المجتمع المدني في العراق، ما هو مشترك بين القوى السياسية الفاعلة في العراق
3 ـ 3

و كما ذكرنا في الجزء الثاني من هذا المقال الذي تناول مرتكزات موقف الإسلام السياسي من المجتمع المدني و الحريات المدنية، فإنه عدا هذه الملامح الخاصة التي يمتاز بها حصرا انطلاقا من الموقف الذي تمليه مفاهيمُه الإيمانية، فإن هناك ملامح مشتركة تجمعه مع القوى الأخرى المؤثرة في الساحة السياسية في العراق من التي لا تحسب على الإسلام السياسي، و لعل أهم المشتركات في الموقف من الحقوق المدنية تتجلى في المحاور التالية:
1 ـ الموقف من المنظمات المهنية و النقابية و الاجتماعية و محاولة الهيمنة عليها و تسييسها و جعلها امتدادا للحزب أو المنظمة.
هذا هو احد أشكال الاعتداء على الحياة المدنية و تشترك الأحزابُ الدينية و الأحزاب العلمانية و اليسارية و كذلك الأحزاب التي تدير السلطة في اقليم كردستان و لو بدرجات متفاوتة في السعي و التنافس للهيمنة على المنظمات النقابية و المهنية و الثقافية و منظماتِ النساء... الخ، أي باختصار للسيطرة على جميع ما يفترض انه من مؤسسات مجتمع مدني، و هي بذلك تحرف وظائف هذه المنظمات، قصَدَت أم لم تقصد، جاعلة منها ملحقا، معلنا أو مستترا، للحزب. يفترض أن تمتلك هذه المؤسسات استقلالا عن الرؤية السياسية و أن تترك لتكوين رؤيتها الخاصة عما تراه من زاويتها عن طرق التطور مما يدعم التعددية الحقيقية، و لكن الواقع يشير إلى أن الميول الإستقلالية التي تسعى الى تكوين وجهة نظر مستقلة عن الرؤية الحزبية تواجه بإقصاء الداعين اليها و العمل على إقصاءهم.
لا يعني هذا بطبيعة الحال أن على منظمات المجتمع المدني أن ترفض قبول الحزبيين، فهذا في كل الأحوال لا يمكن التحقق منه دائما، و لكن عليها أن تراعي عدم إخضاع قيادات منظمات المجتمع المدني للمصالح الحزبية، كما يعني أن على الحزبي أن يترك الحزب خلف ظهره حين يعمل في منظمات المجتمع المدني و أن يراعي أن آليات عمل هذه المنظمات هي غير الآليات السياسية و أن يحترم هذه المعايير.
و لكن الصورة هي غير ذلك حيث تسعي الأحزاب الى جعل منظمات المجتمع المدني رديفا لها و تدافع بشكل رئيسي عن أولئك الأعضاء الموالين أو المنتمين للحزب من الذين يحظون برعايته و تقدم التسهيلات و الإمتيازات لهم. و في المنظمات الثقافية، على سبيل المثال، يتم الترويج للموالين و تطبع منشوراتهم دون اعتبار لمعيار الجودة و الأصالة و الإبداع و يحل الانتماء و تحل الموالاة الفكرية محل الإبداع و الأصالة و الجودة كمعيار للحصول على الإمتيازات.
و في منظمات حقوق الإنسان عمل الاتجاهُ الحزبي المسيطر على هذه المنظمات على تأصيل الاتجاه الانتهازي و ازدواجية المعايير، فقد قام بفضح خروقات حقوق الإنسان التي مارسها النظام السابق فيما يُحجِم اليوم مثلا عن إدانة اعتداءات صارخة ضد النساء و ضد عامة الناس و ضد الصحفيين و المثقفين الذي يمتلكون الجرأة على ممارسة أي شكل من أشكال النقد بحكم أن الحزب الذي ينتمي اليه قادة هذه المنظمات مشارك في الحكومة و بالتالي فإن فضح ممارسات أطراف مشاركة في الحكومة في مثل هذه الاعمال الوحشية يمثل إحراجا للحزب. و غالبا ما يلجأ الحزبيون المسيطرون على هذه المنظمات الى الصمت أو التبرير لخروقات سافرة لحقوق الإنسان حتى يرى الحزب من وجهة نظر سياسية و ليس انسانية أن الأوان قد آن لإدانة هذا العمل أو ذاك حسب الجهة التي قامت به و حسب الجانب التكتيكي و التحالفات و الصفقات في الوقت الذي ينتظر من منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان أن تدين كل عمل يمثل خرقا للحقوق المدنية بغض النظر عن الجهة التي تقوم به.
