نقلت وكالات الأنباء بالأمس عن اتفاق الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى مع الرئيس السوداني عمر البشير على عناصر لتسوية الحرب في دارفور التي تشنها قبيلة الجنجويد المدعومة من قبل الحكومة السودانية على قبائل الفور والمساليت والزغاوة الدارفورية. وكان من أهم عناصر التسوية المقترحة أن يواصل القضاء السوداني نظره في الجرائم التي ارتكبت وفق تحريات اللجان القضائية، وأن تقدم الحكومة السودانية كل من يثبت مشاركته في أي نشاط اجرامي للعدالة مهما كان موقعه، وأن يتخذ المشرع السوداني الإجراءات اللازمة للتأكد من أن القانون الجنائي السوداني يتفق تماماً مع نصوص القانون الجنائي الدولي، وأن يتيح القضاء السوداني الفرصة لفريق من الخبراء القانونيين من الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية والامم المتحدة للاطلاع على اتساق القوانين السودانية وشموليتها وسلامة إجراءات التقاضي، وأخيراً أن تشكل الحكومة السودانية محاكم خاصة للنظر في الجرائم التي ارتكبت في دارفور بحيث تتوفر فيها ضمانات المحاكمة العادلة.

جاء طرح عناصر التسوية المزعومة بعد أيام قليلة من إصدار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو أوكامبو طلب اعتقال بحق الرئيس السوادني في عشر تهم تتعلق بارتكاب جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في ضد مئات الألوف من أهل دارفور. ولا شك في أن عناصر التسوية التي توصل إليها الأمين العام للجامعة العربية مع الرئيس السوداني تأتي في إطار المحاولات الحثيثة التي تبذلها الجامعة العربية للخروج بالدول الأعضاء بها من ورطة طلب اعتقال رئيس دولة حالي الذي يشكل سابقة خطيرة في العالم العربي قد تقود في المستقبل إلى طلب اعتقال المزيد من الحكام العرب الذين قد تثبت إدانتهم بجرائم ضد الإنسانية. ولعل الجهود المتخبطة للجامعة العربية تعكس بحق المخاوف التي تسيطر على عدد من الزعماء العرب الذين يشبه سجلهم الجرائمي سجل الرئيس السوداني.

من المؤكد أن اتفاق التسوية الذي توصلت إليه الجامعة العربية مع الرئيس السوداني لا يعدو كونه محاولة سخيفة ومعيبة للتستر على جرائم مشينة ارتكبها زعيم عربي بحق شعبه، إذ لا يعقل أن يتولى عمر البشير بنفسه أو عبر قضائه غير المستقل التحقيق في جرائم ارتكبها نظامه ويعد هو المسئول الاول عنها. ولعله من المفيد هنا التأكيد على أن توصيات تقرير المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بتقديم عمر البشير للمحاكمة لم تكن مجحفة بحق البشير، بل أن التقرير الذي استغرق إعداده نحو ثلاث سنوات فند الاتهامات الموجهة للبشير والتي تتراوح بين سيطرته على الجناة ومنحهم الحصانة اللازمة لارتكاب الجرائم، وفصل الموظفين الذين يعترضون على ارتكاب الجرائم، وتعيين أخرين لتنفيذ الجرائم مثل وزير الدولة أحمد هارون، ودمج ميليشيا الجنجويد في السلطة السودانية، وحرمان الضحايا من بلوغ نظام العدالة الإجتماعية. وقد استنتج تقرير المدعي العام بناءً على الأدلة المتوافرة على تورط الرئيس السوداني المسئولية المباشرة لعمر البشير عن quot;إهلاكquot; قبائل الفور والمساليت والزغاوة الدارفورية.

لم تكن عناصر التسوية المخجلة التي توصل إليها عمرو موسى وعمر البشير إلا مزحة مهينة للإنسان السوداني الذي لا يجد من يدافع عنه في وجه الطغاة الذين يهدرون حقوقه. فالجامعة العربية التي كان منوطاً بها حماية حقوق الإنسان السوداني والدفاع عنها تخلت تماماً عن دورها، بل أنها تحالفت مع الطاغية عمر البشير ضد الإنسان السوداني. قد يكون من الإجحاف إلقاء تبعية الدور السيء للجامعة العربية على شخص quot;الموظفquot; عمرو موسى وحده، بل أن مسئولية الدورالذي تلعبه الجامعة تقع على عاتق الحكام العرب الذين لم يسعوا للتدخل لإنقاذ أهل دارفور طيلة السنوات الخمس الماضية. وفي هذا الصدد يجدر الإشارة إلى انه ربما كان تمسك الجامعة العربية بحماية الرئيس السوداني من مواجهة العدالة الدولية دليلاً على أن الجامعة العربية لا تعير اهتماماً لقضية دارفور لأن القبائل التي يبيدها الرئيس السوداني أفريقية وليست عربية.

