يقول المثل العراقي الدارج quot;ياحافر البير لتغمج مساحيها خاف الدهر يندار وإنتة تكع بيهاquot; كما يقول المثل العربي الفصيح quot;من حفر حفرة لأخيه وقع فيهاquot; وهذا ماجرى بالفعل مع منفذي جريمة 14 تموز 1958 التي يسميها أبنائها (أم الثوارت) وماصاحَبَها من مذبحة ومجزرة دموية بحق العائلة المالكة العراقية بغير وجه حق وبإسلوب وحشي همجي لاتبيحه الأعراف والشرائع السماوية والإنسانية وفي فعل لايصدرسوى من أناس إنعدمت من قلوبهم الرحمة ومن ضمائرهم الإنسانية.. فنظرة بسيطة لأحداث التأريخ التي أعقبت هذه الجريمة ترينا بأن مافعله منفذوها قد عاد عليهم شؤماً وموتاً بعد أن تجرأ وتطاول عليهم من لم يكونوا ليجرؤا يوماً على التطاول عليهم لولا الإنقلاب الذي قادوه ونفذوه بأنفسهم وسمحوا فيه بتطاول أمثالهم على ملوكهم وأمرائهم حيث عادت نفس الأيادي التي أخطأوا بالسماح لها بالعبث بمقدرات البلاد وبأرواح وأجساد العائلة المالكة بعد موتها لتعبث بمقدرات البلاد وبأرواحهم وأجسادهم هُم كما حدث مع الزعيم قاسم ورفاقه بمبنى الإذاعة والتلفزيون وكما حدث مع العقيد عبد السلام عارف في حادثة الطائرة الغامضة وكما حدث مع الشواف والطبقجلي ورفعت الحاج سري في حادثة أم الطبول المعروفة.

والآن دعونا نتسائل.. ماذا كان مصير أبناء (أم الثورات) وعلى رأسهم من إجتمعوا في 11 تموز 1958 وقرروا قتل الثلاثة الكبار ؟.. والجواب هو أنهم قد بدؤا بالتآمر على بعضهم البعض وقتل بعضهم البعض بعد أيام من حدوثها حيث قام إبنها (الزعيم الأوحد) عبد الكريم قاسم وبعد أسابيع بسجن إبنها عارف ثم بعد عام وفي 1959 تآمرت مجموعة من أبنائها من ضمنهم الشواف والطبقجلي والحاج سري على إبنها قاسم الذي أعدمهم جميعاً في ساحة أم الطبول ثم جائت محاولة أبنائها البعثيين الفاشلة لإغتيال إبنها قاسم التي أعقبها تآمرهم مع إبنها عارف لتنتهي مرحلة (أم الثوارت) بإغتيال إبنها قاسم مع إبنيها وصفي طاهر والمهداوي بيد أبنائها الآخرين يتصدرهم عارف ليعقد الأخير قرانه ويعلن زفافه على (عروس الثورات) في 8 شباط 1963 التي لم تمر على ذكرى عرسها وزفافها سنة واحدة حتى إنقلب عريسها على أخوته الذين وقفوا معه في عِرسِه وبطش بهم لينفرد بالسلطة التي لم يهنأ بها بعدما لقي مصرعه بحادث طائرة غامض مع أخوه إبن الثورة عبد اللطيف الدراجي عام 1966 ليحل محله أخوه إبن الثورة عبد الرحمن عارف الذي لم يهنأ هو الآخر بعروسه بعد أن نغّص عليه أخوته من أبناء أم الثورات حياته بالإنقلابات المتتالية التي آتت ثمارها بولادة (حفيدة الثورات) في17 تموز 1968 حيث أزيح إبن الثورة عبد الرحمن عارف عن سدة الحكم نتيجة لمؤامرة حاكها ضده أبناء الثورة من البعثيين بالتعاون مع أقرب المقربين إليه من أبناء الثورة وهم مدير إستخباراته إبن الثورة عبد الرزاق النايف وآمر حرسه الجمهوري إبن الثورة عبد الرحمن الداوود ومسؤول حمايته إبن الثورة سعدون غيدان حيث نفي خارج العراق وبعدها بأسبوعين أي 30 تموز 1968 قام إبن الثورة (الأب القائد) لحفيدة الثورات أحمد حسن البكر وبالتعاون مع المقربين منه من أبناء الثورة بتصفية أبناء الثورة النايف والداوود