الباحث الكردي أحمد داغ كتب مقالاً طويلاً في صحيفة (Suuml;ddeutsche Zeitung) الألمانية( عدد 22/07/2008) حول القضية الكردية في تركيا. المقال جاء بمناسبة حادثة اعتقال المقاتلين الكرد لثلاثة سياح المان دخلوا مناطق العمليات العسكرية في جبال آغري quot;دون اذن القوات الكردية، فتعرضوا للإعتقال على الفورquot;، حسب بيان قوات حماية الشعب( الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني). ورغم ان السيد داغ ليس من أنصار العمال الكردستاني وضمّن مقاله ذاك نقداً كبيراً لعملية الإعتقال وبعض أوجه سياسة العمال الكردستاني داخل وخارج تركيا، إلا انه كان موضوعياً الى حد بعيد في عرض القضية الكردية في تركيا وتشخيص أسبابها وإظهار أوجه السياسة التركية والألمانية حيالها، ومن ثم، إقتراح اطر وهيكلية الحل السلمي الديقراطي لها.

والأمر الذي يدفعني للإشارة إلى مقال الباحث داغ هو، كما أسلفت، عرضه الوافي للسياسة التركية الإنكارية حيال الكرد و ـ كذلك ـ إشارته الذكية إلى مكمن الخطأ في السياسة الألمانية حيال حزب العمال الكردستاني. الباحث طالب برلين بالتوقف عن دعم سياسة تركيا المعادية للكرد والعمل على ـ والمساعدة في ـ دمج حزب العمال الكردستاني في الحياة السياسية التركية بعد الإعتراف بهوية وحقوق الكرد. وقد عد داغ حادثة حظرعمل ونشاط الفضائية الكردية (Roj tv) على الأراضي الألمانية من جانب حكومة الإئتلاف الحاكم quot;عملاً غير مبرر، جاء لإرضاء تركيا وسيكون نتائجه المزيد من التصعيد والتعنت الكرديquot;.

والمدقق في السياسة الألمانية حيال القضية الكردية في تركيا عموماً وحزب العمال الكردستاني خصوصاً سيكتشف تناغماً فاضحاً مع الموقف التركي العلني من الكرد. ثمة رفض واضح للإعتراف بالكرد كشعب وهوية وتبني المفهوم التركي المنبني على التعامل quot;الأمنيquot; مع quot;قضية أمنية لمجموعة خارجة عن القانون تريد المس بوحدة الدولة وضرب الإستقرار فيهاquot;. موقف برلين الرسمي هو بصراحة صدى للموقف التركي، مع بعض التشذييب وquot;نكهة الإستقلاليةquot; هنا وهناك:

ـــ تركيا لاتعترف بهوية ووجود الشعب الكردي( مابين 18ـ20 مليوناً) وترفض إدراج هذه الهوية في دستور الدولة. وألمانيا أيضاً لاتعترف بوجود الشعب الكردي في تركيا، وتخاطب الحكومة التركية بصفتها الرسمية، كممثلة عن quot;تركيا: الشعب والعلم واللغة الواحدةquot;!.

ـــ تركيا ترفض الحوار مع حزب العمال الكردستاني أو حزب المجتمع الديمقراطي( رابع قوة سياسية في البلاد، والممثل في مجلس النواب التركي ب23 نائباً)، وتشن العمليات العسكرية في الداخل والخارج لضرب الكردستاني. وألمانيا أيضاً لاتعترف بحزب العمال الكردستاني وتصنفه على إنه quot;حزب ممنوعquot; وتتعامل مع اعضائه والمؤسسات القريبة منه معاملة أمنية بوصف الحزب quot;خطراً على أمن الدولة الألمانيةquot;!.

ـ تركيا تعتقل السياسيين الكرد لأتفه الأسباب وتزج بهم في السجون المعتمة سنيناً طويلة بعد محاكمات صوريّة( البرلمانية ليلى زانا ورفاقها الثلاثة قضوا 10 أعوام في السجن لمجرد ذكر إسم {الكرد} في مجلس النواب التركي، وعشرات الساسة الآخرين يحاكمون لمجرد النطق بكلمة {السيد} حين الإشارة إلى إسم الزعيم الكردي عبدالله أوجلان). وألمانيا بدورها تعتقل الساسة الكرد وتزج بهم في سجونها رغم إنهم لم يحملوا السلاح ولم يقوموا بعمل خارق للقانون والدستور الألماني. فقط لأن عملية الإعتقال والسجن ستفرح تركيا.

