الصداقة من الكلمات الرقيقة والجميلة التي إذا خطرت للإنسان لاسيما ذلك الإنسان الذي قطع شوطاً لا بأس به في محطاته العمرية لأن هذه الكلمة تعيده إلى ذكريات سابقة قضاها مع الأصدقاء سواء في المدرسة بمختلف مراحلها أو العمل أو السفر أو أية محطة أخرى من محطات الحياة. وإذا حاول الإنسان أن يعود بذاكرته إلى تفاصيل تلك الصداقة فلابد أن يكون تقسيمه للمراحل قد أخذ منعطفاً متعدد الأوجه فتارة يبقي هذا المصطلح على أصله وتارة يجرده من الأصل الذي وضع له ويضعه تحت عنوان جديد يحلل المفهوم الأصلي ويفرقه آخذاً به إلى مسمىً جديد ألا وهو الصحبة ومن هنا فإن هذا المسمى الجديد الذي طرأ له لا بد أن يكون مقيداً بقرائن تميز النوعية المنشقة عن ذلك المفهوم العام ثم يبدأ بالترتيب فيكون الوفاء أول طارق لتلك الأبواب التي رتبها للدخول إلى الصحبة الوفية التي وضعها على رأس ذلك الترتيب.

ثم ينتقل إلى المراحل الأخرى مروراً بالصاحب الذي أركسه في بعض المتاهات، بتعبير آخر الصاحب الخائن وبين هذا وذاك أصحاب لا يتسنى له تذكرهم لأن الذي يجعل الإنسان يعيش تلك الذكريات هو الحدث الجلل والموقف المغاير للأحداث العادية، أما الأمور العادية التي تمر مر السحاب فهذه كثيرة ولا يمكن للمرء أن يعيد الشريط الخاص بها إلا ما ندر. والصداقة تعتبر ضرب من العلاقات الإنسانية التي يمكن للإنسان إتخاذها ضمن إختياره لأن الأخ أو القريب ليس للمرء إختيار في نسبته إلى نفسه ولكن الصديق يدخل ضمن الإختيار غير المفروض من أحد، فعلى الإنسان حسن الإختيار لأن هذه الرابطة التي تجمع الإنسان بأخيه الإنسان لا بد أن تكون متشابهة في الإتجاه والإهتمام إضافة إلى متعلقات أخرى كحفظ الصديق لأسرار صديقه والركون إليه في السراء والضراء. والفرق بين الصاحب والصديق هو أن الصاحب من تصحبه لفترة سواء طالت تلك الفترة أم قصرت حتى وإن كانت على شكل رحلة في الطائرة أو ما شابه ذلك، أما الصداقة فإن مفهومها أكبر من مصاديق الصحبة لأن الرابطة التي تربط الإثنين ليست رابطة سفرة مؤقتة وبالتالي تختم الرحلة بالفراق وإنما تدخل في مفهوم الصداقة الحميمية والثقة المتبادلة بين الطرفين. ومشاركة الصديق لصديقه في أفراحه وأحزانه، وحفاظه على ممتلكات صديقه كحفاظه على ممتلكاته الشخصية سواء كانت تلك الممتلكات مادية أو معنوية. فإن قيل : كيف أطلقت على الإنسان الذي صدرت منه الخيانة بأنه صاحب؟

أقول : إن مصطلح الصحبة يعني الرفقة بخيرها وشرها بل حتى وإن كان الرفيق ليس من جنس رفيقه، فإن الصحبة تكون حاضرة في ألفاظها لتغطية الحدث كما أشار القرآن الكريم للصحبة التي جمعت الفتية الذين دخلوا الكهف والذين سموا بأصحابه إضافة إلى كلبهم الذي لم يستثنيه تعالى من تلك التسمية في تفصيل ما جرى لهم. ونحن في هذه العجالة لا نريد المساس بالكلب لأن ما عرف عنه من الوفاء قد يفوق بعض الناس أحياناً. وقد أطلق القرآن الكريم على [ الزوجة ] حسب تعبيرنا بأنها صاحب في موضع وعدو في موضع آخر حيث قال تعالى : ( يوم يفر المرء من أخيه *** وأمه وأبيه *** وصاحبته وبنيه ) عبس 34 ndash; 35 ndash; 36. وأما عن عدائها فقد قال : ( يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدو لكم فاحذروهم ) التغابن 14. وهذا يدل على مقدرة المرأة للعب الدورين المتمثلين في الخير والشر. وكذلك أطلق القرآن الكريم على الرفقة الإضطرارية مصطلح الصحبة رغم أن هذه الصحبة لم تكن بإرادة الإنسان أو إختياره سواء في العمل أو السجن أو أي مكان يجبر الإنسان على التواجد فيه. كما حصل مع يوسف ( عليه السلام ) حين تحدث إلى السجينين الذين دخلوا معه السجن ونقل ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى : ( يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ) يوسف 39. وكرر لفظ [ يا صاحبي السجن ] في الآية 41.

