قصي صالح الدوريش من كان: في بداية مميزة انطلقت فعاليات مهرجان كان السينمائي بعرض فيلم Blindness. وقد حرص القائمون على المهرجان أن يكون فيلم الافتتاح من ضمن الأفلام المتنافسة في المسابقة الرسمية على السعفة الذهبية وليس فيلما استعراضيا خارج المنافسة كما جرت العادة في السابق، وكأنها أرادت بذلك الدخول في جو المهرجان منذ العرض الأول. وقصة فيلم quot;العمىquot; من إخراج البرازيلي الشهير فرناندو ميريل مستوحاة من رواية تحمل نفس الاسم للكاتب البرتغالي خوسية ساماراجو الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1998 وهو يضم مجموعة من الممثلين في مقدمتهم جوليان مور ومارك روفالو وداني كلوفر وجائيل غارسيا برنال. لكن العناصر المميزة للرواية وللنجوم وللمخرج لم تكن كافية لكي يحقق الفيلم التألق المنتظر، إذ جاء السيناريو ضعيفا إلى حد ما، رغم أنه يقدم فكرة عامة بسيطة جدا وهي فكرة جميلة من حيث المبدأ لكنها لم تتطور بالشكل الذي يعطي الفيلم والإخراج أسلوبا مميزا خاصا.

النجمة جوليانا مور من فيلم العمى

فيلم Blindness تدور حول وباء يصيب مجموعة من الناس يفقدهم البصر وتقرر السلطات وضعهم في حجر صحي داخل أحد المستشفيات المهجورة وبرفقتهم مبصر وحيد أو مبصرة هي زوجة الطبيب الذي تجسد دورها الممثلة جوليان مور. وتتطور العلاقات بين شعب العميان الذين تسير حياتهم قوة خفية تحرمهم حريتهم لكي تتحول إلى عنف ينتهي بثورة للتحرر من سواد أو بياض عماهم وهو ما يتحقق لهم في النهاية بقيادة زوجة الطبيب. هل السيناريو عبارة عن تصور محدود للرواية؟ وهل يمكن أن تكون هذه الرواية مجرد فضاء مفتوح غير محدد التفاصيل والظلال؟ أسئلة تطرح نفسها بعد مشاهدة هذا الفيلم، لحسن الحظ تألقت جوليان مور في أداء ناضج وصعب بينما ظل مستوى باقي الممثلين متوسطا وخصوصا روفالو وجائيل غارسيا برنال.

أيا كان الأمر لا يخفف مستوى هذا الفيلم المتوسط من الانطلاقة الناجحة للمهرجان في دورته الحادية والستين، خصوصا وأن العرض الثاني كان للفيلم الإسرائيلي quot;فالس مع بشيرquot; للمخرج آري فولمان الذي قدم في إطار فيلم وثائقي صور بالاعتماد على الرسوم المتحركة حكاية عايشها شخصيا، يستعيد عبرها بيروت الغربية إبان اغتيال الرئيس اللبناني الأسبق بشير الجميل ومذبحة صبرا وشاتيلا عام 1982. ويعرض بجرأة لم نعهدها في السينما الإسرائيلية أو حتى في الأفلام العربية التي تناولت المأساة الفلسطينية حجم الظلم الذي وقع على الفلسطينيين في مخيم صبرا وشاتيلا، مع أن هذا الفيلم لا يتحدث عن قضية الشعب الفلسطيني بل العسكريتاريا الإسرائيلية كما عايشها أثناء تجربته حين شارك في غزو لبنان وفي المعارك المدمرة التي واكبته. لكن التجربة التي هزته تمثلت في حضوره مع بعض زملائه العسكريين أمام تجمع المدنيين الفلسطنيين في صبرا وشاتيال، حيث وقعت مجزرة المخيم التي نفذها مقاتلون من حزب الكتائب وبمراقبة وحماية الإسرائيليين. ونتابع خلال الأحداث أحد الجنود يحاول الاستفسار من آرييل شارون عما يجب القيام به أثناء المذبحة، فيتجاهل هذا الأخير السؤال ويتبين له أن الأحداث تجري برعاية القيادة العسكرية الإسرائيلية. منذ تلك الحادثة، أصبح بطل الفيلم ومخرجه أسير ذكريات أصبحت بشكل أو بآخر جزءا من المذبحة التي شهدها والتي أصبح بالتالي شريكا فيها. وفي أحد المشاهد يظهر كيف تحول الفلسطينيون الذين يبكون موتاهم من الحزن إلى المواجهة والتحدي. وبغض النظر عن هوية الجناة والجهة التي ينتمون إليها يظهر الفيلم مجزرة مريعة مؤثرة ومثيرة للصدمة.

