دخلنا في العام الرابع، منذ المقابلة التي اجرتها قناة (العربية) مع السيد مسعود بارزاني، في مدينة أربيل حيث مقر إقامته بمصيف صلاح الدين.
في المقابلة المذكورة لم يتردد السيد مسعود بارزاني في إطلاق وعد كبير جداً، ألا وهو جعل مدينة أربيل مثل دبي!
الكلام سرى في الناس مسرى النار في الهشيم. وأصبح معه إندهاش الناس عظيماً بين مصدّقٍ ومكذّبٍ وآمِل ويائس.
بعد أكثر من أربعة أعوام لم تتحول أربيل دبي ثانية، بل أمست أكثر بؤساً وتعتيرا، حتى قرنت الناس الحال بقياسٍ مشاع بينها في تشبيه أربيل بقندهار أو كابل، أو المدن البائسة في أفغانستان وغيرها.
وبما أن الناس تقارن وتقيس، وكان مرمى السيد مسعود بارزاني على المنوال نفسه فاقترن الحال بقياسٍ غائب، تحويل أربيل إلى دبي، كان لزاماً علينا توضيح ذلك كلّه بمقارنة أخرى بين القائم بأمر دبي والقائم بأمر كُردستان، لمعرفة إختلاف النتائج بين المدينتين، لأن الداخل الكُردي في كلتيهما لن يلبث حتى يقول:

شتان ما يومي على كورها
ويوم حيّان أخي جابــــــــر.

فالفرق بين أربيل ودبي هو فرق عالمين مختلفين، ولا حاجة لذكر الفروق، لأن المقام به يُبتذلُ.
ولكن الحديث في ذكر الفروق والقياسات، بين الرجال القائمين على شؤون العباد، يوضح الصورة في باكورةٍ، تثمر للطالب ما يشتهيه من تفسيرٍ وافٍ وشرحٍ متين.

ولد الشيخ محمد بن راشد أل مكتوم في عام 1949، ودرس في الإمارات وبريطانيا، وتخرج في كليّة مونز العسكرية بأسكتلندا.
لم يتسلم الشيخ بو راشد قيادة الدولة دفعة واحدة ومن دون عناء، كهبة من سلفٍ مورِث. تسلّم قيادة الشرطة عام 1968، وفي عام 1971 أصبح وزير الدفاع، وفي عام 1995 أصبح ولي عهد إمارة دبي، ومن ثم أصبح نائب رئيس الدولة ورئيس الوزراء عام 2006.
إنجازات هذا الرجل كثيرة لا تحصى في مقال. فقد أسس في حقول التنمية وآفاقها برامج عدة وآليات تستهدف الإمتياز في الجودة وفي شتى أشكال العمل. وخصص في سبيل ذلك جوائز عديدة للمساهمة في رفع مستوى العمل الصحافي، مثل جائزة الإدارة العربية، وجائزة الصحافة العربية.
يهتم سموّه بالشباب أيما إهتمام. وأسس لذلك عدداً كبيراً من المؤسسات والبرامج المعنية بتشجيع مشاريع الشباب وتنمية الطاقات القيادية للشباب والشابات. أخر هذه المشاريع للشباب هو تأسيس مركز لريادة الأعمال والإبداع كما جاء في تقرير quot;مختاراتquot; إيلاف.
أسس آل مكتوم عدداً من أكبر الشركات في الشرق مثل quot;طيران الإماراتquot;، quot;دبي القابضةquot;، quot;موانئ دبي العالميةquot;، quot;إعمارquot;، quot;نخيلquot; والعشرات غيرها قيد الإنجاز.
هذا القائد الناجح محاط بخبراء كبار في كل شؤون الدولة. وهو طموح متشبع بحضارة الإسلام، معاصرٌ مشاورٌ لا يستبد برأيه. فعسكريته أمدته بالإنضباط لا الطغيان، وصقّلت لديه قوة الشخصية، فيما شاعريته رقّت من نفسه فجمع الحزم واللين والشدة والصبر، غير ظالمٍ يبطش، ولا راتعٍ يلهو في ملذات السلطان.
وفوق ذلك فهو مثقف كبير ولديه ديوانان في الشعر هما quot;ديوان الشيخ محمد بن راشد آل مكتومquot; و quot;ديوان الأمسيةquot;، فضلاً عن كتاب quot;رؤيتيquot; القيّم، ومنشورات أخرى.
يهتم هذا الحاكم بتربية أولاده وأفراد عائلته، ولم يبد من أيهم سوء تصرف أو ظلم بحق أبناء الإمارات. وهم إنما يمتنعون عن الظلم لا خوفاً من سيدهم الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم رغم هيبته، لكنهم ذوو نفوس شامخة متربية بتعاليم الرقي والسماح والحكمة، فتأنف حتى من التفكير بهكذا أمر ناهيك عن إتيانه.
لذلك كلّه غدا الشيخ بو راشد حاكماً ناجحا ممتازاً نادراً، ينظر بعيني المستقبل في واقعه فأبدع وسما. وهذه من أرقى خصاله، وسرّ تفوقه.