إن تنافس الأحزاب على دفع ممثليها إلى قيادة هذه المنظمات و تغليب معيار الانتماء و الولاء هو عملٌ معادٍ للحريات المدنية و يقلص امكانية أن يشغل غيرُ الحزبيين و غير المسيّسين، أي الذي يمتلكون مهارات غير سياسية، مراكز في مثل هذه المنظمات. و يعطي هذا السلوك دفعا كبيرا للميول الانتهازية التي تسعى للحصول على المغانم السلطوية.
و تحتاج الأحزاب إلى القيام بتغيير آليات عملها المستمدة من تقاليد عمل الأنظمة الشمولية و الديكتاتورية التي سعت دائما إلى الدخول في مسامات المجتمع و السيطرة على كل شيء و عدم ترك المجتمع و الشخصيات و القوى الاجتماعية الفاعلة أن تجد طرقها الخاصة للتسيير الذاتي للعملية الاجتماعية، وهو تعبير آخر عن الحقوق المدنية.
2 ـ التعيينات و شغل الوظائف العامة و اعتماد معيار الولاء أو الانتماء لشغل الوظائف العامة مما يعني اقصاء الكفاءات و ابعاد التكنوقراط و التخلي عن مبدأ الكفاءة، المعيار الذي يجب اعتماده بغض النظر عن الولاء السياسي او التبعية لحزب أو اتجاه فكري او طائفي.
هذه الصورة القاتمة المتفرعة عن المحاصصة قد طعنت المجتمع المدني و الكفاءات المدنية في الصميم، فقد مُكّن من شغل الوزارات و المديريات العامة و الوظائف بكافة اشكالها وزراءٌ و مدراءٌ عامّون و موظفون عاديون لا يمتلكون أية كفاءة أو أية نزاهة.
إن من اولويات الحقوق المدنية حق المواطن استنادا الى مؤهلاته و كفاءته أن يشغل الوظيفة المناسبة بما في ذلك ارفع المناصب الحكومية و بغض النظر عن المعتقد و الطائفة و الدين و القومية.
و لم تمر لحظة في تاريخ العراق عانت منها الكفاءات كما تعاني اليوم و لم يعد العراق سوى مقبرة للتكنوقراط.
3 ـ تسييس المجتمع في عملية تسابق محمومة على الكسب بين مختلف القوى السياسية و تقليص حجم و دور القوى غير المنتمية التي تلعب دور مراقب ضروري و حيادي لنوعية الإداء بغض النظر عن الانتماء بكافة اشكاله.
يشكل الحزبيون في أي مجتمع نسبة ضئيلة. و لكن هذا لا يُرضي الأحزاب الشمولية التي سعت الى الكسب المباشر و غير المباشر عن طريق المنظمات التابعة للاحزاب الى استيعاب اكبر عدد ممكن من المواطنين.
إن وجود عناصر فاعلة اجتماعيا استنادا الى موقعها في العملية الإنتاجية أو الاجتماعية أو الأسرية أو العلمية أو الأكاديمية لهو ظاهرة صحية في أي مجتمع يوفر مساحة للحكم الموضوعي غير المتحيز و يستبعد العقلية التبريرية التي تدافع حتى عن الأخطاء و التي هي صفة ملازمة للعقلية الحزبية.
فقد صرح مسئول كبير في حزب يساري حين سُأل عن سبب قيام حزبه بقبول أعضاء لا يمتلكون سجلا نظيفا قائلا : نكسبهم الى حزبنا أفضل من أن نتركهم يذهبون الى الأحزاب الإسلامية !
4 ـ الموقف من النقد كقانون من قوانين التطور، و إقصاء ذوي الميول النقدية.
أستبشر العديد من عامة الناس و من المثقفين على وجه الخصوص بأن عهدا جديدا قد حل يتيح لهم أن يقولوا ما لم يستطيعوا سابقا قوله، و لكنهم سرعان ما اكتشفوا أن الميول النقدية هي عرضة لمحاربة شرسة ليس من قبل أحزاب الإسلام السياسي وحدها بل و من جميع الأحزاب العراقية التي تتمتع بنفوذ ما.
