محمود عبد الرحيم من القاهرة:ربما كان قرار مركز الثقافة السينمائية بالقاهرة صائبا في عرض فيلم quot; الطريق 181 quot; لمخرجين إسرائيليين، احدهما من أصل عربي هو ميشيل خليفي، والآخر إسرائيلي، تماما، هو ايال سيفان، بمناسبة الذكري الستين لنكبة فلسطين، رغم التحفظ على التعاطي مع كل ما هو إسرائيلي، فمن المهم معرفة ما يطرحه الآخر، من منطلق quot; اعرف عدوك quot;، وسط حالة الالتباس الشديدة واختلاط الأوراق وضياع الإحساس بوطأة النكبة ورفض الكيان الدخيل على المنطقة لدى الأجيال الجديدة التي جرى تخديرها بمخدر سموه تارة بثقافة السلام، وتارة بقانون الواقعية أو سياسة الأمر الواقع.
وإذا كان الفيلم شاقا في مشاهدته إلي ابعد مدى، كونه يمتد لأربع ساعات ونصف الساعة، إلا انه يبدو مفتوحا على التأويل، ويمكن قراءته من منظور آخر، حال الابتعاد عن الانبهار بالطرح المباشر الذي يجعلك ترى في الفيلم مناصرا للحق العربي، وكاشفا لعنصرية المجتمع الإسرائيلي.
ولعل ما ساعد على رؤية ما بين السطور أو المسكوت عنه في هذا الفيلم، حسبما أعتقد، الخبرة الأكاديمية بنظريات الإعلام وميكانيزمات التأثير في الجماهير التي تقافزت إلي ذهني وأنا أتابع المشاهد المتتابعة للفيلم، خاصة نظرية quot; تأثير النائم quot; التي ترى أن المتلقي يميل إلي فصل الرسالة عن مصدرها بعد فترة، ما يجعله يتأثر بما يطرحه حتى الأعداء، خاصة إذا جرى بناء الرسالة بشكل حرفي تستند على أوتار عقلية، إلي جانب العاطفية، مع خلط الأكاذيب ببعض المعلومات الصحيحة.

من فيلم الطريق 181

فإذا تتبعنا الخطاب الذي يطرحه الفيلم نراه يحمل منطقا متماسكا ويبرر كل شئ، بطريقة مقنعة للآخر الغربي الموجه إليه الفيلم بشكل رئيس، والمهيأ، أساسا، للتعاطف مع اليهود.. فطرد الفلسطينيين حسبما ذكروا المشاركين، جاء دون مذابح، فقط عبر التخويف، لتأمين حماية المجتمع اليهودي من الغزو العربي القادم من سوريا والأردن والعراق، لان الفلسطينيين، هنا، كان يمثلون طابورا خامسا، وحسبما ذكروا، فان لاجئين رحلوا، ولاجئين أتوا، فإذا كان اليهود قد طردوا عربا، فقد جرى طرد اليهود من الدول العربية، ثم أن الأراضي، هنا، كانت حسب البعض ملك لأجداد أجدادهم، ربما منذ عهد النبي إبراهيم، والأراضي الأخرى، جري شراؤها بشكل قانوني وبما يفوق ثمنها وبعضها كان صحراء جرداء بلا صاحب جرى تعميرها بالمباني الحديثة والمزارع الغناء ومد خطوط المياه والكهرباء، فضلا عن أن الفلسطينيين هم أنفسهم الذين رفضوا قرار التقسيم فنالهم ما نالهم، لأنهم يريدون الاستيلاء على كامل الأرض وإلقاء اليهود في البحر، حتى عنف جنود الاحتلال والحواجز وجدار الفصل العنصري، مبررا بخدمة الوطن والدفاع عنه ضد الإرهابيين الذين يفجرون أنفسهم في الباصات، ويروعون الآمنين، بل انه يظهر لنا احد الجنود مثقفا مهتما بالفلسفة وآخر يتصرف بشهامة حين يوقف احد الفلسطينيين، وهو يسير بسيارته ثم يتركه حين يعرف انه بصحبة أمه التي يصطحبها إلي المستشفى.
الأكثر من ذلك، انه اظهر اليهود في أوضاع عديدة بشكل إنساني، يستوجب التعاطف مثل الرجل الذي يتحدث، متأثرا، عن أمه ومعاناتها، حتى وصلت إلي إسرائيل، هربا من الاضطهاد في أوروبا والهولوكست، فضلا عن اليهود العرب من اليمن والمغرب وتونس الذين يتسمون بخفة الظل والمرح ويتحدثون بحماس عن جذورهم العربية وحنينهم إلى مواطن الطفولة، بل أن المتحدثة الأخيرة ذات الأصل التونسي التي ينهي بها فيلمه، تحكى عن أنها تعرضت للخديعة، وأنها وأسرتها جاءوا إلى هذه المجتمع ليجدوا المشقة في الكيبوتسات وليس الرفاه، وأنها حتى الآن تدفع الثمن إذ مات ابنها في حرب لبنان.. وتتحدث عن أن السلام ممكنا إذا أراد الطرفان.
ولا يجب أن ننسي، هنا، مشهد الإسرائيليين الذين يتظاهرون دفاعا عن الفلسطيننين أو يحتجون عن الحصار ويأتون للأطفال بالألبان، ويتعرضون للضرب والاعتداء من قبل الشرطة الإسرائيلية.