من السورة نفسها. وذهب غير واحد من المفسرين إلى أن يوسف لم يخاطبهما بنسبة الصحبة إلى نفسه وإنما إلى السجن بإعتبار ملازمتهما له وأرادوا بذلك أن يخرجوا بالصحبة إلى مدلولها الحسن فقط لكن هذا الرأي يصتدم بقصة المؤمن وصاحبه الكافر والمشار إلى قصتهما في سورة الكهف. وقد ذكر القرآن الكريم ما جرى بينهما من حوار كما قال تعالى : ( وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره.... الآية ) الكهف 34. وأيضاً ذكر رد الثاني بقوله : ( قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب.... الآية ) الكهف 37. وكذلك أشار القرآن الكريم إلى مصاحبة الوالدين في حالة صدور الكفر منهم وقد بينت المقصود من ذلك الكفر في مقال سابق بعنوان [ إلى الآباء والأمهات مع التحية ] فلا موجب للإعادة.

وقد ظهر بما تقدم أن المصاحبة مجردة عن الإلتصاق المباشر الذي يفضي بالإنسان إلى التعلق الفعلي بمن يصحبه في مسيرته الحياتية فشتان بينها وبين الصداقة التي تعني الحميمية والإلتصاق المباشر لذلك يخبرنا تعالى عن أهل النار حين قولهم : ( فما لنا من شافعين *** أو صديق حميم ) الشعراء 100- 101. وقولهم هذا وتحسرهم على عدم وجود الصديق الحميم بدل الصاحب يؤكد على أن الصداقة أخص من الصحبة التي تتجسد بمصاديق متعددة منها ما يسوء ذكره ومنها ما يكون فيه الخير الكثير، فإذا تجردت تلك الرابطة عن التقوى فإنها تزول بزوال المؤثر الذي ساعد على إستمرارها كالمصالح الدنيوية وما يلحق بها. لذلك فإن هذه الصحبة حتى لو كتب لها البقاء فسوف تتحول إلى عداء في الآخرة كما قال تعالى : ( الأخلاء بعضهم يومئذ لبعض عدو إلا المتقين ) الزخرف 67. ومن هنا لا يفوتنا إلا أن نذكر تلك الصحبة الحميدة التي جمعت النبي ( ص ) وصاحبه الصديق ( رض ) في الرحلة الشهيرة التي إضطرتهم للخروج من مكة بإتجاه الغار كما قال تعالى : ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني إثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ) التوبة 40.

وهذه الصحبة التأريخية تعد من أرقى وأنقى ألوان التضحية التي قام بها أبو بكر الصديق ( رض ) حيث ضحى بأهله وما ملك لأجل الخروج مع صاحبه ( ص ) وذكر أصحاب السير أنه قبل دخولهما الغار أخذ أبوبكر يتفحص الغار وهذا يعد من الإيثار المحمود، وعندما وصل المشركون إلى الغار بكى أبو بكر لما يعرف من صفاء قلبه وطيبته خوفاً على رسول الله فقال له النبي ( ص ) [ لا تحزن إن الله معنا ]. فإن قيل : إذا كان مفهوم الصداقة أرقى من الصحبة وأخص منها فلماذا أطلق القرآن الكريم على أبي بكر بأنه صاحب الرسول ولم يقل صديقه؟ أقول لقد ذكرت في عنوان المقال أن للصحبة مصاديق وهذا يعني منها المحمود ومنها المذموم وصحبة الصديق والنبي ( ص ) من النوع المحمود. فإن قيل : على من أنزلت السكينة ومن أيد بالجنود؟ أقول السكينة أنزلت على أبي بكر لدخول الحزن إلى قلبه وتأييد الجنود كان للنبي ( ص ) بإعتباره الرجل الأول في السلطة، وهذا كقوله : ( ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ) القصص 73. فالسكن لليل وإبتغاء الفضل للنهار فتأمل. فإن قيل : يقولون أن الحاكم إذا إستعد للسفر فلا بد أن يصحب معه الشخص الذي يخاف بقاءه لئلا يحدث إنقلاباً من بعده في حين يبقي الشخص المؤتمن في مكانه؟ أقول : هذا صحيح لكن أمر النبي ( ص ) والصديق من نوع آخر.


عبدالله بدر إسكندر المالكي
[email protected]