لم أتشرف بدخول السجن بسبب مواقف سياسية، لهذا فأنا لست مؤهلا بما فيه الكفاية كي أنقل معاناة سجناء الرأي القابعين في سراديب الدول العربية، لكن جلسة واحدة مع أي سجين رأي عربي سابق تجعل الواحد منا يستحضر هول الجحيم الذي عاش ويعيش داخله مئات الآلاف من دعاة الحرية داخل السجون العربية.

سمعتُ كثيرا من زملائي السوريين في المهجر عن وحشية السجون داخل سوريا وتابعتُ برامج وثائقية استعرضَت تقنيات الجلادين في تعذيب ضحاياهم كما قرأتُ أدب السجون، لكن مجالسة خريجي تلك السجون يُغني عن كل وصف. كانت لي جلسة خاطفة مع السجين السابق في الزنازين السورية، المناضل غسان المفلح. وقد شاءت الأقدار أن ألتقيه قبل أعوام في لندن وأخطف من ذاكرته ومضات عن تلك الفترة التي عاشها في الأقبية والدهاليز المظلمة. فزفرة واحدة من أنفاس غسان ولحظة صمت بجانبه تُغني عن ألف إجابة عند سؤاله عن تلك الفترة من حياته.

أقول هذا والرسائل تتهاطل على بريدي الإلكتروني والورق نفذ من جهاز الفاكس والرسائل القصيرة لم تنقطع عن موبايلي والمصدر واحد: منظمات حقوقية سورية وأجنبية تستغيث وتقول، إنهم يقتلون السجناء في صيدنايا، فهل من كاتب يرفع قلمه ويفضح المجزرة وهل من وسيلة إعلامية شريفة تنقل معاناة المستضعفين بعيدا عن الحسابات السياسية؟.

الحقوقيون يشيرون إلى مقتل واحد وعشرين سجينا وعن وقوع عشرات الجرحى ويتحدثون حتى عن انتهاك حرمة المصحف الذي داس عليه السجانون. بالمقابل يعترف نظام دمشق بما يُسميه حدوث تمرد في السجن، لكنه ينفي سقوط الجرحى فما بالكم بالقتلى.

للأسف أقول، إن الظروف الإقليمية والدولية ليست لا في صالح السجناء وذويهم ولا في صالح المنادين بالحرية والديموقراطية في سوريا. ببساطة لأن النظام السوري دخل في صفقة إقليمية ودولية بتقديم مايسميه تنازلات لصالح أعداء الأمس مقابل إبقائه جاثما على قلوب السوريين والتغاضي عن موبقاته.

فلولا الثقل السوري لما حصل الاتفاق بين الفرقاء اللبنانيين في الدوحة ولولا أوامر دمشق لما احترمت حركة حماس الهدنة في غزة والتزمت بها. وفي الوقت الذي يتفاوض قادة حماس في القاهرة مع الإسرائيليين بوساطة مصرية، تدخل سوريا في المرحلة الرابعة من مفاوضات السلام مع إسرائيل في تركيا. بالموازاة مع هذا التحول الجذري في سياسة دمشق الخارجية سمح النظام لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بزيارة موقع دير الزور النووي المشبوه الذي قصفته الطائرات الإسرائيلية، ووفّر لهم كل الظروف لمباشرة التحقيقات حول هوية الموقع.

والآن جاء موسم الحصاد عندما نجح الغرب في تغيير سلوك النظام لا إسقاطه، باريس دخلت في غزل علني مع نظام دمشق وانفردت صحيفة لوفيغارو اليمينية الفرنسية بلقاء مطول مع الرئيس بشار الاسد (عدد 8 يوليو2008) الذي لبى دعوة نظيره الفرنسي لحضور احتفالات فرنسا بعيد استقلالها وتمثيل سوريا في مشروع الاتحاد من أجل المتوسط. وهكذا، ففي باريس الأسبوع المقبل سيشرب الأسد كؤوس النُّخب مع الرئيس الفرنسي وقادة الإتحاد الأوروبي احتفالا بشهادة حسن السلوك التي ينكبّ على استخراجها المجتمع الدولي في انتظار إزالة الفيتو الأميركي. هذه الشهادة سيعتبرها النظام السوري صكا على بياض من المجموعة الدولية ليحصد المزيد من الرؤوس التي تقضّ مضاجعه.

وبالمناسبة: هل تسمعون الآن عن حكاية اسمها، محاكمة قتلة الشهيد رفيق الحريري؟ أتمنى أن أكون أطرشا وبالتالي مُخطئا، وعلى المنظمات الحقوقية السورية المزيد من العمل، فالحرية تؤخذ ولا تُعطى وكل من سار على الدرب وصل.

سليمان بوصوفه