لم ينزل الوحي على محمود المشهداني، ولا أتاه الإلهام من السماء حتى يطرح المادة 24 من قانون إنتخاب مجالس المحافظات والخاصة بكركوك على التصويت السري، بل أن الطبخة و لا أقول كبعض المتطرفين ( المؤامرة) كانت جاهزة مسبقا. فلا يتصورن أحد أن هذه المبادرة التي تشكل بدعة غير مسبوقة في تاريخ إشتراع القوانين ببرلمانات العالم ، قد جاءت من المشهداني وليدة لحظتها، لأن اللعبة كانت مكشوفة منذ البداية، وهي قصم ظهر الأكراد وتحجيم نفوذهم داخل البرلمان.


هناك أعضاء في الكتل السياسية داخل البرلمان يعادون الشعب الكردي ، سواء تحت تأثير الموروث التاريخي للصراع القومي، أو لحسدهم الأكراد على دورهم المتعاظم في العملية السياسية في العراق الجديد،ولكنهم بسبب إرتباط كتلهم بتحالفات سياسية مع الأكراد ( زواج مصلحة) لا يستطيعون التصريح بتلك المواقف العدائية ،ومنهم من يتحرج من التصريح بتلك المواقف خوفا من موقعه أو منصبه، وقد يكون محمود المشهداني واحدا من هؤلاء، ولذلك فقد أتاح المشهداني بإعلانه التصويت السري لهؤلاء خلال جلسة الثلاثاء، ليوجهوا ضربة الى المطامح الكردية عبر قانون إنتخابات مجالس المحافظات، رغم معرفة المشهداني وكل الضاغطين عليه والمشاركين في طبخته أن هذا الأمر لن ينجح، لأن هناك فيتو رئاسي أولا ، ومن ثم التهديد بالمقاطعة الكردية للعملية السياسية برمتها، وطبعا آخر الدواء الكي ولعلعة الرصاص؟؟!.

وقد يتصور بعض من يعيشون في الوهم ومعهم القومجيين الحالمين بأمجاد الماضي، أن موقف النواب العراقيين في ذلك اليوم كان موقفا وطنيا شجاعا، وأن من صوتوا لصالح القانون هم أبطال صناديد سوف يكتب التاريخ أسمائهم بأحرف من النور، ولكنهم لا يدرون أن هؤلاء النواب أنفسهم قد ألحقوا بالعراق وبتجربته السياسية ما بعد الدكتاتورية أفدح الأضرار، وأنهم دقوا إسفينا في العلاقات بين القوميتين الرئيسيتين في العراق، وأنهم أحدثوا شرخا كبيرا في اللحمة الوطنية التي يتصورون بعقولهم المتخلفة والمريضة أن النواب قد أعادوها بموقفهم ذاك الى جسد العراق؟!!..

فكيف يمكن تصور أن يخدم العداء الكردي العربي ولا أقول تهميش الدور الكردي في العملية السياسية، مصلحة الوطن كما يتصور بعض الواهمين؟!. بل وكيف يمكن القبول بحلول مبتسرة ومرفوضة من قبل كتلة برلمانية كالتحالف الكردستاني والتي لها وزنها على الصعيد السياسي العراقي ، لمشكلة حساسة مثل مشكلة كركوك التي هي بحق أم المشاكل في العراق كما وصفها ممثل الأمين العام؟!..
ولا أدري أيضا لماذا لا تنقشع الغمامة عن أعين البعض من القوى السياسية عند النظر لهذه المشكلة المزمنة التي عجزت جميع حكومات العهد الملكي زائدا أربع أنظمة جمهورية عن حلها، حتى يأتي المشهداني في آخر لحظة يحاول حلها بجرة قلم؟؟!!. أن هذا لعمري لهو غباء من العيار الثقيل؟!..

فالمشهداني كما يقول العراقيون ( أراد أن يكحلها فعماها )، وقد فشل مسعاه الذي أستغرب كيف يبذله في قضية يعرف قبل غيره أنها فاشلة، وكيف يتورط في صفقة يدرك من موقعه السياسي أنها خاسرة، وأنها لا تجر عليه إلا المزيد من العداء الكردي له ولكتلته داخل البرلمان؟!.