وعلى جانب أخر لم تكن الانتقادات الشعبية العربية لقرار إحالة الرئيس السوداني للمحاكمة أقل سخافة عن دور الجامعة العربية. ولقد كان غريباً أن يرفض الكثيرون من العرب قرار الاتهام الصادر بحق الرئيس السوداني استناداً إلى ما قيل بأنه ازدواجية في تطبيق المعايير الدولية بشأن جرائم الحرب. وقد برر هؤلاء رفضهم محاكمة البشير بالادعاء بأن المحكمة الجنائية الدولية تتجاهل الجرائم التي يرتكبها الإمريكيون في أفغانستان والعراق والإسرائيليون في فلسطين. ولعل التبرير العقيم الذي يستند إليه هؤلاء يمثل دليل إدانة للعقلية العربية التي لا تكتفي باستخدام نظرية المؤامرة للتخلص من المسئولية العربية عن العديد من الكوارث، بل أنها تستخدمها في تبرير جرائم الإبادة التي ترتكب بحق أخوة لهم في الإنسانية والمواطنة والانتماء. وإذا كان الشك لا يساورني بشأن مسئولية بعض الحكام المضلِلين العرب عن معاناة شعوبهم، فبالمثل لا يساورني الشك بشأن بوجود خلل في عقلية الكثيرين من المضلَلين العرب الذين يبررون أبشع الجرائم حين يريدون. وهذا أمر مؤسف.

لست من الذين يؤمنون بأن اتهام عمر البشير بارتكاب جرائم حرب يعود إلى استهداف المجتمع الدولي لبترول السودان الذي تم اكتشافه بغزارة مؤخراً، أو إلى رغبة المجتمع الدولي في تقسيم السودان. فمتابعة الأخبار في مناطق الحروب الأهلية كليبيريا ورواندا ويوجوسلافيا السابقة تشير إلى أن اهتمام المجتمع الدولي بمسائل حقوق الإنسان يتزايد باطراد، وهو ما يدحض فكرة التربض الدولي بالعالم العربي. ولا شك في أن اهتمام المجتمع الدولي بمسائل حقوق الإنسان في مختلف بقاع العالم يعد أمراً إيجابياً حتى وإن كانت تشوب هذا الاهتمام بعض الشوائب من وقت لأخر.


ولقد كان الترحيب الدولي الشديد بإلقاء السلطات الصربية القبض، قبل أيام قليلة، على زعيم صرب البوسنة رادوفان كارادجيتش المتهم بارتكاب جرائم حرب ضد مسلمي البوسنة خلال حرب البلقان الأخرية دليلاً على جدية حقيقية للمجتمع الدولي في التعامل مع قضايا حقوق الإنسان. وربما كان من المهم هنا التأكيد على أن جدية المجتمع الدولي لن تلتقي مطلقاً مع سخافة المزحة العربية السودانية السخيفة التي تحاول تبرئة البشير من جرائم دارفور.

لقد كان قرار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بتقديم الرئيس السوداني للعدالة سابقة رائعة تعيد للمرء بعضاً من ثقته في العدالة الدولية لا سيما وأن عمر البشير لا يزال يتربع على عرش السلطة في السودان. لن تكون المحاكمة المتوقعة لعمر البشير بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة هي المحاكمة الأولى من نوعها التي يواجهها سياسي، فقد سبق البشير عدد من السياسيين مثل الرئيس اليوجوسلافي الأسبق سلوبودان ميلوسوفيتش، والرئيس الليبيري الأسبق تشارلز تايلور، وغيرهما من مجرمي الحرب في البوسنة ورواندا. وربما لن تكون محاكمة البشير هي الأخيرة التي يتعرض لها زعماء حاليون بخاصة في المنطقة العربية، إذ أن هناك عدداً لا بأس به من الزعماء المرشحين للحلول في ضيافة المحكمة الدولية في بدلة هيج الهولندية. ولذا فمن المهم أن يكف العرب وجامعتهم الميمونة عن مزحات تبرئة حكامهم السخيفة التي تهزأ بالعدالة وتهين كرامة الإنسان العربي.

جوزيف بشارة
[email protected]