فقد انحدرت سريعا الحريات العامة و شهدت أشكالا مبتكرة و غير مسبوقة للإقصاء و ابتكارا لطرق ملتوية لمنع و محاربة النقد امتازت بملامح ماكرة لم تكن تتوفر عليها ملامح القمع في النظام السابق الذي امتاز بالقمع الصريح الذي يسهل رصده.
هذه هي عموما المشتركات التي لا تختلف فيها القوى التي تتخذ من الديمقراطية و القومية و اليسار العلماني بشكله الحالي هوية لها عن قوى الاسلام السياسي في العراق.
زحاف القمع الفكري
لا تترك الديكتاتورية بصماتها على عامة الناس باعتبارهم موضوعا للقمع فحسب، بل تترك بصماتها ايضا على الاحزاب المعارضة لها ناقلة لها ملامح قمعية، بها يتحول بعض القادة من الذين عارضوا الديكتاتورية إلى طغاة صغار تكون صورهم صورا كاريكاتيرية لمقلدين غير ماهرين. فالتاريخ يصنع أول الأمر صورا أصليه لمآثره و مثالبه، فالديكتاتورية كشيء مقيت تحققت بحكم عوامل تاريخية، و لكن التاريخ في الوقت نفسه يصنع الصور المعاد طبعها بشكل رديء. كل مساوئ النظام السابق موجودة تقريبا في النظام الحالي و لكن خارج سياقه التاريخي.
هل نُحّل الأماني مَحِل الوقائع ؟
سيكون ذلك من أجمل الأشياء و من أسهلها، لكن الحياة تشير الى غير ذلك.
إن حسابات القوى الفاعلة في الساحة السياسية العراقية و موقفها من الحريات العامة و الحريات المدنية و التي صدعنا بها رأس القارئ، ما كان ممكنا تجنبها من اجل رسم صورة دقيقة عن السبل القادمة التي سيسلكها المجتمع المدني الذي سيعاد تأسيسه من الصفر تقريبا و الذي سيطول انتظاره مع الأسف ليس بحكم التشاؤم و لكن بحكم الوقائع نفسها.
لقد كان المشروع المدني الذي طرحه الدكتور الفاضل سيار الجميل مدفوعا بأفضل النوايا لإنقاذ العراق و لا يساورني أي شك بذلك، و لكن القوى المعادية للمشروع المدني ستقف ضد هذا المشروع ليس بقوة النوايا و لكن بقوة المصالح و بقوة المنافع التي تترجم يوميا بالحصول على مغانم تفوق التصور في هذا البلد المستلب يغذيها النهب و الفساد، كما انها تقوم بتجهيل اوساط واسعة من المجتمع و تحشيدها في المناسبات التي لا نهاية لها من اجل تحصيل المغانم و مضاعفة ارباح البازار العراقي.
و لم يحصل أبدا ان تغلبت النوايا الطيبة على المصالح الملموسة.
أن الوضع الحالي الذي سمح لاوساط جاهلة و عديمة النزاهة من الوصول الى مراكز السلطة تعيش على فساد عام بلغ مديات غير مسبوقة سوف لن تستسلم و لن تخضع و هي مستعدة للإيغال في الدماء من اجل المحافظة على مكاسبها. و مما لا شك فيه ان اغلب القوى الفاعلة في الساحة السياسية في العراق غير معنية بتأسيس مجتمع مدني و حقوق مدنية حقيقية لأن وجود مثل هكذا مجتمع سوف يسحب البساط من تحت اقدام المنتفعين.
و حتى الاوساط التي وقعت و دعت الى مجتمع مدني هي : اما انها ضعيفة و غير فاعلة، او انها منافقة قامت بالدعوة الى مجتمع مدني بعد أن اصبح هذا الشعار محط الانظار و بعد أن تعرضت هذه القوى الى ادانة اوساط واسعة من المثقفين و عامة الناس بسبب اشتراكها في حكومة محاصصة و فساد و سرقة للمال العام. و إن الدعوة الى تأسيس مجتمع مدني انما كانت لامتصاص الميول الجماهيرية لهذا الشعار.
الوعي المدني : ضرورة جماهيرية
صياغة العنوان مقتبسه من الدكتور سيار الجميل و فيها يقول :
quot; ينبغي تأسيس محطة ارسال فضائية عراقية قوية (وهو اهم هدف ميداني لتسويق المشروع المدني) تكون على درجة كبيرة من النضج السياسي والاحتراف الاعلامي، وتخصص برامجها الاخبارية والسياسية والفكرية والاجتماعية.. لصالح المشروع المدني وتكريس الهوية الوطنية، والوعي بالاستنارة، وتقديس المال العام، وممارسة الحوار الوطني... quot;
انتهى الاقتباس.