مشكلة كركوك تحتمل الكثير من الصراعات كما تحملت في العقود الماضية، وقد يراق الكثير من الدماء على جوانبها، كما أريقت في السابق، فلا أدري لماذا لا يحسب العراقيون وقواهم السياسية مدى حساسية موضوع كركوك بالنسبة للأكراد وإحزابهم السياسية، ويلجئون بدل التصعيد والعنتريات الفارغة الى محاولة حلها بالحوار السياسي؟!.

فالأحزاب الكردستانية من دون إستثناء تعتبر مسألة كركوك قضية مركزية على غرار قضية فلسطين المركزية بالنسبة للقومية العربية، فهذا الحزب يعتبره ( قدسا ) وذاك يسميها( قلبا ) لكردستان، ولطالما أستخدمت هذه القضية كورقة إنتخابية مضمونة النتائج بالنسبة للأحزاب الكردية، فكيف يمكن إذن تصور أن يكون هناك حزب كردي يستطيع الإستغناء عن هذه الورقة الإنتخابية الرابحة؟!.
لماذا لا يفهم عرب وتركمان العراق وفي كركوك تحديدا، أن للأكراد حق تاريخي في كركوك شأنهم شأن الآخرين، وأن الأكراد عندما فرضوا هيمنتهم وسيطرتهم على كركوك بعد سقوط الدكتاتورية ويدعون أنهم قدموا تضحيات من أجل تحريرها ، فإنهم بالنتيجة ليسوا مستعدين للخروج منها تحت أي ظرف كان؟.


ولا أدري لماذا لا يقرأ هؤلاء العرب والتركمان وقواهم السياسية ما بين سطور التصريحات التي يطلقها القادة الكرد حول أحقيتهم التاريخية والجغرافية في كركوك ليستنتجوا في المحصلة عدم إستعداد الأكراد للتنازل عن كركوك تحت أي ظرف كان ، حتى لو أضطروا الى القتال من أجلها ، وقد لوحوا بذلك مرارا لمن يريد من الإشارة أن يفهم؟؟!!.

لقد أثرت موضوع كركوك في كثير من المناسبات مع القادة الكرد الذين ألتقيهم على هامش عملي الصحفي، وكنت أحاول إقناعهم بضرورة الدخول في حوارات سياسية جادة مع مكونات كركوك من العرب والتركمان، والتخلي عن العنتريات الفارغة التي لم تأت بأية نتيجة.. وكنت أحاول إقناعهم بضرورة التنازل عن منصب المحافظ لشخص تركماني أو عربي، طالما أن عصر ما بعد صدام هو عصر الديمقراطية وأن الفيصل هو صندوق الإنتخابات.. وكنت أعتقد وما زلت عند قناعتي بأن التنازل عن بعض الحقوق من أجل إشاعة روح الأخوة وترسيخ أسس الثفافة الديمقراطية بين المكونات العراقية ، هما أجدى وأنفع لحل أعقد مشكلات العراق، ولكن للأسف زادت القيادات الكردية من جرعة الإهمال ولا أقول العداء لمكونات كركوك من التركمان والعرب حتى خسرت الخفين ! فلم نسمع طوال السنوات الخمس الماضية من سقوط النظام السابق أي مبادرة كردية للإنفتاح على التركمان أو العرب، بقدر ما سمعنا إتهامات متكررة وتصريحات ممجوجة بتخوين التركمان وإتهامهم بالعمالة لتركيا، كما كنا نسمع بوصم العرب كونهم من فلول البعث المنهار، فلم تكن هناك أية مبادرة جدية وحقيقية للتطبيع مع هاتين القوميتين الرئيستين في المحافظة على رغم تمسك القيادات الكردية بتنفيذ المادة 140 وهي مادة تطبيعية بالأساس.


من المضحك أن تتمسك القيادات الكردية بالمادة 140 كأنها تتمسك بأستار الكعبة، في حين أنهم لا يتقدمون ولو بخطوة واحدة لتسهيل تنفيذها ، بل ينتظرون وزيرة الخارجية الأمريكية أو مبعوث جورج بر اون أو ممثل الأمين العام ليأتوا يسهلوا لهم عملية التطبيع في كركوك؟!.