من الفيلم
وفى إطار هذا الطرح، نرى تحيزا في المساحة المكرسة للطرفين العربي واليهودي، فالغلبة لليهود من تنويعات مختلفة وخلفيات ثقافية واجتماعية متباينة، فيما العرب غالبيتهم من الفقراء الجهلاء أو ربات البيوت الذين يسلمون بالأمر الواقع، ويعتبرون، أنفسهم، إسرائيليين حتى الجيل الجديد الذي يمثله أطفال المدارس، بل نراهم يحكون عن حسن الجوار والعيش المشترك مع اليهود في الماضي وكأن العنصرية مسألة وقتية أو عابرة.
وتبدو جملة quot; نحن لا نحكى عن السياسة.. مالنا والسياسة quot; التي ترددت تقريبا على لسان كل المتحدثين اليهود، الجملة المفتاحية التي تفسر ما نرمي إليه، وهو أن ثمة رغبة من صناع الفيلم إلي تحميل الكارثة التي لحقت بالفلسطينيين والمأساة التي تطاردهم حتى الآن إلي الساسة والي العسكر، فيما بقية اليهود الذين شاركوا في المخطط الاستعماري واستولوا على الأرض وطردوا أصحابها الأصليين، أبرياء أو جرى خداعهم، وان أقصى ما يمكن أن يفعلوا حتى لو كانوا متطرفين هو الندم والإحساس بالذنب أو الشفقة من منظور أنهم بشر ولهم مشاعر، وان علينا أن نطوى صفحة الماضي ونبدأ من جديد في عيش مشترك بين اليهود والعرب، بشرط أن يكف العرب عن محاولة استرداد الأرض بالقوة، لان في هذا تدميرهم، كما أن عليهم أن يقبلوا بالتعويضات ولا يطالبوا بحق العودة وان أرادوا فليعودا إلى غزة أو يذهبوا إلي البلاد العربية المترامية الأطراف.
انه فيلم الخطاب المراوغ الذي يدس السم في العسل، ذلك الخطاب المتماهي، مع طرح المؤرخين الجدد في إسرائيل و quot; جماعات السلام الآن quot;، الذي يبدو براقا، لكن وراء البريق خداعا، وقفزا على الحقوق التاريخية، وجرائم لا تسقط بالتقادم بحق الشعب الفلسطيني بشكل خاص، والشعب العربي بشكل عام.
إن الرسالة الخطر هو تفتيت الحقيقة من خلال روايات متعددة ومضللة.. تفتت، في المحصلة النهائية، الموقف الواحد تجاه يهود إسرائيل أو بالأحرى الكيان الصهيوني، سعيا وراء القبول بوجودهم ووجوده، والسقوط في شرك التطبيع المجاني الذي يجسده تلاقي خليفي وسيفان ذاتهما، واعتبار المشكلة مرتبطة بالنخبة الصهيونية وبالعنصرية أو التطرف القابل للتعديل، وهو ما يجب الانتباه إليه حال التعرض إلي مثل هذه الأعمال الفنية المبهرة شكلا، والخبيثة مضمونا.

[email protected]