لاشك ان تشخيص نقطة الانطلاق هو تشخيص صائب فالمواطن يجهل حقوقه بعد سنوات من الديكتاتورية ثم حكم التجهيل الذي أعقب السقوط و لكن التشخيص سوف يبقى في الاطار النظري طالما ان القوى الاساسية المهيمنة على السلطة و المؤثرة على الشارع العراقي سوف تعمل على عرقلة مثل هكذا مشروع أما بمنع قيامه اصلا، أو بالتظاهر بتأييده و الدخول في جهازه ثم افراغه من محتواه كما حصل لكل الجهود المبذولة لتأسيس فكر مدني مستقل.
فمن هي القوى التي سوف تدعم هذا المشروع و تموله؟
الحكومة و الاحزاب و الحركات السياسية العراقية؟
و الجواب هو : لا أحد من هذه الاطراف سوف يؤيد او يدعم مشروعا كهذا.
دول الجوار ؟
الجواب ايضا لا. لإن دول الجوار الفاعلة على الطرفين تفتقر هي نفسها الى مجتمع مدني و حقوق مدنية.
من اذن ؟ لا أحد مع هذا المشروع بل إن الاغلبية ضده.
العقائدية العراقية
هذه صياغة الدكتور سيار الجميل لشعار آمنت به اوساط من العراقيين الحريصين على الأطار السليم و الوحيد الممكن ضمن هذه الفوضى و القادر من حيث المبدأ على حماية الكل. و لكن هذا الشعار الذي لا بديل عنه يحظى بكراهية لا تضاهى من اوساط واسعة بحكم التظليل المقصود و خطط مدروسة حققت نجاحا ساحقا تقوم على تغليب الهويات الفرعية.
فالاتجاهات الانعزالية في الحركة القومية الكردية و التي اخذت تنحسر استنادا إلى واقعية سياسية ترى عدم امكانية تحقيق المصالح القومية الكردية خارج الاطار المشترك ضمن الظرف الحالي على الاقل، لا تزال، رغم هذا الانحسار، تحظى بالموقع الأقوى الذي يعتبر أن العراق و العيش المشترك هو اصل بلوى الأكراد.
و القوى الاسلامية غير معنية بالعراق مما لا يستلزم اية توضيحات اضافية حيث غلبت الهوية الطائفية و الدينية على الهوية الوطنية.
و الطرف القومي الكردي الانعزالي و الاتجاه الطائفي الداعي الى فدرالية طائفية في الوسط و الجنوب يحاول العمل ضمن صفقة اعطني و خذ.
و القوى غير الطائفية و العلمانية و اليسارية بمجملها ضعيفة و غير فاعلة.
و لكن مع ذلك يبقى هذا الشعار الذي واجه من العداء ما لم يواجهه شعار آخر ـ راجع التعليقات حول شعار أنا عراقي مثلا ـ هو الامل الاخير لكل العراقيين و نقطة الانطلاق.
هل يوجد أمل
ان الامل يكمن في أن المنطق يشير إلى أن لا طريق آخر، و لكن كم هم أولئك الذين يحتكمون إلى المنطق و الذين ينطلقون من المصالح العامة للمجتمع و ليس مصالح الآنية و الأنانية ؟ و ما هي القوة التي يتوفرون عليها ؟
لذا فان تحليل القوى المعنية و غير المعنية بتأسيس المجتمع المدني في العراق و ركائزها الاجتماعية و الاقتصادية كان ضروريا لرسم الصورة الواقعية.
ليس ما نذكره من عقبات في طريق المجتمع المدني من قبيل وضع العصي في العجلات، فالعصي موضوعة في العجلات من قبل الجهات التي لا تريد أن ترى عراقا مزدهرا. و لكن حساب القوى التي هي مع أو ضد مجتمع مدني حقيقي ضرورة يستلزمها البحث الموضوعي لكي لا يسقط في الأماني. و تحليل القوى يساعد على رسم الطريق، فإستنادا اليه يمكن تحشيد قوى و صياغة شعارات و فتح حوار و بدون ذلك يبدو أن العملية، كما لا نتمنى لها ستكون quot; صيحة في واد quot;.

منير العبيدي


[email protected]