بالرغم منأن هذه القصة حدثت فى الواقع وكان الطبيب زميلاً لى فى كلية الطب وتخرج قبلى بعدة سنوات إلا أننى من غرابتها لا زلت غير مصدق لأحداثها العجيبة وتطوراتها المذهلة، ولكن ماذا نقول إذا كانت قد حدثت فى قرية نعرفها جيداً وحكاها الزميل بكل تفاصيلها؟؟ ليس أمامى غير إعادة سردها بأسلوبى على حضراتكم لعلى أسمع الكثير من الآراء ووجهات النظر المختلفة فى كل ما تعرضت له القصة من تفاصيل، ولكى لا أطيل عليكم تعالوا بنا نقرؤها ثم نفكر فى كل شىء فقد نثبت أنها خرافة وقد نؤكد أنها حقيقة، وقد نتفق فى اشياء ونختلف فى أشياء وفى النهاية فإن إختلاف وجهات النظر لا يفسد للود قضية.

القصة:

كانت الساعة تقترب من الخامسة فجراً عندما اقتربت زوجته من فراشه لتيقظه كالعادة لصلاة الفجر التى دأب على أدائها فى وقتها جماعة بمسجد القرية الصغيرة القريب من منزلهم، ولكنه لم يستيقظ هذه المرة ولم يستجب لأى نداء ولم تؤثر فيه الصيحات العالية التى تصدرها زوجته والتى تسببت فى إيقاظ أطفاله الثلاثة من نومهم فقاموا مفزوعين وأسرعوا منزعجين نحو صوت أمهم الذى بدأ يتزايد وصياحها الذى أخذ يتحول إلى نحيب.

هرع الأهل والجيران وأهل القرية الصغيرة المحدودة العدد النائية نسبياً عن موقع القرية الأم، وذهبوا مسرعين نحو مصدر الصياح ومكان النواح فعرفوا أن ذلك الرجل الطيب قد مات فأخذوا يضربون كفاً بكف قائلين لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون، وأخذوا يعددون فى صفاته الحميدة ومزاياه وطيبته وكثرة خدماته لأهل القرية، وراح آخرون يتحدثون عن سماحته بينما صاح فيهم أحد الشباب طالباً منهم التصرف والذهاب لطبيب الصحة فى القرية الأم لكى يحضر للكشف على المتوفى وتحديد سبب الوفاة واستخراج شهادة الوفاة تمهيداً لعمل إجراءات الجنازة والدفن.

خرج رجلان من أهل القرية متوجهين إلى طبيب الصحة فى القرية الأم وقابلوا الطبيب الذى كان مقيماً فى القرية بزوجته وأولاده حيث توفر له وزارة الصحة شقة مفروشة ومجهزة بمقر الوحدة الصحية، وقابلوه حيث كان راجعاً من كشف على مريض بأحد المنازل فى القرية الأم، حكوا له حكاية قريبهم الذى ذهبت زوجته لإيقاظه فوجدته ميتاً فقال لهم يرحمه الله لقد كان رجلاً طيباً ودعا له بالرحمة ثم سألهم:
هل كان مريضاُ فى الأيام السابقة لوفاته؟
فقالوا له لا يا دكتور كان شديداً مثل الحصان.
فقال إذاً فقد أصيب بجلطة مفاجئة بالقلب فقالوا قد يكون يا دكتور ألن تأتى للكشف عليه وفحصه وبيان سبب الوفاة؟
فقال لهم عندى الآن حالة توليد سأقوم بها بعد قليل ولا أستطيع مغادرة المكان، وأنا أصدقكم وأثق فيكم فاذهبوا اعملوا له كل إجراءات الجنازة والدفن ثم عودوا لى أعطيكم شهادة الوفاة، ولقد كانت هذه هى عادة هذا الطبيب والكثيرين من زملائه للأسف الشديد، فكان أهل المتوفين يحضرون للإبلاغ عن الوفاة ثم يصرح لهم الطبيب شفوياً بالدفن فيذهبون ويدفنون ميتهم، ثم يعودون له بعد عدة ايام لإستصدار شهادة الوفاة، ولا يوجد ضرر قانونى فى تأخير إستخراجها لعدة ايام طالما كانت الوفاة طبيعية ولا توجد بها شبهات جنائية.

فقالوا له لو تكرمت علينا يا دكتور على الأقل تعطينا تصريحاً للدفن حتى لا يتعرض لنا أحد.
فقال لهم : لا مانع ثم أعطاهم تصريحاً بالدفن وعادوا للقرية مطمئنين بالتصريح واعتبروا أن هذه الفعلة من طبيب الصحة هى من قبيل الثقة فيهم والمجاملة لهم، وتمت إجراءات الغسل والتكفين والصلاة على الميت ثم الجنازة والدفن والعودة للقرية لعمل العزاء اللازم للمتوفى فى مضيفة القرية المعدة خصيصاً لهذا الغرض، وجاء الناس من القرى والنجوع المجاورة للعزاء فى المتوفى، وسماع ماتيسر من أيات القرآن الكريم بصوت الشيخ المشهور والذى يأتى خصيصاً للقراءة فى المآتم بأجر معقول.