ثم شيئاً فشيئاً تمت تصفية أبناء الثورة حردان التكريتي وفؤاد الركابي وعبد الخالق السامرائي وسعدون غيدان ومحمد عايش وعدنان الحمداني وصالح مهدي عماش وغيرهم حتى وصل الدور لإبن الثورة البَكِر نفسه الذي أزيح عن سدة الحكم عام 1979على يد إبن مدينته ورفيقه ونائبه إبن الثورة (القائد الضرورة) صدام حسين الذي سبق وأن عفى عنه إبن الثورة عبد الكريم قاسم عام 1959 عندما شارك بمحاولة إغتياله ليأتي اليوم الذي يحكم فيه العراق لثلاثين عاماً أدخله فيها بدوامة من الحروب والمشاكل الإقتصادية والإجتماعية والسياسية تسببت بنهاية المطاف الى إعادة إحتلاله في 2003 على يد الولايات المتحدة الأمريكية ومن ثم إرجاعه عشرات السنين الى الوراء فيالبركات أم الثورات.. ولاننسى هنا طبعاً أن نشيد بباقي أبناء الثورة من الأحزاب اليسارية والقومية التي شكلت حينها مايسمى بميليشيا المقاومة الشعبية والحرس القومي التي كانت شوارع العراق ومدنه مسرحاً لصراعاتها الدموية التي لم تتقن يوماً غيرها..أما (بطل الغوار) لأم الثورات عبد الستار العبوسي الذي أطلق النار من رشاشته على العائلة المالكة بقصر الرحاب فقد عاش حياة صعبة وعانى آلاماً نفسية شديدة بعد سنوات من مصرع العائلة المالكة حيث كانت أرواح ضحاياه تطارده كأشباح في منامه وكان كل من الأمير عبد الإله والملك فيصل يأتوه في المنام ويعاتبوه عتاباً شديداً حول مقتلهما حسبما كان يتحدث هو لأصدقائه المقربين مما حدا بوزارة الدفاع لتعيينه بالملحقية العسكرية في موسكو عله يشفى من الحالة التي لازمته لكن دون جدوى حتى أقدم على الانتحار بمسدسه عام 1971 واضعاً الحد لمعاناته اليومية دون أن تنفع معه الأدوية المسكنة والمهدئة لأعصابه المنهارة.. في الحقيقة لم يكن إنقلابيوا 1958 بالعراق سوى إمّعات لإنقلابيوا1952 بمصر أرادوا إستنساخ وتقليدهم ونقل تجربتهم الفاشلة للعراق إلا أنهم كانوا إمّعات ومقلدين فاشلين فإنقلابيوا 1952 لم يقتلوا فاروق ويبيدوا عائلته ويمثلوا بجثثهم كما فعل إنقلابيوا 1958 مع فيصل الأول وعائلته وإنقلابيوا 1952 لم يسرقوا قصرعابدين وينهبوه ويحرقوا ويدمروا محتوياته كما فعل إنقلابيوا 1958 بقصرالرحاب ومحتوياته وفي الوقت الذي تمكن فيه إنقلابيوا 1952 من الحفاظ ولو شكلياً على تماسكهم أمام شعبهم وأبقوا خلافاتهم داخل جدران غرفهم وأقبيتهم المظلمة دب الخلاف بين إنقلابيوا 1958 بالعراق من اليوم الثاني لإنقلابهم المشؤوم بدئاً من الرأس الذي كان يمثله كل من قاسم وعارف وصولاً للأذيال فساحة جامع أم الطبول وشوارع مدينتي الموصل وكركوك لاتزال تحكي ماقامت به ميليشيا المقاومة الشعبية بدعم من قاسم نفسه بحق رفاق دربه وشركائه السابقين في التآمر على العائلة المالكة كما إن دار الإذاعة وشوارع بغداد لاتزال تروي ماقام به رفاق قاسم السابقين من ميليشا الحرس القومي بحقه وبحق من كانوا يشكون بموالاته له صباح 8 شباط الذي كان أسوَداً كسابقه وذاكرة العراقيين الذين عاشوا تلك الفترة لاتزال تحتفظ بالمشاهد الدموية وبصور أعواد المشانق التي نصبها الأخوة الأعداء لبعضهم البعض بعد تنفيذهم لأبشع جريمة في تاريخ العراق الحديث.

