فى منتصف الخمسينات من القرن الماضي جلس صديقان فى مقهى فى احدى محال بغداد القديمة، وكان السرور يطفح على وجهيهما، فقد أعلنت نتائج الامتحانات العامة للدراسة الثانوية، وتخرج ولداهما من ضمن المتخرجين. قال أحدهما انه سيدخل ولده الكلية العسكرية ليتخرج فيها ضابطا فى الجيش، ولكن صديقه اعترض عليه قائلا بأنه سيدخل ابنه كلية الشرطة، لأن ضباط الشرطة يحصلون من مهنتهم على (براني) يفوق الراتب بكثير، وهذا غير ممكن بالنسبة لضباط الجيش.

مضى عقد من الزمن على هذا الحديث وعائلة ضابط الجيش ما تزال تسكن فى دار متواضعة فى تلك المحلة، أما ضابط الشرطة فقد انتقل الى منطقة المنصور الراقية فى غربي بغداد حيث اشترى دارا فخمة.

تذكرت كل ذلك وأنا أسمع بالاقبال الشديد حاليا فى العراق على المدارس الدينية، حيث ظهرت طبقة جديدة من المعممين الذين أخذوا فى احتلال المناصب المتقدمة فى البلد بعد دراسة لم تزد على السنتين فى تلك المدارس، ويقال ان منهم من حصلوا على درجة (دكتوراه)!!، ومنهم من أعطي رتب عسكرية عالية. ثم ظهرت على البعض منهم مواهب نادرة فى تهريب النفط، وسرقة الآثار القديمة وتهريبها الى الخارج، ومنهم من طبق عقوبة الاعدام بقطع الرؤوس، وقطع الأيادي، ومنهم من تفنن فى التعذيب الى درجة تفوق ما كانت عليه فى أيام البعث المقبور. كان البعثيون يقتلون الناس بالرصاص ويدفنوهم فى مقابر جماعية، ولكن هؤلاء تعلموا فى المدارس الجديدة ان يوجهوا من يريدون قطع رأسه نحو القبلة ويرددوا : (بسم الله والله أكبر)، ويتركون الجثة حيث يستلمها من هم أقل مرتبة منهم لبيعها الى أهل القتيل بثمن يتفق عليه.

ومن هؤلاء المعممين من برع فى تشكيل عصابات اجرامية لاختطاف الناس للحصول على الفدية، ومن لا يفتدى يقطع رأسه ويعاد الى ذويه. ومنهم من أخذه الحقد والحسد على الخريجين من الأساتذة والأطباء والمهندسين فعمدوا الى قتل وتشريد الكثيرين منهم ليذهبوا الى خارج البلد الذى هو بأمس الحاجة الى خدماتهم.

لقد نال أحد هؤلاء المعممين قصب السبق فى الاجرام، وتبعه عدد كبير من البسطاء والفقراء والمغفلين والمجرمين ومن بينهم فدائيو صدام، فشكل منهم جيشا أشاع الرعب فى قلوب الناس، ولكنه فشل فى تحقيق مطلبه الرئيس لحكم العراق، فلم يجد بدا من الفرار الى مدينة قم فى ايران بحجة اكمال دراساته الدينية!!! وترك أصحابه الذين أدرك الكثيرون منهم هول ما فعلوه فسلموا أنفسهم للسلطة نادمين. بقيت ثلة قليلة منهم مطاردة من الشعب والحكومة ولن يلبثوا حتى يلقوا السلاح. ان قادة التيار الصدري وهيئة العلماء المسلمين خاصة ألحقوا أفدح الأضرار بالعراق، وانهم وان انحسروا بعض الشيء حاليا فهم مازالوا يشكلون خطرا كبيرا على العراق وشعبه.

ان مجرد ذكر (الديموقراطية) أمام هؤلاء يصيبهم الذعر الشديد، فهم يريدون حكما دينيا لينصبوا انفسهم وكلاء للخالق العظيم ليفعلوا ما يشاؤون باسمه دون أن يجرأ أحد على مجرد التفكير بمعارضتهم او التصدى لهم.

ان المعممين لم يستأثروا بهذه الأعمال الاجرامية وحدهم وانما خصصتهم لأن المفروض فيهم أن يكونوا مرشدين دينيين يأمرون بالمعروف وينهون على المنكر، ولكنهم فضلوا أن يتعاونوا مع بعض السياسيين الجدد والقدامى ممن جبلت أنفسهم على الموبقات، ليجنوا أكبر الأرباح وليشتروا العقارات فى خارج البلد وداخله، وينافسوا آلاف القتلة واللصوص الذين أخرجهم صدام حسين من السجون لاشاعة الفوضى والدمار فى البلد مما قد يساعد على عودة حزب البعث الى الحكم والتسلط على رقاب العراقيين، ولكن هيهات.

الانتخابات القريبة القادمة سوف تكشف عما اذا كان العراقيون قد اتعظوا بما جرى لهم على ايدى هؤلاء المجرمين طيلة السنوات الخمس الماضية أم لا. العراق اليوم أصبح واحدا من أغنى بلدان العالم وشعبه من أفقر شعوب العالم وأكثرها تمزقا بين الاديان والمذاهب والقوميات، ويتربص به الطامعون من كل جانب وخاصة من اخوته فى الدين والقومية من الذين نصبوا من أنفسهم وكلاء عليه ولن يرتدعوا الا بعد ان يجدوا فيها شعبا واحدا متحدا مصمماعلى النهوض من كبوته ومواصلة المسيرة على طريق مستقبل زاهرسعيد.

عاطف العزي