تفجرت من جديد قضية المعايير المزدوجة التي يطبقها المجتمع الدولي في التعامل مع الأنظمة الطاغية الحاكمة التي تعيث فساداً في عالم اليوم. هذه المرة كانت الأحداث الأخيرة التي جرت في دولة زيمبابوي الواقعة في جنوب القارة الأفريقية والتي نكّل فيها الرئيس روبرت موجابي بالمعارضة بغرض منعها من تحقيق فوز مؤكد في الانتخابات الرئاسية هي الفتيل الذي أشعل قضية المعايير المزدوجة. وقد بادرت قوى دولية كبرى على رأسها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وكندا بفرض عقوبات على زيمبابوي احتجاجاً على تزوير موجابي للانتخابات. وبلغ الأمر أن طعنت قمة الثماني التي تضم الدول الصناعية الثمانية الكبرى في بيانها الختامي قبل أيام قليلة في شرعية نظام حكم موجابي.

وقد كشفت العقوبات التي فرضتها قوى دولية على زيمبابوي عن مدى قدرة المجتمع الدولي على ممارسة الضغوط على الأنظمة الشمولية والدكتاتورية، ولكنها كشفت في الوقت نفسه عن مدى عمق الازدواجية في المعايير التي يطبقها المجتمع الدولي في التعامل مع الأنظمة القمعية. فلم يكن روبرت مجابي الدكتاتور الأول الذي يقوم بقمع معارضيه، ولم يكن أيضاً الطاغية الأوحد الذي يقوم بتزوير الانتخابات الرئاسية لمصلحته الشخصية. الأمثلة على قمع الأنظمة الدكتاتورية لمعارضيها كثيرة، ونماذج تزوير الانتخابات في الدول غير الديمقراطية عديدة. وعلى الرغم من كثرة هذه الأمثلة وتلك النماذج إلا أن أحداً في الغرب لم يحرك ساكناً لتأديب النظم التي تحرم شعوبها من حقوق كفلتها القوانين الدولية.

عرفت علاقات المجتمع الدولي بالدول الشمولية تراوجاً كبيراً بين الود والنفور، وارتبطت هذه العلاقات في معظم الحالات بالنفوذ الاقتصادي والجيوسياسي للدول غير الديمقراطية. فإذا كانت الدول الشمولية تتمتع بقدرات اقتصادية كبيرة، أو تمتلك احتياطيات هائلة من النفط، أو تحظى بموقع جغرافي متميز، فإن علاقات المجتمع الدوي مع أنظمة هذه الدول تتسم عادة بالود والدفء متجاوزة عقبة الغياب الكامل للديمقراطية. ولكن إذا كانت الدول الشمولية لا تتمتع ولا تمتلك ولا تحظى فإن علاقات المجتمع مع أنظمة هذه الدول غالباً ما تتسم بالنفور والبرودة حيث يتصيد المجتمع الدولي الأخطاء لأنظمة الدول الفقيرة.

كانت النظم الدكتاتورية من أهم المستفيدين من الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين في ظل التنافس المحموم الذي شهده العالم حينئذ بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على كسب المزيد من الحلفاء الذي جاء غالباً على حساب مباديء الديمقراطية وحقوق الإنسان. ورغم الاهتمام الذي أبداه المجتمع الدولي في حقبة ما بعد الحرب الباردة بنشر الديمقراطية حول العالم، إلا أن هذا الاهتمام لم ينسحب على بقاع كثيرة من العالم بقيت محرومة من نعمة الديمقراطية. بل أن المجتمع الدولي ممثلاً في الولايات المتحدة والدول الغربية كثيراً ما ساند ولا يزال يساند النظم الدكتاتورية في العديد من دول العالم ومنها الدول العربية والإسلامية على سبيل المثال.

ولعل الإجابة على سؤال quot;لماذا روبرت موجابي دوناً عن غيره من الطغاة المنتشرين بيننا؟quot; تكمن في الجيوسياسة والاقتصاد الخاصين بزيمبابوي. فزيمبابوي بلد صغير نسبياً يقبع في جنوب غرب أفريقيا من دون أن تكون له موانيء على أي من البحار أو المحيطات ويسكنه نحو اثني عشر مليوناً من الأفارقة إضافة إلى عدد قليل من السكان البيض يقدر عددهم بنحو خمسين ألفاً كما توضح موسوعة ويكيبيديا. يعيش نحو 68% من الزيمبابويين تحت خط الفقر، وتبلغ نسبة البطالة بينهم نحو 80%، ولا يزيد معدل أعمارهم عن 40 سنة للرجال و38 سنة للنساء، وتبلغ نسب الإصابة بفيروس HIV أو الإيدز بينهم نحو 21%.

