من الصعب أن تجد مجتمعا في العالم يتميز بوحدانية ثقافية،دينية وأثنية عدا تجمعات سكانية في الأدغال أما في المجتمعات التي عاشت ورافقت التطور الحضاري ( الاجتماعي الثقافي )والاقتصادي، نجد أن هناك مزيج من الثقافات والاديان والاصول الاثنية المختلفة.والسؤال كيف تمكنت هذه المجتمعات والمتمثلة بدول من العيش بحريةومن دون قهر واضطهاد وتعايشت من أجل العمل و التطور والبناء المشترك لخد مة مجتمعها متجاوزة الفروقات بين أفرادها هل هو التسامح أم الشعور بأهمية العيش المشترك والسلم ألاهلي لتوفير الحياة الامنة لكل الناس،؟ و الدولة ألتي أقامتها تلكم المجتمعات سنت القوانين التي تسير الحياة اليومية للمواطنين مساوية بينهم جميعا في الحقوق والواجبات وكيف تطورت تلك القوانين لتصل الا ما وصلت اليه اليوم في دول مختلفة والمتفقة على ألاسس وقد تكون مختلفة في الجزئيات،وما هو موقف الانسان عندما تتعارض هذه القوانين مع ما يؤمن به الشخص دينيا؟

ما هي طبيعة وأسس مثل هذه الدولة؟
يستعمل البعض من الكتاب العرب أصطلاح الدولة العلمانية التي تدعوا ألى فصل الدين عن مؤسسات الدولة عند رسمها للقوانين التي يحكم وفقها، ولكني لا أجد اصطلاح العلمانية موفقا في هذا الشأن. أذا ما عدنا الا أصول الكلمة المأخوذة من اللاتينية وتعني با لزمان أكثرمما تعني بالمكان ( عالمنا هذا، اصطلاح زماني أكثر مما هو اصطلاح مكاني ).
لقد نشات وتطورت القوانين التي تنظم العلاقة بين المواطنين، وتنظم امور المجتمع، وقيام حكوماتهم وعلاقة المواطن بالسلطة نتيجة لحاجة المجتمع لتلكم القوانين، ومن ثم تطورت القوانين نفسها مع تطور المجتمع عبر الزمان بينما بقي المكان ثابت( العالم) والاحكام مرادفة للزمان ويبقى المكان مطلق، فالموقف من هذه القضية أو تلك اليوم قد لا يصلح لما بعد مئة عام ولم يكن يصلح لما قبل مئة عام بغض النظر عن المكان، ومن هذا المنطلق في النظرة للأمور الاجتماعية والثقافية والاقتصادية أنطلقت المفاهيم الجديدة ndash; القديمة، ولكن ومع الاسف لم يتوفق المترجم العربي ولا المصطلح المستعمل العلمانية في تحديد أتجاه النظرة الفلسفية وأبرز المكان ndash; العالم ndash; على الزمان الذي هو الاساس.
القوانين التي تحدد علاقات المجتمع قوانين أنبثقت من المدينة ومجتمعاتها ولذا فهي بالأساس مدنية ولذا فأن أعتقد أن أستعمال أصطلاح ( المدنية ) معبر أكثر عن أصطلاح العلمانية، نسبة للعالم وليس العلم. العالم ثابت والمدينة متغيرة بتغير وتطور مجتمعاتها من النواحي الثقافية ولاقتصادية والاجتماعية والمذهبية.

أذا نظرنا الى القيم التطبيقية للمفهوم الزماني( المدنية ) في حياة المجتمع نجد أنه يدعو الى مجموعة من القيم لمن هو يعيش في هذا الزمان بغض النظر عن أنتملئه الديني أو المذهبي أو القومي ألخ، وملتزم بالاحكام التي توصل اليها المجتمع وما يطلق عليه بالاحكام الوضعية والتي هي بحد ذاتها قوانين أفرزها المجتمع المدني ـ مجتمع المدن ـ وتتطور هذه القوانين وفقا لتطور تلكم المجتمعات لتصبح دساتير،وهذه الدساتير تتطور نفسها وفقا لحاجات المجتمع وتأييد المواطنين لذلك وعلى مدى الزمن فهي ليست بالنصوص الجامدة، لهذا أعتقد أن أصطلاح الدولة المدنية والمرتبط بالزمان أصح من أصطلاح العلمانية والمرتبط بالمكان ـ العالم ـ. الدولة المدنية تسن القوانين لكل المواطنين وتوفر المناخ لتعايش جميع السكان وتفسح المجال لازدهار مختلف الثقافات والاديان في جو من السلم الاهلي.