ـ تركيا تصر على متابعة وتوسيع الحرب ضد العمال الكردستاني بهدف سحقه وإنهاء وجوده منذ 1984 وتشيح بوجهها عن اية محاولة تعرض التوسط لإجراء حوار ينتهي بالحل والمصالحة. وألمانيا تشن حملات الإعتقالات والمنع والمصادرة منذ بداية التسعينيات إلى اليوم، وترفض الحوار مع ممثلي العمال الكردستاني الموجودين على أراضيها أو في أوروبا، رغم إن تقارير هيئة حماية الدستور الألماني( جهاز أمن الدولة في الترجمة العربية) يعترف بوجود 12 ألف عضو للحزب في البلاد( هذا غير مئات الآلاف من الأنصار والمتعاطفين) وهو العدد الذي يفوق الأعضاء الرسميين المسجلين للعديد من الأحزاب الألمانية العريقة. برلين ترسل الأسلحة المدمرة والحديثة للجيش التركي رغم علمها بأنها ستستخدم في قمع الأكراد وتخريب قراهم وحرق مناطقهم.

ـ تركيا تقول إنها لن تفاوض العمال الكردستاني لأن المفاوضات تقول بين دول وليست مع منظمات إرهابية، لكنها تهندس مفاوضات سريّة بين كل من حركة حماس وإسرائيل ومنظمة quot;حزب اللهquot; وإسرائيل. وألمانيا تفعل الأمر عينه، وكانت لمبادراتها ووساطاتها الأثر الكبير في إنجاح عملية تبادل الأسرى ورفاة الجنود القتلى، بين كل من quot;حزب اللهquot; وإسرائيل. في الحالة الأولى تركيا ترفض فترفض برلين بحجة quot;الإرهابquot;، وفي الحالة الثانية إسرائيل تقبل فتقبل برلين بحجة التعامل العقلاني وسياسة الأمر الواقع مع quot;حزب اللهquot;..!.

ـ تركيا تطالب ألمانيا بإعتقال أعضاء ومسؤولي العمال الكردستاني وترحيلهم إلى quot;بلدهمquot; لكي يقضوا بقية اعمارهم في السجون، وبرلين تنفذ وتعتقل وتٌرحل. بينما يقيم المئات من الفارين من صفوف العمال الكردستاني على الأراضي الألمانية( وبعضهم إرتكب الكثير من التجاوزات والجرائم)، والعديد الآخرين من النشطاء في الأحزاب الكردية الأخرى، وهؤلاء يعيشون في النعيم والدلال، فلا تركيا تطالب برأسهم ولا ألمانيا تضايقهم وتحتجزهم.

ـ تركيا تعزل حزب المجتمع الديمقراطي، وتضيّق عليه الخناق، وتحاكم مسؤوليه( رئيسه السابق النائب نورالدين دمرتاش محتجز الآن في السجن لمدة عام بتهمة التهرب من خدمة العلم!) وترفع دعوة أمام المحكمة الدستورية لحظره وإغلاقه. وألمانيا ترفض الحوار مع هذا الحزب. وسفيرها في انقرة يستقبل كل الناس ماعدا نواب وقادة حزب المجتمع الديمقراطي.

لنتأمل بعض الصور والتناقضات الأخرى هنا:

ـــ المجتمع الديمقراطي الممثل في البرلماني التركي مكروه ومحاصر من قبل الحكومة الألمانية لأن الحزب الحاكم في أنقرة غير راضٍ عن سياساته!.

ـــ صور أوجلان وأعلام العمال الكردستاني التي يرفعها الآلاف في مدن quot;ديار بكرquot; وquot;إسطنبولquot; وquot;باتمانquot; وquot;هكاريquot; وquot;ميرسينquot; ممنوعة في ألمانيا تحت طائلة الإعتقال والضرب والإنتهاء تمزيقاً تحت قواطع الكلاب البوليسية!.