من الفيلم الاسرائيلي المثير للجدل فالس مع بشير

quot;فالس مع بشيرquot; لا يسعى إلى إدانة مجرمي صبرا وشاتيلا فهذا أمر معروف ومطروح للنقاش، أهمية الفيلم أنه يدين المنطق العسكري الإسرائيلي والفاشية التي تجلت من خلال المجزرة فاشية من نفذها ومن رعاها. أحداث تلتها عملية اغتيال الرئيس بشير الجميل الذي يصفه الإسرائيليون في الفيلم بقوله quot;الأخ بشيرquot;، علما بأن الفيلم لا يعرض شيئا من قرارات أو مواقف بشير الجميل بالنسبة للتهمة المنسوبة لمنفذي المجزرة.

طبعا شجاعة المخرج وجرأته تثير الدهشة، خاصة وأنه ولد وكبر وتعلم وخدم في إسرائيل بين قومه ووفق مفاهيمهم. وبغض النظر عن المضمون، فإن المستوى الفني جاء مميزا وجاءت الرسوم المتحركة متقنة ومفعمة بحيوية غير معهودة. عندما نشاهد فيلما بهذه الجرأة والصراحة والحميمية ليس بوسعنا سوى التصفيق وبحرارة شديدة، ليس مهما أن يكون المخرج إسرائيليا فمثل هذا الفيلم أكثر صدقا وتأثيرا من الخطب الحماسية التي اعتدنا عليها في الدول العربية والتي رغم كل صوتها المرتفع تعجز عن التأثير. ومن الغريب أن ترفض الدول العربية عرض مثل هذا الفيلم الذي يدين العسكرياتاريا ومجارزها وبشاعتها، وربما آن الوقت لنجد في وطننا من يتحدث بهذه الحرية التي تبني القوة القادرة على المواجهة والتحدي أمام إسرائيل وعدوانها. لقد هاجم بعض النقاد العرب قبل سنوات المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي لأنه يحمل الجنسية الإسرائيلية مثل باقي عرب 1948 رغم ما تنطوي عليه أفلامه من حب ودفاع عن فلسطين وأهلها، ومثل هذا الأمر كان يمكن أن يحدث أمام عزمي بشارة لنفس السبب. لا شيء يمنع من عرض فيلم معاد للبطش الإسرائيلي على المواطن العربي، فقد صور هذا المخرج الإسرائيلي تجربته الذاتية ووضعها في فيلم لكي يرضي وجدانه الإنساني ولكي يتمكن في النظر في وجه أطفاله الثلاثة، صور تجربة جعلته رجلا آخر كما قال، تجربة مقلقة عبر فيلم مؤثر ومدهش خاصة وأنه يعرض أثناء احتفالات إسرائيل بذكرى تأسيسها واستذكار العرب للنكبة. قد يكون الفيلم بمثابة تطهر وعلاج نفسي للمخرج، وهو يثير استفزاز المتزمتين في إسرائيل وخارجها وهو جدير بنيل جائزة هامة في المهرجان، لكن قد يكون الأمر صعبا وربما مستحيلا لأسباب سياسية نعرفها جميعا، اللهم إلا إذا كان رئيس لجنة التحكيم لهذه السنة النجم المشاكس شون بين قادرا على تحقيق مثل هذه المغامرة.