أثارت مصافحة الرئيس العراقي جلال طالباني لوزير الدفاع رئيس حزب العمل الإسرائيلي إيهود باراك، ردود(لا بل ردات) فعل عربية رسمية وشعبية كثيرة، ما أدى إلى quot;تفريخquot; وquot;تفخيخquot; الكثير من الأسئلة الكبيرة والصغيرة، عربياً، حول هذه quot;المصافحة الملابسةquot;، وكأن الرئيس ارتكب بها جرماً، لا أول له ولا آخر، بحق العروبة وعراقه.
ويمكن اختصار غالبية ردود الفعل العربية المتشنجة والممتعضة، في طلب النائب عن كتلة التوافق السنية ظافر العاني، الذي استدعى فيه طالباني لشرح ما أسماه بquot;ملابسات مصافحتهquot; لإسرائيل.
حجب العاني الذي ركب الخطاب العربي الخشبي الميت، منذ زمانٍ كثيرٍ مضى، حق مصافحة كل العراق الرسمي والشعبي لإسرائيل، قائلاً: quot;ليس مسموحًا لأي رئيس حزب حتى وإن لم يكن في السلطة بل ولا حتى لأي مواطن عراقي أن يقيم علاقات مع دولة عدوة لم تعقد بيننا وبينها أي هدنةquot;.

المصافحة، كما نقلتها وسائل الإعلام، تمت عبر وساطة أعلى يدٍ فلسطينية 100%، حيث أنّ الرئيس محمود عباس هو نفسه، لا غيره، من قام بتقديم باراك إلى الطالباني، ووضع يد إسرائيل في يد العراق.

ولكن الغريب في الخطاب العربي الراكد، الذي عوّدنا منذ نعومة أظافرنا، على quot;عداوة إسرائيل وكره يهودهاquot;، وعلى quot;وحدة وحرية واشتراكيةquot; العربان، التي quot;ستلقي بدولة العدو في البحرquot; عاجلاً أم آجلاً، وعلى quot;الإيمان الأكيدquot; بquot;قضية فلسطينquot; المؤكدة، التي quot;سيفوز فيها العرب بالوجود الأكيد، مقابل سقوط أو إسقاط إسرائيل وشعب يهوه في لاوجودهم المؤكدquot;، هو أن هذا quot;الخطاب الهبابquot;، يقول فلسطين ويقوّلها، ويركبها ويركّبها، منذ ستة عقودٍ مضت، بالتمام والكمال، فيما هذه تخسر فلسطينييها، زماناً إثر آخر، بذات المثل الذي يخسر هؤلاء ولايزالون فلسطينهم.


هذا الخطاب الماضي جداً، الذي اتخذ من إسرائيل quot;شماعةً عربيةًquot; لصناعة quot;الوجود العربيquot; المفترض، عبر quot;ثقافة إما...أوquot;، أو quot;ثقافة إما نحن وإلا فلاquot;، أو quot;ثقافة نكون أو لا نكونquot;، أثبت خواءه وإفلاسه المبين، منذ quot;معارك العرب المصيريةquot; التي خرجت منها quot;الأمة المصطفاة من بين كل الناسquot;، وعرّابوها وراكبوها، بلا حمص، وبلا مصير، ولا هم يحزنون.


هذا quot;الخطاب العنتري المناضل جداًquot; على الورق وفي الآذان فقط، والذي أخذ على نفسه عهداً أبدياً بركوب رأسه، أوصل القضية الفلسطينية من مرحلة quot;دولتين لشعبين جارينquot;، واحدة للفلسطينيين على مساحة 45% وأخرى لليهود على مساحة 55%، بحسب قرار التقسيم الخاص بالأمم المتحدة عام 1947، إلى مرحلة quot;دولتين لشعبين عدوّينquot;، دولة لإسرائيل quot;مركزيةquot;، قوية، علمانية، موحدة، على مساحة 78%، وquot;دويلةquot; لفلسطين(لا بل دويلتين)، طرفية، ميليشياتية، هشة، منقسمة بين أمراء quot;دويلة حماسquot; وquot;دويلة فتحquot;، على هامش فلسطين، بمساحة أقل من 22%، حيث لا يزال الأخذ والرد بهذا الخصوص جارياً على قدمٍ وساق، في كل مؤتمرات العرب ومفاوضاتهم السرية والعلنية، مع quot;إسرائيل العدوةquot;.