كان أهل القرية يقيمون قبور موتاهم فوق سطح الأرض منذ عدة سنوات بعد أن طالت المياه الجوفية منطقة المدافن المخصصة لأهل القرية، فكانوا يقيمون المقبرة مكونة من طابقين أو ثلاثة وكان إرتفاع الطابق يكفى لدخول رجل وهو منحنى الظهر لكى يضبط نومة المتوفى من الداخل، ثم يضعون الميت فيها ويضعون تحته فرشاً من الرمل ثم يضعون طوبة لبنية ( طينية لم تحرق فى النار ) تحت رأسه، ويغلقون المقبرة بالطوب الأحمر والأسمنت، ثم يكتبون إسم المتوفى وتاريخ وفاته على وجه المقبرة من الخارج.

وكعادة الناس فى القرية يذهب أهل المتوفى يومياً لقراءة القرآن أمام قبره لمدة ثلاثة أيام، ثم ينقطعون عن الزيارة حتى اليوم السابع من تاريخ الوفاة فيذهبوا لإقامة ما يسمى ب( خميس المتوفى ) وهو أول يوم خميس يمر بعد وفاة الميت، وبالطبع فهى عادات إجتماعية موروثة ولا صلة لها بدين ولا ما يحزنون.

فى الليلة التالية ليوم الدفن نامت زوجته من شدة الإرهاق والتعب واستقبال المعزين، ورأت فيما يرى النائم رؤيا غريبة جداً قامت على إثرها مفزوعة جداً، وراحت تقصها على أولادها وأقاربها واقارب زوجها وهى أن زوجها يناديها بصوت خفيض قائلاً : أنا لم أمت انا لازلت على قيد الحياة، وتعجبوا جميعاً من منظر هذه الرؤيا المخيفة فمنهم من قال الله أعلم، ومنهم من قال أنه مات شهيداً لأنه توفى بالجلطة القلبية فجأة كما سمع من بعض الشيوخ، ومنهم من استغفر ربه وطلب منها أن تستعيذ بالله تعالى من كيد الشيطان الرجيم.

ولكنها ndash; زوجته ndash; لم تسمع لأى رأى من هذه الآراء، وأخذت أولادها وذهبت من الصباح الباكر إلى موضع مقبرة زوجها ومعهم المصحف الشريف لقراءة القرآن حولها والدعاء لأبيهم بالرحمة والمغفرة، ولكنهم فوجئوا بما لم يكن فى الحسبان فهناك داخل المقبرة صوت نقر على جدارها فخافوا خوفاً شديداً وتملكهم الرعب والفزع الشديد، وهرعوا جميعاً نحو البيوت المجاورة للمقابر صارخين بأعلى أصواتهم فتجمع الناس حولهم وسألوهم عن الأمر، ولما سمعوا منهم توجهوا جميعاً نحو المقبرة وأنصتوا وقلوبهم ترتجف والعرق يتصبب منهم جميعاً، فتأكدوا من وجود صوت نقر على جدار المقبرة، فأسرعوا بإحضار شاكوش كبير وفتحوا وجه القبر فتحة واسعة فكانت المفاجأة التى تسببت فى سقوط الزوجة مغشياً عليها، وصاح الناس جميعاً قائلين : الله أكبر.. الله أكبر.. سبحان من يحى العظام وهى رميم.. وأخرجوا الشاب من مقبرته حياً يكاد يموت من العطش الشديد ونقص الأكسجين فى المقبرة، وأحضروا سيارة فوراً وذهبوا به إلى مستشفى المركز، وهناك استقبلوه وأدخلوه غرفة العناية المركزة وعملوا له الإسعافات الطبية اللازمة، وقرر الأطباء أنه كان فى غيبوبة عميقة لم يحددوا لها سبباً غير نقص حاد ومفاجىء فى كمية الدم الذى يضخه القلب نحو المخ فأدى إلى هبوط حاد ثم غيبوبة لم يكتشفها أهل القرية البسطاء،وبطبيعة الحال فإن المصاب بهذا الهبوط الحاد يكون تنفسه خافتاً جداً ولا يسمع عن بعد بسهولة.

وخرج معافاً فى اليوم التالى مباشرة، وعاد لبيته وأهل قريته الذين قابلوه فى ذهول شديد وهنأوه بعودته من قبره سالماً، وقال قائل منهم سبحان الله : ( لكل أجل كتاب فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ).

من حسن حظ سيادة طبيب الوحدة الصحية أنه لم يكن قد أخرج لهم شهادة الوفاة، فلما علم بالأمر إرتجف خوفاً واستأجر سيارة بسرعة وذهب إليهم وهنأهم بسلامة الميت وعودته من القبر، ثم اشار للرجلين الذين استلما منه تصريح الدفن وطلبه منهما فأعطوه له فمزقه على الفور، وابتلع ريقه بعد أن بلغت نفسه الحلقوم خوفاً مما حدث، فلو كان قد أعطاهم شهادة الوفاة لحظة ذهابهم له لكان قد وقع فى كارثة كبيرة تؤدى لفصله من عمله بل وسجنه بتهمة الإهمال، ولكن الله سلم هذه المرة، وقد تعلم الطبيب الهمام ألا يصرح لأحد بالدفن قبل أن يرى جثته ويفحصها جيداً ويؤكد حدوث الوفاة ويطمئن على سبب الوفاة بنفسه، فكان هذا درساً عظيماً له فى عمله، كما كان درساً لأهل القرية ألا يدفنوا ميتاً قبل أن يوقع عليه طبيب الصحة الكشف بدقة شديدة.

حسن أحمد عمر