لا أود الخوض في هذا المقال لتطور الفكر المدني ( العلماني ) على مرور الزمن وعبر التاريخ فهذه قضية تاريخية تحتاج الى كتب للخوض فيها، وما أود الكلام عنه جاء نتيجة اصدارات حديثة لمقالات متعددة حول علاقة الدين والسياسة،علاقة رجال (علماء) الدين والسياسة الجمود على النص وعلاقة النص الديني بالسياسة.


الفصل بين الدين ومؤسسات الدولة هومن أسس الدولة المدنية (العلمانية )وهذا يعني عدم تدخل الدين ورجالاته في أمور مؤسسات الدولة وفي السياسة كممثلين ومتكلمين بأسم الدين ولكن هذا لا يعني تقاطع تعاليم الدين معها في الكثير من الحالات، كما يوفر المساواة أمام القانون لكل المواطنين بغض النظر عن انتمائاتهم وفي الوقت ذاته يوفر المناخ الحر والسلمي للمؤمنين من كافة الاديان ممارسة عباداتهم من دون تدخل السلطات ما دامت تلك الممارسات لاتدعو للاعتداء على أصحاب الديانات والمذاهب الخرى، والاديان نفسها لم تعد موحدة أذا ما جئنا للتفاصيل في الامور الجزئية منها ففي الهندوسية هناك الكثير من الاختلافات في طرق التعبد ولمن التعبد وكذلك في اليهودية حيث هنا الكثير من المدارس الفقهية المختلفة لكل منها معابده الخاصة والامر ينطبق على المسيحية والأسلام أيضا، وفي الدولة المدنية ( العلمانية) تتوفر للجميع أمكانية العبادة بحرية وبالطريقة التي يتبعونها، و يغلق الباب أمام أي تعسف بسبب التباين الديني أو المذهبي.


وحتى في الدولة الدينية يضطر الحاكم لأمور دنيوية من أيقاف العمل بالنص الديني اذا ما وجد أنه يتعارض ومصلحة الدولة، والامثلة كثيرة أود الاشارة هنا فقط ألى من موقف الخليفة عمر بن الخطاب في عام الرمادةوما يورده التاريخ من أن قلة الغذاء والجوع أدى ألى أن الخليفة عمر بن الخطاب أوقف العمل بالحكم الشرعي القاضي بقطع يد السارق أذا كانت السرقة لغرض الأكل فقط والمثال الأخر موقف الأمام الخميني من قانون الاصلاح الزراعي في أيران والذي أقره برلمان الجمهورية الاسلامية الايرانية وأعترض عليه مجلس الخبراء بأعتباره مخاف للنص الديني في التعامل مع ملكية الأرض، و عندما سأل الأمام الخميني ما سوف يحدث لولم يتم أقرار القانون :كان جواب المسؤولين أنه سوف يجر الى مشاكل كبيرة بين الفلاحين قد تهدد كيان الدولة الأسلامية في أيران ( أصغر شيرازي ndash;ألدولة الأسلامية والدستور )، عندئذ قام الامام الخميني بتعطيل العمل بأحكام الشريعة في هذا المجال مستندا الى سابقة تاريخية، و تم أقرار قانون الأصلاح الزراعي في الجمهورية الأسلامية الأيرانية، هنك الكثير من الأمثلة لايتسع المجال لها في مقال، أوردت ما سبق للتذكير فقط أن الزمان يتغير وتتغير معه ألأحكام وينسب للأمام علي أبن أبي طالب قوله -- لا تقسرو أولادكم على أدابكم فأنهم مخلوقون في زمان غير زمانكم ndash;( شرح نهج البلاغةلأبن حديد المعتزلي والكتاب صادر عن مكتب أية الله مرعشي النجفي ).
قبل أيام،في الرابع من تموز (يوليو) من هذا العام ألقى المرجع الديني أية اللة الشيخ محمد أسحاق الفياض،وهو أحد المراجع الكبارفي حوزة النجف الأشرف محاضرة بمناسبة العطلة الدراسية ومما جاء فيها،
( وليعلم الناس أن الحوزة لا تريد مرجعا دينيا سياسيا لأن الدين لا يجتمع مع السياسة المتبعة بين دول العالم في الوقت الحاضر لأنها تدور حيث ما دارت مصلحة الدولة سواءا أكانت موافقة للدين أم كانت مخالفة له فلا موضوعية حينئذ للدين، بينما الدين بما له من السياسة لايتغير، ولا يدورحيث ما دارت مصلحة الدولة، هذا أضافة الى أن السياسة غالبا مبنية على الخداع والكذب والمصالح الذاتية الضيقة، فأذن كيف يمكن أن يكون المرجع دينيا وسياسيا معا، لأنه أما أن يتبع الدين أو السياسة، والجمع بينهما لايمكن، ومن هنا نطلب من الأحزاب والكتل السياسية بقوة أن لا يتدخلوا في شؤون الحوزة، ولا يجعلوا من الرموز الدينية ذريعة ووسيلة للوصول الى أهدافهم ومصالحهم الحزبية الضيقة بسبب أو أخر، لأنه تسييس للدين وجعله جسرا للوصول ألى أهدافهم وهو جريمة،ضرورة أن الدين الله وحده لا شريك له فلا يمكن التلاعب به.)
وهكذا شرح هذا العالم الفاضل رؤويته للعلاقة بين الدين والساسة،ودور علماء الدين ( جميع الأديان) في النصح والارشاد والتهذيب والتثقيف وليس أستعمال الدين وسيلة للوصول الى السلطة ومن ثم أبتزاز السلطة للحصول على المكاسب الشخصية الدنيوية.