وهنا لابد أن نشير الى أن البعض يحاول أن يزور التأريخ ويزيف الحقائق وقلبها عندما يصف ماحدث في 8 شباط و17 تموز بأنه (إنقلاب أسود) فيما يصف ماحدث في 14 تموز بأنه (ثورة بيضاء) رغم كونها أوجه مختلفة لعملة واحدة لأن من قاموا بها جميعاً هم نفس الأشخاص كما إن الأساليب التي أستخدمت بها جميعاًهي نفس أساليب التآمر والإغتيال والخيانة وبالتالي فإن(عروس الثوارت!) و(حفيدة الثوارت) كانت إستمراراً وتواصلاً طبيعياً (لأم الثورات!) ونتيجة حتمية لها.. فعبد السلام عارف الذي تآمر في الأقبية المظلمة مع البعثيين لتنفيذ (إنقلاب 8 شباط) على عبد الكريم قاسم وقتلِه وأحمد حسن البكر الذي تآمر في نفس الأقبية مع رفاقه البعثيين لتنفيذ (إنقلاب 17 تموز) على عبد الرحمن عارف هم أنفسهم الذين سبق وتآمروا مع قاسم أيضاً في الأقبية المظلمة لتنفيذ (إنقلاب 14 تموز) على العائلة المالكة وقتلها وإسقاط النظام الملكي بل لقد كان عارف نفسه وليس قاسم هو الذي أذاع بيان الإنقلاب الأول وهيج بعض الرعاع الذين تستشهدون بهم على أنهم جماهير الثورة للهجوم على قصر الرحاب وقتل العائلة المالكة والتمثيل بجثث أفرادها.. فلماذا إذاً هذه الإزدواجية لدى البعض حين ينظرون لما فعله بعض الأشخاص تجاه قاسم على أنه تآمر وإجهاض للثورة وإلتفاف عليها وسرقة لمنجزاتها ولايُنظرون لما سبق وفعله نفس هؤلاء الأشخاص بالإتفاق مع قاسم نفسه تجاه العائلة المالكة على أنه خيانة وتآمر وحنث لليمين وخيانة للعهد وخروج عن الشرعية الدستورية وتخريب للبلاد وعرقلة لتطورها خصوصاً وأن جميع من تعاقبوا في السطو على السلطة بعد 1958 كانوا يطلقون على جريمة 14 تموز تسمية (أم الثورات) وكانوا يضعون في خاتمة أسمها (المجيدة) ويحتفلون بها ويعتبرونها أحد أعياد العراق الوطنية وعطلة رسمية وكما يحاول البعض اليوم أن يدعي بأنه إبن الثورة الحقيقي وغيره المُتبنى وبأن المُتبنين قد تآمروا على الثورة وإنقلبوا عليها في 8 شباط و17 تموز فإن الآخرين وعندما كانت بيدهم السلطة كانوا يدعون بأنهم هم أبناء الثورة الحقيقيين والآخرين مُدّعين ومُتبنين وبأن قاسم ومن ساندوه هم من إنحرفوا عن مباديء الثورة لذا جائت عَروسَهم لتعيد الأمور الى نصابها ولتصحح مسار الثورة وتبادل الأدوار والإتهامات هذا ليس غريباً على تيارات قضت عمرها تتبنى وتجتر الأفكار الشمولية ونظريات التآمر والشعارات الفارغة الطنانة وتبرر كل الوسائل للوصول الى السلطة التي هي مبتغاها الأول والأخير.

