخ لهذا النوع من الإنس قبل الجن لذلك ناسب تقديمهم. ومع كل هذا الإهتمام الذي يشير له القرآن الكريم في تقديم كلمة على أخرى، إلا أننا لا يمكن أن نحصر هذا الموضوع الكبير في هذا الجانب ونكتفي بالقول أن هذه الكلمة أهم من تلك ونجعل الأسباب تقف عند هذا الحد فالحقيقة القرآنية أهم من هذا بكثير فهناك أبحاثاً أوسع لهذا المفهوم الذي يتجسد بمصاديق قرآنية متشعبة. فقد تكون قصة بكامل عناصرها وأبطالها قدمت على غيرها من القصص في حين أن الزمن الذي تعرضه تلك القصة مؤخر عن زمن القصة اللاحقة كما في قصص الأنبياء الواردة في سور.. الشعراء والأعراف ويونس وهود وغيرها من السور. لأن العبرة ليست في السبق الزمني وإنما تتعلق بمجريات الأحداث المشابهة لما يعانيه النبي ( ص ) من قبل قومه حسب الواقعة التي يتعرض لها القرآن الكريم وهذا يعد من أهم الأهداف التي من أجلها نزلت تلك القصص.

ولذلك فإننا نجد أن القرآن الكريم عندما يقص للنبي ما جرى من أمر البقرة التي أمر بني إسرائيل بذبحها والتي سميت سورة البقرة بإسمها نجد هنا أن عنصر المفاجأة يظهر بعد الحصول على البقرة وذبحها وكأن العرض قد إنتهى عند إكتمال العناصر الأولى للقصة إلا أننا نلاحظ أن السبب الذي ذبحت البقرة لأجله يظهر فجأة بإسلوب يثير دهشة المتلقي للقصة حين يفاجأ بقوله تعالى : ( فقلنا إضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ) البقرة 73. فهذا التأخير لو كان في مقدمة القصة لفقد المعنى المقرر لخلاصة الأحداث التي من أجلها ذبحت البقرة والمتمثلة في الإحياء بعد الإماتة. وهناك نوع آخر من التقديم والتأخير يراعي المعنى الخفي الموضوع للألفاظ وإن إختلفت مصاديقها كقوله تعالى : ( أفرأيت من إتخذ إلهه هواه ) الجاثية 23. وهذا التعبير لو كان بغير القرآن لكان من حق الكلام أن يكون : [ أفرأيت من إتخذ هواه إلهه ] ولكن القرآن قدم الإله. لأن إتخاذه لا يذم الإنسان عليه وإنما الذي يذم إذا بدل هذا الإله بالهوى. فأصبح الهوى يجري مجرى الإله لذلك أنزل بهذه المنزلة التي يذم عليها.

وتقديم المفعول الثاني لا بد أن يكون لعناية قرآنية لا تقبل الزيغ كما في قوله : ( فضحكت فبشرناها بإسحاق ) هود 71. يعني بشرناها بإسحاق فضحكت وإلا كيف يحصل الضحك منها قبيل البشارة التي أثارت العجب لديها وهي عجوز عقيم. وأحياناً يقدم القرآن الكريم بعض الكلمات غير المهمة على التي أهم منها وذلك لأسباب يفرضها المقام كقوله تعالى : ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا *** قيماً ) الكهف 1- 2. علماً أن قيمومة الكتاب أهم من الإعوجاج المفترض ولكن ناسب تقديمه إزالته عن الأذهان التي تعتقد به ثم الإتيان بالقيمومة وهذا أشد وقعاً في ذهن المتلقي. وهناك تقديم وتأخير يختص بتشريف بعض الأشياء على غيرها كتقديم السمع على الأبصار والليل على النهار والحر على العبد وغيرها من الأشياء التي تثير بعض الأسئلة لدى القراء والتي لا يتسع مجال المقال للرد عليها لذلك أعرضنا عنها. وهناك تقديم وتأخير يظهر تفضيل الأنبياء بعضهم على بعض كما في قوله : ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى إبن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً ) الأحزاب 7.