في خطابه التاريخي، أمام الكنيست الإسرائيلي، في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 1977، قال الرئيس المصري الراحل أنور السادات: quot; لقد أعلنت أنني سأذهب إلى آخِر العالم. سأذهب إلى إسرائيل، لأنني أريد أن أطرح الحقائق كاملة أمام شعب إسرائيلquot;.


وفي سياق خطابه الواضح آنذاك، طرح السادات quot;حقائقهquot;، بوضوحٍ، أمام الإسرائيليين، سأكتفي ههنا بذكر واحدةٍ منها، في وقت لا يزال الخطاب العربي الرسمي والشعبي، على مستوى المواقف الحاسمة من القضية الفلسطينية، بعد أكثر من ثلاثة عقودٍ مضت على وضوح الرجل، يكاد لا يزال هو هو، لا واقعياً، متخلفاً، رجعياً، ينظر إلى الوراء، أو يراوح مكانه، في أحسن الأحوال.


يقول السادات في quot;حقيقته الثانيةquot;(من بين خمس حقائق،اعتبرَها بأن لا مهرب لأحد من الإعتراف بها): quot; إنني لم أتحدث ولن أتحدث بلُغَتَيْن، ولم أتعامل ولن أتعامل بسياستَيْن. ولست أتعامل مع أحدٍ، إلاّ بلُغة واحدة، وسياسة واحدة، ووجْه واحدquot;.
الرجل قال سلامه صراحةً، وعلى المكشوف، وذهب في وضح النهار على quot;قدمين ثابتتينquot;، واضحتين، إلى وضح quot;إسرائيل الواضحةquot;، ودخل إليها من أوضح أبوابها، والقى في quot;كنيستهاquot; خطابه الواضح، عن سلامٍ واضح مع الإسرائيليين، لأجل الوصول إلى quot;دولتين واضحتين لشعبين واضحينquot;.


أما عرّابو هذا الخطاب، القادم من صحارى العقل العربي الماضي، المعتلون لصهوة quot;ثقافة فتح الآخرquot;، وquot;الجهاد ضد الآخرquot;، وquot;تكفير الآخرquot;، وquot;جلد الآخرquot;، وquot;مقاطعة الآخرquot;، وquot;كره الآخرquot;، وquot;الإستعلاء على الآخرquot;، فيركبون أكثر من سياسة، ويتكلمون فيها بأكثر من لسان، ويواجهون الآخر بأكثر من وجه: سياسةٌ في الليل وأخرى في النهار، ولسانٌ لليل وآخرٌ للنهار، ووجهٌ في الليل وضد يمحوه آخر في النهار.

عملياً، كما تشهد الموائد والقمم العلنية والسرية، التي تجتمع وتشتبك فيها أيادي quot;دولة اليهودquot; مع العرب الرسميين، فإنّ إسرائيل، في القواميس العربية، لم تعد بتلك quot;العدوةquot; اللدودة، التي يجب أن يبلعها البحر أو ترمى في أحشائه، اللهم إلا بالكلام، وفي مؤتمرات الصوت العالي، المتخصصة في صناعة الشعارت الكبيرة، التي من الكلام إلى الكلام.


والحال، فإذا كان وضع أية يدٍ عربية في يد إسرائيل، تتهم على أنها quot;يد مشبوهةquot;، أو quot;ملتبسةquot;، أو quot;عميلةquot; لهذا وذاك، فأين هي إذن، quot;الأيادي العربيةquot;، quot;الغير مشبوهةquot;، وquot;الغير ملتبسةquot;، وquot;الغير عميلةquot;، والخارجة على يد إسرائيل؟

سوريا التي كانت بحسب quot;فطاحلquot; هذا الخطاب الناري العروبوي، quot;قلعة الصمود والتصدي والصخرة العربية التي ستتحطم عليها إسرائيل ومشاريعها الصهيونيةquot;، ها هي تخرج أخيراً من شرنقة quot;سياستها الليليةquot; مع إسرائيل، وتفاوضها في وضح النهار، وبلسانٍ طالما توعد بعثيوها بقطعه ومحوه عن بكرة أبيه.