يعتمد اقتصاد زيمبابوي بصفة رئيسية على الزراعة التي يعمل بها ما يزيد عن 66% من إجمالي القوى العاملة والتعدين الذي يعمل نحو 10% من إجمالي القوى العاملة، ويبلغ معدل الدخل السنوي بين الزيمبابويين نحو 200 جولار سنوياً. وتقوم زيمبابوي بتصدير البلاتينيوم والدذهب والقطن والدخان، وتبلغ القيمة السنوية للصادرات نحو 1.5 مليار دولار، بينما تبلغ قيمة وارداتها السنوية نحو 2.2 مليار دولار. وقد شهدت العملة الزيمبابوية (الدولار الزيمبابوي) انهياراً غير مسبوق عام 2007 حيث بلغت قيمة الدولار الأمريكي نحو 250000 دولار زيمابوياً بعدما كانت قيمة الدولار الامريكي نحو 24 دولاراً زيمبابوياً عام 1998.

كانت خطيئة الطاغية روبرت موجابي على نفس مستوى خطايا كل الطغاة الذين يحتفظون بمناصبهم لعقود طويلة وينظمون الانتخابات الصورية ويزورون إرادة الشعوب وينتهكون حقوق الإنسان. فما هو الفارق بين الجرائم التي يرتكبها نظام الطاغية روبرت موجابي في زيمبابوي والجرائم التي يرتكبها الطاغية نظام (أو قل فوضى) معمر القذافي في ليبيا أو الجرائم التي يرتكبها نظام الطاغية بشار الأسد في سوريا أو الجرائم التي يرتكبها نظام الملالي في إيران؟ الجرائم من نوعية واحدة ولا تختلف في جوهرها وهي تتركز في قمع الحريات والتنكيل بالمعارضة وتغييب الديمقراطية.
ولكن القدر لم يكن رحيماً بموجابي كما هو رحيم بالقذافي والأسد وأحمدينجاد، فقد اعتلى موجابي سدة الحكم في بلد لا يتمتع ولا يمتلك ولا يحظى، بينما الأخرين يحكمون في بلدان تتمتع أو تمتلك أو تحظى.

المعادلة الفاسدة التي تستند عليها العلاقات بين المجتمع الدولي والدول غير الديمقراطية التي تتمتع وتملك وتحظى تقوم على صمت المجتمع الدولي على الجرائم التي ترتكبها الأنظمة الدكتاتورية في هذه الدول في مقابل خضوع الأنظمة أمام رغبات واحتياجات وطموحات القوى الكبرى. وتسقط المعادلة حين يسعى أحد الأنظمة لتحدي القوى الكبرى. المعادلة إذن تتحكم بها القوى الكبرى في المجتمع الدولي. وقد رأينا بأم أعيننا كيف أدارت القوى الكبرى في المجتمع الدولي ظهرها لنظام صدام حسين في العراق حين تحداها باحتلال الكويت، وكيف قضت القوى الأكبر، الولايات المتحدة، على نظام صدام حسين. هو المصير الذي ربما يلقاه نظام الملالي في إيران قريباً. ولقد رأينا أيضاً كيف تحول معمر القذافي بين ليلة وضحاها من عدو لدود إلى صديق حميم للمجتمع الدولي يفتح له الجميع أحضانه بعد توقفه عن تحدي القوى الكبرى، على الرغم من أن القذافي بقي كما كان الطاغية الذي يحكم شعبه بالحديد والنار.

لقد أفسدت المصالح العلاقات الدولية، فلم تعد هناك مباديء تحكم العالم، ولم يعد هناك معيار واحد يمكن للمرء أن يقيس به علاقات المجتمع الدولي مع الأنظمة الطاغية. لقد ارتكب روبرت موجابي الكثير من الجرائم بحق شعبه، وهي الجرائم التي يستحق عنها عقوبة صارمة من المجتمع الدولي. ولكن إذا كان المباديء لا تزال تحكم المجتمع الدولي فإن العقوبات التي ستوقع على موجابي يجب أن توقع بلا استثناء أو محسوبية على جميع الطغاة الذين يرتكبون جرائم مماثلة بحق شعوبهم. والعقوبات التي نتحدث عنها هنا لا ينبغي أن تكون إقتصادية تنزل بالشعوب وتحرمها من الطعام والدواء، ولكنها عقوبات تفرض على الأنظمة كحظر السفر وتجميد الأرصدة وغيرها. لا شك في أننا في حاجة ماسة لتوحيد المعيار الذي يستخدمه المجتمع الدولي في التعامل مع الطغاة احتراماً للمباديء وحفاظاً على المصداقية ومراعاة لحقوق الشعوب المحرومة من الدمقراطية والحريات.

جوزيف بشارة
[email protected]