ـــ فضائية (Roj tv) التي تصوّر وتعد بعض برامجها من مدن وولايات كردستان تحت سمع وبصر عناصر الأمن الأترك( الذيّن لايتوانون عن المضايقة والملاحقة، للأنصاف هنا) ممنوعة ومحظورة ومطاردة في ألمانيا. وقرار الحظر ـ للتذكير ـ جاء قبل مباراة الفريقين التركي والألماني، ضمن بطولة كأس الأمم الأوروبيةـ كجائزة ترضية للأتراك في حال خسارتهم امام الألمان، لكي تهدأ نفوسهم ولايقومون بتحطيم الأماكن العامة في البلد الذي يستضيفهم ويفعل كل ما يقع على عاتقه للتضييق على quot;عدوهم الخطيرquot;؟!!.

ـــ الجمعيات والمؤسسات الثقافية والإجتماعية الكردية المفتوحة في كردستان وتركيا والتي تزين جدرانها صور أوجلان ورفاقه من الرعيل الأول في العمال الكردستاني، مٌراقبة في المانيا، وعرضة لمداهمة البوليس والكوماندوس الألماني في أية لحظة.

ـــ صحيفة (Guuml;ndem) الصادرة باللغة التركية والتي وصفها قائد الجيش التركي يشار بويوكانيت بأنها quot;لسان حال العمال الكردستانيquot; تصدر في إسطنبول وتوزع عشرات آلاف النسخ هي ويومية (Azadiya Welat) الصادرة في دياربكر باللغة الكردية، بينما السلطات الألمانية تغلق مقر صحيفة( Yeni Ozguuml;r Politika) بالشمع الأحمر( وقبل الإنتخابات الألمانية بعدة أيام، ويا للمصادفة غير البرئية هنا، إذما علمنا إن هناك مئات الآلاف من اصوات الناخبين الأتراك الذين سيطربهم الكرم الألماني بمنع صحيفة كردية وسيقررون التصوبت للحزب الفلاني الشهم الذي وجه ضربة قويّة للأكراد ومؤسساتهم!!)، كما تداهم السلطات الأمنية الألمانية بيوت الساسة والكتاب والصحفيين الكرد بتهم quot;الكتابة للصحيفةquot; تارةً أوquot;المشاركة في فعاليات العمال الكردستانيquot;، طوراً، وquot;كلو يهون لخاطر عينquot; دولة الشعب الواحد التي أصبحت نقيّة خالصة للعنصر التركي الآن، بعد أن ذبحت الأرمن وهجرّت السريان والكرد الإيزيديين وهاهي تترّك كامل الشعب الكردي وتقتل من يرفض وتضرب على رأس أطفالهم بكعاب البنادق.

ويتساءل المرء هنا: ما مصلحة ألمانيا في عداءها للكرد وللعمال الكردستاني؟. مامصلحة الشعب الألماني في ان تتحول بلاده إلى طرف في الحرب التي تشنها الدولة التركية ضد الشعب الكردي؟.

في واقع الحال لاتوجد أية مصلحة إستراتيجية لألمانيا في التضييق على الكرد وإسناد ظهر سياسة الإنكار التركية. لكن ثمة بعض المصالح الإقتصادية الآنية التي دأبت أنقرة على الإبتزاز والمطالبة برأس مؤسسة كردية أو شخصية نافذة مقابل إنجازها. وبرلين ترضخ وتوافق دائماً ـ وكما تقول الوقائع ـ وتخرق قوانينها عن سبق إصرار وترصد.

حزب العمال الكردستاني حركة سياسة جبارة، لم تستطع الدولة التركية التي تمتلك ثاني أكبر جيش في حلف الناتو من القضاء عليه بعد ربع قرن من الحرب وحرق الأرض الكردية بمن عليها. عادّ الحزب الآن، ولأسباب كثيرة، أقوى من السابق، وعلى كافة الصعد. العمال الكردستاني أكبر حزب كردي ولديه ملايين الأنصار في الشرق الأوسط واوروبا. لديه منظومة إجتماعية، سياسية، إعلامية، مالية، عسكرية لايستهان بها، ومن الخطـأ إستعداءه والإنجرار وراء سياسة الحرب والحسم العسكري التي إنتهجتها ـ ومازالت ـ كل الحكومات التركية تحت ضغط العسكر وخوفاً منهم، وللمزايدة عليهم في حالة quot;العدالة والتنميةquot; الآن. وموافقة برلين على هذه السياسة أمر لايخدم المصلحة الألمانية العليا ـ التي تهمنا كثيراً ـ فضلاً عن كونها تنم عن عقلية كولونيالية، منفعيّة/ مصالحيّة آنية، مغامرة...