هذه quot;القلعة البعثية العروبيةquot;، نموذجاً للخطاب العربي المزدوج، تفاوض هذه الأيام لا بل تسجدي إسرائيل في تركيا، عبر مفاوضات سميت بquot;اللامباشرةquot;، بينما تؤجج شارعها من دمشق إلى القامشلي، لquot;معاداة اليهود وإسرائيلهمquot;، ولا تزال تصر على quot;صناعة الأعداءquot;، وتستعدي كل من يسمع إسرائيل ويشاهد إسرائيل ويقرأ إسرائيل، ويغازل إسرائيل، فضلاً عن أنها لن تتردد في quot;قطعquot; كلّ يد quot;تُمدquot; إليها، لquot;ضرورات تقتضيها مصالح الأمة العربية، قومياً ووطنياً وأمنياًquot;، أو تحت أية ذريعة أخرى جاهزة سلفاً.
منذ حوالي أربعة عقودٍ مضت، وquot;سوريا الأسدquot;، تقتل داخلها وتسجنه وتجوّعه وتحكمه بquot;القانون الطارئquot;، بحجة إسرائيل quot;الطارئةquot;، وquot;الأعداء الطارئينquot; المهددين لأمنها وعروبتها.

ففي الوقت الذي ذهب السادات إلى إسرائيل ودخلها من quot;البابquot;، سمعنا ورأينا الكثيرين ممن quot;خوّنوهquot; وquot;عمّلوهquot; وquot;عادوهquot;، وquot;أسقطوهquot; من حق العروبة وأخواتها، قد دخلوا إلى إسرائيل من شبابيكها، أو رموا أنفسهم مع سلامهم الموقّع على بياض، في أقرب quot;طاقةٍquot; تؤدي إلى قلب إسرائيل.

اليوم وبعد كل هذه quot;الأيادي العربيةquot; التي دخلت أو ارتمت أو سقطت في يد إسرائيل، طوعاً أو كرهاً، وبعد ستين سنةٍ من quot;ضياع فلسطينquot;، وتضييع الشعوب العربية، في فخاخ هذا quot;الخطاب الهبابquot; وسياساته quot;الجهاديةquot;، quot;الإنتحاريةquot;، الفارغة من كل الدين وكل الدنيا، لا نزال نسمع الزعيق ذاته، وquot;الأمة العربية ذاتهاquot;، وquot;الصمود والتصدي ذاتيهماquot;، وquot;فلسطين ذاتهاquot;، والتي لم يبقَ منها سوى خمسها، فضلاً عن أنها باتت قاب قوسين أو أدنى.

ممثل فلسطين ورئيسها المنتخب شرعياً الرئيس محمود عباس، يتوسط في مصافحةٍ عابرة على هامش مؤتمرٍ، تمت بين quot;إسرائيل باركquot; وquot;عراق الطالبانيquot;، ومع ذلك لا زال دعاة هذا الخطاب يريدون خداع عربانهم أو الضحك على ذقونهم، بأنهم أصحاب فلسطين أكثر من أهليها، كما يحاولون كل جهودهم، بأن يوجهوا شعوبهم إلى quot;فلسطينهم المفترضةquot; ومشكلتها الضائعة المضيعة في رنين خطاباتهم وهي تسقط أرضاً، أكثر من توجيههم إلى أوطانهم الواقعة، ومشاكلهم المستفحلة، في داخلهم، وما أكثرها.