وذهب بعضهم إلى أن التقديم والتأخير يحصل أحياناً لمراعاة الفاصلة وهذا ضعيف ولا يمكن إعتماده لأنه حتى مع مراعاة الفاصلة فلابد من أسباب للتقديم والتأخير كما حصل في تقديم هارون على موسى من قبل السحرة في سورة طه وتقديم موسى على هارون كما في الشعراء والأعراف. وقد جاء في طه : ( فألقي السحرة سجداً قالوا آمنا برب هارون وموسى ) طه 70. وفي الشعراء : ( فألقي السحرة ساجدين *** قالوا آمنا برب العالمين *** رب موسى وهارون ) الشعراء 46 ndash; 47 ndash; 48. ولو تأملت الفرق بين الآيتين يظهر لك أن السحرة جمع كبير ولابد أن يكون بعضهم أعلم من بعض فالذين أشارت لهم سورة طه هم الذين لا يمتلكون العلم الذي يمتلكه المشار إليهم في الشعراء. وذلك يظهر في تقديمهم هارون على موسى مراعاة لكبر سنه وهذا شأن من لا يمتلك العلم لأنه يقدر الأمور على ظاهرها المتحقق عنده دون الولوج إلى حقائق الأشياء. أما الذين قدموا موسى على هارون في الشعراء فهم أكثر علماً ويظهر هذا في المقدمات التي ذكروها كما أشار تعالى بقوله [ فألقي السحرة ساجدين ] وهذا أكثر مبالغة من سجداً ثم تقديمهم [ آمنا برب العالمين ] الذي لم يذكر في طه ثم بعد ذلك قولهم [ رب موسى وهارون ] لأهمية موسى وهذا على بابه. وفي الآيات.. 120 ndash; 121 ndash; 122. من الأعراف تجد نفس آيات الشعراء مكررة. وقريب من هذا قوله تعالى : ( وإذا رأوا تجارة أو لهواً إنفضوا إليها وتركوك قائماً قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين ) الجمعة 11.

فتقديم التجارة على اللهو أمر على بابه يناسب إنفضاضهم ولكن ما عند الله لابد أن يسبق اللهو قبل التجارة وهذا من المحسنات البديعة في القرآن الكريم. وهناك مواقف كثيرة من هذا النوع تجري على هذا التناسق القرآني. فتقديمه تعالى للزانية على الزاني في قوله : ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) النور 2. يدل دلالة واضحة على أن المسؤول الأول عن جريمة الزنا هي المرأة لأن الزنا في النساء يكون أشنع من الرجال وتتوقف عليه آثاراً كبيرة. لذا فالسبب الرئيسي في هذا الجانب يتعلق في النساء أكثر منه في الرجال وذلك لأن المرأة هي التي بإمكانها أن تبعد الدوافع المؤدية للزنا بعدم تبرجها أو إظهار زينتها وكذلك الكشف عن ملامح جسدها أو إظهار تفاصيله. وفوق كل هذا هو التصرف السمج الذي تتبعه بعض النساء مع الرجال حتى وإن كان الحجاب والنقاب يستران كل شيء فيها، فإنها لوكانت قادرة على رصد تلك الأبواب لا يمكن للرجل أن يجري خلفها لأنها هي صاحبة التحكم في هذا الفعل مما يجعل الرجل في تبعية تناسب الإتجاه الذي تتخذه المرأة.

لذلك فإنه تعالى أمرها بعدم إبداء زينتها ولم يوجه هذا التحذير للرجل بل أمره فقط بغض البصر. وهذا عكس تأخيرها في السرقة في قوله : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم ) المائدة 38. وذلك لأن السرقة في الرجال أظهر لإعتماد الرجل على القوة الجسدية والجرأة وإن كانت بعض النساء لديها ما تقدم إلا أن القرآن الكريم يراعي الغلبة في الطرح وأيضاً فإن المسؤولية الأولى التي تترتب عليها المعيشة وتوفير ما يحتاجه البيت تلقى على عاتق الرجل أكثر من المرأة لا سيما وقت نزول القرآن الكريم وهذا الجانب لا يمكن إغفاله كما فعل البعض باعتبار القرآن الكريم كتاب كل العصور.

بل لا بد أن تعتمد الظروف التي نزل القرآن لعلاجها في وقت نزوله. لذلك ناسب تقديم السارق وتأخير السارقة في هذا السرد القرآني. فإن قيل : عنوان المقال : [ تقديم الزانية وتأخير السارقة ]. أما أنت فقد أسهبت في موضوع التقديم والتأخير بصور متعددة؟ أقول : لا يمكن أن يعتمد عنوان البحث كمحور أساسي في جميع التفاصيل المتعلقة بذلك الموضوع وهذا من المفارقات التي يقع الباحثون فيها لأن تسمية الشيء ببعضه أمر يدركه أصحاب العلم وخير شاهد هو القرآن الكريم فتسمية سورة البقرة بهذا الإسم لا يعني أن موضوع البقرة إستغرق السورة بكاملها. وهذا يجري في جميع السور القرآنية علماً أن أسماء السور لا يعتبر من الأمور التوقيفية بل هو من الأمور الإصطلاحية. لذلك فإنك تجد أن لبعض السور أكثر من إسم وربما يغير الإسم حسب طبعات المصاحف وحسب التغيرات الزمانية ولو كان هذا من عند الله لا يمكن لأحد أن يجري هذا التجديد على الأسماء علماً أن تلك الأسماء كانت متداولة في عصر التنزيل وقد نلاحظ هذا من تسمية النبي ( ص ) لأسماء بعض السور في أحاديثه كالذي روته عائشة : لا تعلموا نساءكم القراءة والكتابة وعلموهن سورة النور. أقول : النبي ( ص ) لا يريد بهذا الحديث عدم تعليم النساء القراءة والكتابة وإنما راعى الأهم على المهم، هذا إن صح الحديث.

عبدالله بدر إسكندر المالكي
[email protected]