قد لا تكون التغطية الإعلامية الرسمية لما حدث في سجن صيدنايا أول من أمس، كافية ومشبعة لكل من لديه نهم صحفي، وجوع معرفي، أو فضول مزمن حرفي. غير أن تغطية quot;منابر المعارضةquot; السورية لذاك الحدث كان فيها الكثير من المبالغة والاستباق والشطط والتهويم، الذي تتبدى فيه ملامح لرغبوية تشويهية وتضخيمية واضحة دأبت تلك الفصائل على تقمصها حين مقاربتها للشأن السوري، ما أبعدها كثيراً عن الحيز الموضوعي الذي من المفترض أن تبقى فيه، ولمجمل تعاطيها لحدث تتداخل فيه كل الممكنات والتأويلات من الفردي الشخصاني إلى الجنائي والقضائي والتخريبي وحتى السياسي. وإذا كانت الرواية الرسمية السورية ليست تفصيلية بذاك الكم المطلوب، فبالطبع إن رواية بعض أصوات المعارضة التهويمية والتهليلية ليست البديل الموضوعي الذي يمكن أن نركن إليه.

وقد يكون هناك بعض الغموض فيما حدث حتى الآن، نظراً للطوق الأمني والإعلامي المعهود في هكذا تطورات، وثانياً لعدم وجود أية quot;مصادرquot; معلومات محايدة ومهنية يمكن من خلالها بناء تصور تام، ورسم صورة متكاملة لما جرى. لكن الصورة، والحقيقة quot;الغائبةquot; معها، ليست بالتأكيد كما حاولت أن ترسمها بعض الأصوات، التي لم تترك أبداً أي هامش للعقل كي يدلي بدلوه في الموضوع. فالموضوعية والمهنية الإعلامية الحقة تقتضي تسليط الضوء على كافة جوانب أي حدث، ومن زوايا عدة، وتقديم كافة الاحتمالات والإمكانيات والتصورات، وترك المجال بعد ذلك، لخيال، وربما قرار، المتلقي، وعدم العمل أبداً على توجيهه بمسار ووجهة يتيمة وواحدة، وإلا دخل العملية والمعالجة في نطاق الإعلام الشمولي المسيس والمؤدلج والموجه.

وإذا قارنا quot;سردياتquot; المعارضة البكائية والنمطية في مقارباتها لأحداث سابقة (اغتيال الحريري، وقصف الموقع النووي السوري المزعوم، مثلاً)، وما انطوت عليه من رغبوية ثأرية وكيدية ومبالغة وتشف وقسرية ظاهرة، فإنه من حقنا عدم الأخذ، وبالتالي عدم تصديق، كل ما يصدر عنها لاحقاً. وإن الحكم المعياري على تلك المقاربات، من ثم، لن يكون أبداً في صالحها أو في صالح من يتبنى هذه المقاربات، والأمس القريب يحفل باكثير من الأدلة، والأمثلة والبراهين. وبناء عليه، قد تكون الرواية الرسمية، هنا، أقرب إلى المنطق والواقع ( بالرغم من أن هذا لا يسر الكثيرين، ولكن لجهة أنها لا تحتوي ذاك الكم الهائل من التهويم وبالرغم من افتقارها وشحها الواضح بالكثير من الجزئيات والتفاصيل). فقد قدمت وكالة الأنباء العربية السورية quot;ساناquot;، القصة كما يلي:quot; دمشق-سانا- 6/7/2008: أقدم عدد من المساجين المحكومين بجرائم التطرف والإرهاب على إثارة الفوضى والإخلال بالنظام العام في سجن صيدنايا واعتدوا على زملائهم وذلك في الساعة السابعة من صباح يوم السبت في 5-7-2008 أثناء قيام إدارة السجن بالجولة التفقدية على السجناء. وقد استدعى الأمر التدخل المباشر من وحدة حفظ النظام لمعالجة الحالة وإعادة الهدوء للسجن وتنظيم ضبوط بحالات الاعتداء على الغير وإلحاق الضرر بالممتلكات العامة لاتخاذ الإجراءات القانونية بحق المخالفينquot;.( انتهى خبر سانا كما نقلته كلنا شركاء تاريخ 6/7/ 2008).