قبل أكثر من حوالي عقد ونصفٍ من الزمان، سئل الطالباني عن quot;المسافة الفاصلة بينه وبين فلسطين وقضيتهاquot;، فأجاب معترضاً على بعض السؤال: quot;لماذا تريدونني أن أكون فلسطينياً أكثر من عرفات، وكاثوليكياً أكثر من الباباquot;.
حينها كان الطالباني رئيساً لحزب وصل إلى كردستان قلقة، حرجة، غير مستقرة، وغير واضحة المعالم.
الآن، الطالباني هو رئيس العراق، ورئيس حزبه الذي يملك نصف كردستان، ونائب رئيس منظمة الإشتراكية الدولية، فضلاً عن أنه سياسي يشهد لحنكته كردياً وعربياً ودولياً، رغم ما يسجل عليه من quot;شطحات سياسيةquot;، هنا وهناك، من قبيل لااستقراره على quot;دين سياسيquot; محدد، وعدم تعوده على الاستحمام في quot;نهر سياسيquot; واحد مرتين، فهو يتبدل بسرعة، ويغير جلده بسرعة، وينسى أو يتناسى ما كانه بسرعة.

والحاصل، فإن السؤال الممتد من quot;الطالباني القلقquot; في العراق الماضي السابق، قبل ما يقارب ال15 عاماً، إلى quot;الطالباني الواثقquot; في العراق الراهن اللاحق، هو:
لماذا لم يترك ليده في يد باراك أن تقول ما تشاء، ويمشي، تاركاً الآخرين من العروبويين، ركاب جراحات فلسطين، ونكباتها، منذ أكثر من نصف قرنٍ من الزمان، أن يقولوا في يد quot;المصافحةquot; لإسرائيل وبارك(ها)، وفي إسرائيل، وفي quot;صراعهمquot; الهوائي الأبدي مع quot;كيانهاquot; ما يشاؤون؟


ما حاجة الطالباني إلى quot;تبريرquot; يده التي سبقتها quot;يد فلسطينquot; نفسها، إلى يد بارك، عبر بيانٍ لحزبه، طالما أنه تكاد لا توجد يد عربية quot;بريئةquot;، لم تذهب إلى إسرائيل، أو لم تمَد إليها، سواء سريةً أو علانيةً؟
أخيراً وليس آخراً، لماذا لم يكرر الطالباني quot;صحيحهquot;، الذي أسمعه للعالم قبل حوالي خمسة عشر عاماً، بصحيحٍ مقارب: quot;لماذا تريدونني أن أكون فلسطينياً أكثر من محمود عباس، ومقاطعاً للسلام على إسرائيل أكثر من بشار الأسد؟quot;

سواء إن برر أو quot;برّأquot;حزب الطالباني يده التي راحت إلى يد بارك، أو لم يبررها، فإن فلسطين ستبقى quot;القضية الملعوبة بها أبداًquot;، عروبوياً، مثلما ستستغرق إسرائيل العقل العربي، بإعتبارها شماعةً أبدية للعربان من أولياء أموره.


لا شك أنّ للفلسطينيين وفلسطينهم كامل حقوقهم المشروعة في إقامة دولتهم، كما لهم كامل الحق في تقريرهم لمصيرهم، كيفما ومع من يشاؤون أو بدونهم، بحسب المواثيق والصكوك المتعارف عليها دولياً، ولكن مثلما أهل مكة هم أدرى بشعابها، كذلك أهل فلسطين هم أدرى بشعاب قدسهم، وكذا أيديهم هي أدرى بشعاب أيدي quot;جارتهمquot; أو quot;عدوتهمquot; إسرائيل.


أما عرب المزاودات والشعارات الرنانة الطنانة، الذين وعدوا فلسطين، بأنهم quot;سيكبون إسرائيل في البحرquot;، مثلما يجتر أحمدي نجاد هذه الأيام الشعار ذاته، ويعد غزة وأمراءها بمحو إسرائيل من خريطة العالم، فقد حان لهم أن يشربوا من البحر، أو quot;يبلطوهquot; كما يقول المثل.
بعد كل هذا الخراب الممتد من quot;المحيط إلى الخليج، على العقل العربي أن يسأل نفسه: لماذا وعد شيوخه ومفتيوه المقدسيين وقدسهم بفلسطينهم وكذبوا، فيما وعد الأورشليميون يهودهم بإسرائيلهم وصدقوا؟

هوشنك بروكا


[email protected]