السيد مسعود بارزاني ولد عام 1946 بمدينة مهاباد الكُردية التي عاشت نشوء وإنهيار جمهورية كُردية.
على مستوى التعليم درس مرحلة المتوسطة، وهو رئيس الحزب الديموقراطي الكُردستاني منذ عام 1979.
قضى السيد مسعود بارزاني شطراً كبيراً من حياته في إيران، حيث كان يقود مجموعات مسلحة أحياناً إلى جانب قوات إيران النظامية ضد العراق، وضد الأحزاب الكُردية المتخاصمة معه.
لا يمكن إنكار أن لدى السيد مسعود بارزاني قدرات سياسية كبيرة، على صعيد العشائر والأحزاب الكُردية، التي خاضت القتال والسياسة في الجبال، ومن ثم بعد مدة طويلة في المدن أيضاً.
فالرجل كزعيم أعلى لعشيرة بارزان، يتمتع بمقومات الزعامة وفق موازين العشيرة، ومتطلبات المنافسة السياسية بين الجماعات المحليّة. لذلك فقد لعب دوراً كبيراً في توطيد زعامة البرزانيين وسط العشائر والجماعات الكُردية، في الصراعات الكثيرة بينها والتي بدأت في الجبال، بعملية دبلوماسية في ما يمكن تسميتها بالدبلوماسية الجبلية.
هذا النمط كما اعترف السيد مسعود بارزاني، شكّل عائقاً أمامه في خلق بديل حضاري، منذ عام 1991 حين سحبت الحكومة العراقية إدارتها من كُردستان وتركت فراغاً كبيراً، عبأته عشائر وأحزاب كُردية بالقتال والفوضى والدمار لسنين طويلة.
هذه النتيجة ولّدها غياب الرؤية لواقع ومستقبل كُردستان، على عكس ما نقرأ في كتاب quot;رؤيتيquot; للشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حول دولة الإمارات.
وعلى صعيد أخر عانى ويعاني السيد مسعود بارزاني من وجود قوى متعددة داخل عشيرة بارزان تتصرف دون قيود قانونية داخل كُردستان، مما تسبب في خلق غضب جماهيري عارم لكثرة الظلم والتعذيب والنهب لثروات البلد.
وكذلك فإن السيد مسعود بارزاني، محاط بمجموعة فاسدين لا يختصون إلا بالجهل، والتفكير في بناء الثروة والقوة الشخصية.
وعلى هذا لم يستطع السيد بارزاني من تعويض ما كان ينقص زعامته من خبرة ثقافية وعلمية، إلا وفق الطريق الكلاسيكي للقبيلة في بعث أبناء العشيرة إلى الخارج والتخصص في مجالات متنوعة، من أجل التحكم في السلطة لآماد طويلة.
وفي هذا السياق جرى تراجعٌ كبير على مستوى التعليم في كُردستان، وتخلفت المدارس والجامعات، حتى أمست ـ كما قال خبراء هذا المجال ـ مكاناً لتخريج الأميين من الشباب، الذين لا همّ لهم في الفقر والفوضى والتخلف القائم، سوى الهجرة إلى الغرب.
مع أن عائدات كُردستان في ميزانية الدولة كبيرة جداً فضلاً عن موارد أخرى، لكن السلطة الكُردية فشلت في خلق الفرص، وتأمين الخدمات الضرورية، وخلق فرص العمل للشباب، وبناء مشاريع متنوعة.
ليس ذلك فقط، بل تم تخريب ونهب مشاريع كانت قائمة تمد الناس بالعيش، مثل معمل النسيج ومعمل السجاد، وسد بيخمه، ومعامل الخشب والحديد، عدا تلك المكائن والآلات التي باعها رجال السلطة الكُردية لإيران وتركيا لمصلحتهم الخاصة.

أما مدينة أربيل التي لم تتحول إلى دبي، فقد أهلكت الناس فيها بسبب الفقر والمرض (كوليرا مثلاً)، ومعانات إنعدام الخدمات. فأربيل كما رأيتها قبل عام كانت وحلاً في الشتاء وغباراً في الصيف. في النهار شمسٌ حارقة وفي الليل ظلمة موحشة.
ومع أن كُردستان هي واحدة من أجمل مناطق العالم، وكانت خضراء في أزمنة سابقة، وكانت من الممكن أن تتحول إلى أجمل مكان سياحي، غدت جبالها اليوم جرداء بسبب إستعمال الشعب المسكين للأشجار بقصد التدفئة والطبخ وما إلى ذلك.
على عكس ذلك حوّل الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رمال الصحراء الجرداء إلى واحات خضراء وأماكن سياحية يقصدها الغربي قبل الشرقي، في جمالٍ يفتن الناظرين.
لذلك ليس غريباً أن تنافس دبي اليوم أجمل مدن الدنيا وأكثرها تطوراً.
أما أربيل فلن تتحول إلى دبي ليس بعد خمسة أعوام أو حتى عشرة. العلّة ليست في المدة والأعوام. كلّا!
إنما العلة تكمن في أن الأكراد لا يملكون قائداً مثل الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رؤوفاً بارّاً بهم، يفكر في مستقبلهم، لا في مستقبله وعائلته وعشيرته.
ولو كان للأكراد حق في أن يكون لهم زعيمٌ كالشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، لكان عليهم لزاماً الإفتداء بجبالٍ من ذهب ليكون لهم ذلك نصراً مبيناً.

علي سيريني

[email protected]