أمـّا نقل الخبر، وكما حاولت تعميمه أكثر من جهة إعلامية وحقوقية وسياسية، ( وطبعاً بناء على التسليم المسبق وعلى اعتبار أن هذا السجن لا يضم سوى الملائكة والأبرياء والثوار الصناديد وليس من بينهم ولا إرهابي ولا مجرم أو مخالف للقانون العام )، على أن معتقلين إسلاميين قاموا باحتجاز 400 من السجناء، فهو يحتاج إلى معجزة أخرى، (غير معجزة احتجاز الـ 400 ضابط وجندي أمني في رواية أخرى)، وهي وجود جمهور كامل من المهابيل والمساطيل المغفلين لتصديق تلك الرواية. (لأن حرباً شاملة بين دولتين وجيشين نظاميين لا يمكن أن تسفر عن هذا الكم الهائل من المأسورين، وبهذا الوقت اليسير، وطبعاً بعد إسقاط عدد القتلى والجرحى والفارين والناجين). ولإعطاء الحدث بعداً جهادياً ودينياً مثيراً يصب في طواحين موجة الإعلانات السلفية والقندهارية التي ميـّزت الفترة السابقة من عمل هذه المعارضة، يحقق الغاية المطلوبة منه، وينفذ بالتالي ودون عسر هضم إلى وجدان الشارع المسطول بالغيب الأسطوري، فلم يكن هناك مانع من إضفاء التوابل quot;الإسلاميةquot; على خلفية الحدث.

ثم ما هي معايير البطولة في نظر بعض المعارضين إذ أصبح أي حادث أمني عارض ومفتعل، وخارج عن القانون أحياناً، ويحدث في كافة سجون العالم لأسباب كثيرة وعلى غير ما سوّق، هو عمل خارق وبطولي، ومادة دسمة وشهية تلهب خيال فحول وحسناوات المعارضة السورية على السواء، عن الكومونات الدمشقية وليس الباريسية الموعودة وقرب سقوط quot;الباستيل السوريquot;، ولتستأهل بالتالي كل هذا التطبيل والتزمير والتأليه، وقبل التأكد من بواعثه وأسبابه وخلفياته؟ وهل كل من ادعى بأنه يناهض quot;النظام السوريquot;، ولأي سبب كان، وتلاعب ببهلوانية بمفردات الديمقراطية والفساد والاستبداد، وقام بعمل عدائي وتخريبي وتهويم إعلامي وتجريح شخصي، أصبح بطلاً ومناضلاً وطنياً منزهاً تضرب حوله هالة تقارب التقديس؟ هل اختزلت البطولة والعمل الوطني المعارض إلى هذا الحد البائس من الابتسار والتبسيط؟

إن الاندفاع الرغبوي التشويهي والتضخيمي المحموم، والقفز إلى استنتاجات فورية وجاهزة، ودون الانتظار، حتى ينجلي بعض قتام وغبارquot; المواجهات الثوريةquot;، وطرح ذات التصورات والمقاربات والتحليلات المحفوظة دائما في ثلاجات تلك المعارضة، حتى لو كان الأمر يتعلق بحادث سير بسيط، وطرحها للتداول بنفس العبوات البلاغية مع تغيير بسيط في التواريخ، والأرقام، وعناوين الحدث، سيدخل الشأن والهمّ الوطني السوري برمته في نمطية عدمية، ويكشف عن صورة بائسة وضحلة جوفاء لهذه المعارضة، ويعمل بذات القدر على إفقاد هذه المعارضة لأي قدر من الهيبة والمصداقية. فالرغبة بـ، وهاجس إسقاط النظام الذي يتلبس رؤوس البعض، لا يكفي لوحده لكي تصبح القضية عادلة وموضوعية، والتصورات دقيقة وصادقة، أو قابلة للتحقيق، ولا يعني بالضرورة حتماً، أن هذا النظام هو على هذا القدر من الضعف، والهشاشة وسهولة التطويق. فالفبركة والرغبة والتلفيق شيء، والواقع والمعطيات والإمكانيات، شيء آخر، بالتأكيد.

نضال نعيسة