فصل الدين عن الدولة يعززألايمان ولا يقسر فيه
نجد الان في الدولة البريطانيا المدنية ( العلمانية) أنتشار واسع للجوامع والحسينيات واماكن عبادة الهندوس في مختلف المدن يرافقه أنحسار في عدد الكنائس كما أن هناك أحترام لكافة الأديان والمعتقدات، بينما في الدولة الدينية مثل الجمهورية الأسلامية الأيرانية هنا تضيق على أهل السنة والمسيحيين والأمر ينطبق على العديد من الدول التي تدعي أتها دولة دينية ولكنها تضطهد مواطنيها من المذاهب والاديان ألاخرى،، وهذا ينتهي بنا الاستنتاج أن في الدولة المدنية (العلمانية) تتوفر للناس أمكانية العبادة أفضل من الدولة الدينية.
أذا أمنا بحرية الفرد فمن حق العالم الديني الخوض بالسياسة شأنه شأن أي مواطن أخر وبصفته الشخصية وليس من موقعه الديني،،وأذا ما ارتكب عالم الدين خطأ سياسيا،هو غير معصوم سوف ينجر هذا على مركزه على دين وهنا تأتي الاساءة للدين، هذه القضية ليست مطروحة على النقاش في البلدان العربية والاسلامية فقط، بل تثار في العديد من الدول والمجتمعات. أود أن أذكر هنا مثال بسيط، في بريطانيا منظمة سياسية كان لها نشاط كبير في الستينات والسبعينات من القرن الماضي،هدفها الاساسي مناؤة التسلح وضد الحروب وذات قاعدة واسعة من منظمات ونقابات وشخصيات وانتخب في رئاستها في فترة معينة رجل دين مسيحي،كان يلبس جبته ويصعد على المنابر، يتكلم ضد الحرب،وضد التسلح وضد الحكومة البريطانية وسياستها في هذا الشأن، كتب له رئيس الاساقفة يخيره بين نزع لباسه الديني والتخلي عن لقبه الديني (المطران) ويستطيع الاستمرار في نشاطه السياسي، أو الاحتفاظ بمركزه الديني، وحريته الشخصية في أبداء الرأي، من دون نشاط جماهيري، وقد أقتنع رجل الدين هذا بحجة رئيسه الديني، نزع جبته وبدأ يقدم للجمهور بأسمه الشخصي دون الاشارة الى المركز الديني الذي كان يحتله، وقبل أيام أثيرت ضجة أخرى في بريطانياحول موقف موثقة لعقود الزواج، حيث رفضت توثيق عقد زواج مثليين كونها مسيحية، وتوثيق عقد هذا الزواج مخالف لعقيدتها الدينية، وقامت السلطات المسؤولة عن هذه الدائرة باخراجها من منصبها لأن القانون المدني يسمح بمثل هذا الزواج، وذهبت هذه السيدة للمحكمة مطالبة نقض قرار السلطة المسؤولة وحكمت المحكمة لصالح هذه السيدة كون أن قيامها بتوثيق عقد الزواج مخالف لحريتها الدينية،ولا تزال هذه القضية وقرار المحكمة ولم تنتهي بعد تشغل رجال القانون في بريطانيا، ومثالها ينطبق على ألاديان المناهضة للعنف ومنتسبي تلك الاديان ورفضهم القتال وتكليفهم فقط بأعمال مدنية.
قد أكون أطلت في الأمثلة ولكني أريد أن أشدد على أن في الدولة المدنية (العلمانية ) تؤخذ حرية الانسان في التعبد وحرية الاديان على قدم المساواة بينما في الدولة الدينية يطغي دين ومذهب معين ويقمع بقية الاديان والمذاهب.
والدول المدنية (العلمانية ) لاتكتمل الا بارتباطها بالديمقراطية والعديد من الدكتاتوريين التزموا القوانين المدنية ولكنهم الحقوا الموت والدمار لشعوبهم لذلك يجب الربط بين المدنية والديمقراطية للوصول الى حكم عادل لكافة فئات المجتمع.

د.فاروق رضاعة