ومن الغريب أنهم ما داموا بالأساس غير مستعدين للتطبيع مع قوميات المدينة ،فكيف ينتظرون أن يأتي مبعوث من مجلس الأمن الدولي ليحل لهم مشكلة قرية تابعة لناحية ( قراج)، أو تأتي وزيرة الخارجية الأمريكية لتحاول إدخال قرية تابعة لناحية( قرةهنجير) في إنتخابات مجالس المحافظات، وهذه القرى والنواحي لا وجود لها حتى على الخارطة العراقية؟؟!!.

ومما زاد من الطنبور نغمة، هو الموقف الأخير من قانون إنتخابات المحافظات، أو ما أستطيع وصفها بـ( المهزلة البرلمانية) التي شاهدناها يوم الثلاثاء المنصرم؟!. وأسمح لنفسي أن أسميها بالمهزلة ، لأنني على قناعة تامة بأن من طبخوا هذه الطبخة هم مجموعة من قجخجية ( مهربي) النفط من أصحاب الكتل البرلمانية، وعدد من ناقصي الثقافة البرلمانية، وآخرون من أعضاء الميليشيات الذين صعدوا على أكتاف أحزابهم الطائفية الى البرلمان، وإلا لا يمكن لمن يمتلك ذرة من الثقافة البرلمانية والقانونية أن يلجأ الى هذه الصيغة الغريبة للتصويت على قانون برلماني، تصويت نص بالنص، علني وسري لقانون واحد؟!.

والأدهى من كل ذلك هو النص الناسف للمادة 140 من الدستور، حيث أن المادة (51) من القانون تنص على أنه : لا يعمل بأي نص يتعارض وأحكام هذا القانون.وهذا يعني بشكل واضح وجلي ، نسف المادة 140 الدستورية؟!. ولا أدري كيف رأى هؤلاء المشرعون أن المادة 24 من القانون الذي يكرس العنصرية من خلال التفريق بين المكونات القومية، ويطرد مئات الآلاف من عناصر الشرطة والأمن الكردية من كركوك ويستقدم بدلها قوات من الوسط والجنوب، هو أفضل من المادة 140 الدستورية التي تدعو الى التعايش السلمي بين مكونات المحافظة؟!.

ثم أتساءل ، بماذا يختلف المستقدمون من قوات الأمن والجيش من الجنوب والوسط كقوات أمنية، عن العرب الوافدين الذين كان يستقدمهم صدام أيضا من الجنوب والوسط ثم يسلحهم تحت ستار الجيش الشعبي أو الفرق الحزبية لينفذ بهم سياساته العنصرية في المحافظة؟!.
والأخطر من ذلك أن هناك من يدعو الى إرسال الميليشيات العربية والحزبية من جنوب ووسط العراق الى كركوك إستعدادا للمواجهة الكبرى مع الأكراد؟؟؟؟!!!!!.

في نهاية هذا المقال، أنصح القيادات السياسية العراقية بأن يعيدوا النظر في مواقفهم تجاه قضية كركوك، لأنها قضية حساسة بالنسبة للقيادات الكردية، وسبق أن أكدت تلك القيادات ذلك مرارا وتكرارا ، وقالوها بالفم المليان quot; أن قضية كركوك مسألة مصيرية quot;، ويجب على القوى العراقية أن تدرك المعنى من وراء ذلك، فالقيادة الكردية التي طالما تبجحت وتمسكت بقضية كركوك لا تستطيع بين ليلة وضحاها أن تأتي لتقول لشعبها أنها خسرت كركوك الى الأبد، لأن في ذلك مقتلهم السياسي بكل تأكيد..


وأنصحهم ثانية بالقول الخالص quot; لا تجرحوا كبرياء القيادة الكردية، ولا تدعوا الأمور تنفلت من أيديهم وأيديكم ،لأن القيادة الكردية طالما إستسهلت الحروب من أجل المال والسلطان، والدليل قتالهم الداخلي على الموارد الكمركية الشحيحة ، فكيف الحال مع كركوك بمواردها النفطية الهائلة؟؟!.
ونصيحة أخيرة للقادة العراقيين: لا تدخلوا أصابعكم في عش الزنابير، فلات ساعة من مندم..

شيرزاد شيخاني

[email protected]