لقد كان أبناء (أم الثوارت) أول من أسس لثقافة إحنث بيمينك وخن عهدك وتآمر وأقتل لتحقيق ماتريد وللوصول لغايتك حينما أقدموا على فعلتهم النكراء تجاه العائلة المالكة.. لذا رأيناهم جميعاً يحنثون بأيمانهم التي قطعوها لبعضهم البعض وخانوا العهود التي قطعوها لبعضهم البعض وتآمروا على بعضهم البعض وقتلوا بعضهم البعض ليتخلصوا من بعضهم البعض ويصبحوا رؤساء على بعضهم البعض ولسان حال كل منهم يقول لماذا يكون فلان الرئيس أو الحاكم أو الوزير ولا أكون أنا ؟ ولم لا أستخدم نفس الأساليب التي إستخدمها للوصول لغايته ولتحقيق مايريد ؟ ولم علي الإلتزام بأيمان الولاء وبالعهود والمواثيق التي قطعتها له وهو لم يلتزم بها مع من سبقه؟ ولم لا أتآمر عليه وهو قد تآمر على من سبقه ؟ ولم لا أقتله لأحل محله وهو قد فعلها مع من سبقه ؟.. إنه قانون الغاب الذي سنّته (أم الثورات) نعم هي أم الثورات ولكن في وحشيتها وهمجيتها وإستهتارها بحياة الناس وأرواحهم وهي أم الثورات بقلب الموازين رأساً على عقب وتسييد من لايستحق على من يستحق وهي أم الثورات بوضع الرجال غير المناسبين على دفة الحكم أما فيما عدا ذلك فليس بيد أيدينا اليوم مايوحي بأنها كانت أماً للثورات بحق.. فلقد ثار أبنائها على النظام الملكي لأنه حسبما يدعون كان قامعاً لشعبه ومصادراً لحرياته ومزوراً للإنتخابات ومعطلاً للدستور لكن السؤال الذي يلح علينا هنا هو لماذا بعد أن تحقق لهم مايريدون بدؤا يقمعون شعبهم وبعضهم البعض بميليشياتهم الحزبية كالمقاومة الشعبية والحرس القومي والجيش الشعبي وأقاموا لشعبهم ولبعضهم البعض أعراساً من الدم في1959 و1963 و1968 و1975 بدلاً من أعراس الفرح التي وعدوا بها الناس؟ ولماذا حكموا البلاد لنصف قرن دون أن يقيموا إنتخابات واحدة يتيمة حتى لو كانت مزورة بدلاً من أن يُنصّبوا أنفسهم قادة عليها وعلى شعبها بالقوة ومن منطلق الشرعية الثورية ؟ ولماذا تركوا البلاد لخمسين عاماً دون دستور دائم عوضاً عن دستورهم المؤقت الذي وضعوه بعد أم الثورات وياليتهم طبقوه بدل القرارات الإرتجالية الفردية التي كان يتخذها الزعيم الأوحد والأب القائد والقائد الضرورة ؟ وحتى يوم أرادوا أن يُبلطوا شارعاً أو يَبنوا جسراً أو مستشفى أو يُأسسوا جامعة أو يُنشئوا سداً عادوا والعود أحمد لتصاميم مجلس الإعمار الذي أقامه النظام الملكي وقادته وروجوا لأكبر كذبة في تأريخ العراق الحديث حينما نفذوا بعضها وسَمّوها بأسمائهم وجيروها على أنها إنجازات لهم !

لذا فبنظرة سريعة على تأريخ (أم الثورات) نرى بأنها وبعد أسابيع وربما أيام من قيامها وحالها حال أغلب (الثوارت المجيدة) في العالم أخذت تأكل أبنائها واحداً تلو الآخر والذين بدورهم أخذوا يأكلون بعضهم البعض وينهشون لحم بعضهم البعض حتى لم يبقى لهم أثر إلا بعدد أصابع اليد الواحدة وحتى من بقي منهم نجده في المنافي وفي دول الغرب ذات (النُظُم الملكية) بالذات بعد أن شردوا بعضهم البعض نتيجة لمسلسلات الخيانة والتآمر والقتل وسفك الدماء والتمثيل بالموتى التي تربوا عليها والتي قامت عليها أم الثورات وأصبحت سِمة أساسية من سِماتها والتي تحولت مع مرور الزمن الى لعنة لاحقت جميع من خططوا لها وشاركوا في تنفيذها وتبنوا أفكارها وساروا على دربها من الساسة العراقيين والتي يبدوا بأنها لن تزول الى أن تعلن النخبة السياسية العراقية بأنها براء مما حدث في 14 تموز 1958 وتشخصه وتصفه على أنه عمل همجي وحشي وجريمة نكراء وتحاكم منفذيها إعتبارياً وتعيد لضحاياها حقوقهم المعنوية وسيأتي هذا اليوم بإذن الله وبهمة العقلاء والوطنيين والمخلصين من أبناء العراق.

مصطفى القرة داغي

[email protected]