القوات الكردية أطلقت سراح السيّاح الألمان الثلاثة. وهؤلاء عادوا إلى بلادهم سالمين وتحدثوا عن quot;المعاملة الجيدة المضيّافةquot; لمقاتلي الحزب، وانهم كانوا متأكدين بأن quot;حزب العمال الكردستاني لن يؤذيهمquot; وأن quot;الخوف كله كان من عملية محتملة للجيش التركيquot; قد تسفر عن إشتباكات مع المجموعة الكردية وتضع حياتهم في خطر( انظر حديث السائح المفرج عنه هلموت هاينتزماير لمجلة شتيرن الألمانية الواسعة الإنتشار). وهذا يدل على ان السياح الألمان وفي قرارة انفسهم كانوا يعلمون بأن المقاتلين الكرد لايؤذون المدنيين أبداً، وإنهم لن يؤذوهم ولن يطالبوا بفدية أو مال مقابل إطلاق سراحهم، وانهم سوف يعودون لبيوتهم عاجلاً أو آجلاً. وحسناً فعل العمال الكردستاني بإطلاق سراح هؤلاء وإعادتهم إلى ذويّهم في أقصى سرعة ممكنة. وخسأ الإعلام التركي الذي كان يستعد لإجراء quot;مقابلات مطوّلةquot; مع السياح للحديث عن quot;إرهاب الأكرادquot; وquot;مظلومية تركياquot;، لكن هذا لم يحدث لأن السياح رفضوا ذلك، وفضلوا العودة لبلادهم على وجه السرعة، وترك الحكومة التركية تواجه مشاكلها وحدها..

العمال الكردستاني أطلق سراح كل جنود الجيش التركي الذين اسرهم مقاتلوه في العمليات العسكرية طيلة السنوات الماضية. كان آخر عملية لإطلاق سراح اسرى الجيش التركي في بداية شهر تشرين الأول من العام الماضي، عندما اطلقت القوات الكردية سراح 8 جنود اتراك وقعوا في الأسر بعد العمليّة النوعيّة في منطقة quot;اورامارquot; الكردستانية.

رئيس الوزراء التركي وحكومته ليس لديهم أي خطة لحل القضية الكردية في البلاد بالحوار والطرق السلمية، لذلك فهو يتحدث عن quot;الحربquot; وquot;شن المزيد من العمليات العسكريةquot; ويطالب الغير بquot;التضييقquot; وquot;إلإعتقالquot; وquot;تجفيف المصادر الماليةquot;، وخلاف ذلك. وقد حان الوقت الآن لأن تقول له أوروبا وألمانيا: توقف عن هذه السياسة وأبدأ بالحل السلمي لأن الحرب لن تحل القضية ولن تجلب سوى الكوارث ومزيداً من العنف لبلدك.

سياسة تأييد الحكومة التركية وإطلاق الوعود بمحاربة العمال الكردستاني والتضييق عليه وإعتقال أنصاره وإدراجه ضمن المنظمات quot;الممنوعةquot; وquot;الإرهابيةquot; ستشجع تركيا على المضي قدماً في طريق الحرب والعنف وستتخلى كلياً عن التفكير بإيجاد حل سياسي معقول للقضية الكردية. فمادامت أوروبا اوميركا تؤيدان كل سياسات تركيا وتغضان الطرف عن القتل والقمع الذي تمارسه، وتقدمان لها كل الإسناد العسكري والسياسي والإقتصادي، فإن إغراء المضي قدماً في الحرب على أمل الإنتصار والظفر لايمكن أن يقاومه مدنيو انقرة وعسكريوها...

وفي مثل هذا المشهد، والحال هذه، سيكون للطرف المقابل كلام آخر جديد وفعل آخر جديد، قد يخرج عن السيطرة في بعض المرت، ولايكون حكيماً دائماً...

طارق حمو
[email protected]