quot; العطرquot; فيلم القوالب المتعددة والمعنى الاعمق

محمود عبد الرحيم من القاهرة:العطر او perfum فيلم يصعب تصنيفه بسهولة، فليس سهلا القول بانه من نوعية افلام العنف فقط او الاثارة فقط او حتي الفتنازيا، فهو يجمع بين هذه القوالب جميعها، دون احساس بالتنافر او التزيد، ربما لانه ينهض على عمل روائي مساحته الابداعية متسعة، ما اتاح المجال لصناعه، في ظل توافر ميزانية ضخمة، لاخراجه بهذه الصورة الرائعة.
يكفي ان تنظر الي تتر النهاية لترى العدد الكبير من المشاركين في الفيلم من فنانين وفنيين، علاوة على مشاركة اثنين للمخرج توم تايكور في كتابة السيناريو، لتدرك حجم الجهد المبذول لانتاج هذا الفيلم الاوروبي الذي لايقل اهمية عن افلام هوليود الضخمة.
واذا كان من الصعب تصنيف مثل هذا الفيلم، فان تلقيه ايضا صعبا ويحتاج الي نفس طويل حتي تستوعب ما يرمي اليه، وحينها ستشعر بمتعة مشاهدة لا حد لها وستنتظر بترقب شديد الاحداث المتتالية وصولا الي النهاية التي صيغت ببراعة.
قد يبدو العنوان في الفيلم مراوغا في البداية، وتجد صعوبة في ادراك مغزاه، خاصة وان المخرج يصدمنا بمشاهد ثقيلة مثيرة للغثيان في بداية الفيلم من قبيل ولادة ام لطفلها وسط القذروات ومشهد الدماء والزواحف في سوق السمك، لكن مع تتبع الاحداث وعدم التعجل في الحكم على الفيلم من مشاهده الاولي، ستدرك ان تيمة الفيلم الرئيسة تتمحور حول العطر وصناعته، لكن وفق اسطورة قديمة تجعله سببا في مآسي بلدة صغيرة من جهة، ومن جهة اخري في تغيير مصير حياة شاب وصولا الي امتلاك قوة خارقة وتحريره من الموت في اخر لحظة، بل وتحقيق حلم الفردوس على الارض ونشر الحب بين جميع البشر ولو للحظات.

من فيلم العطر

والعطر يبدو هنا متجاوزا لمعناه المباشر كمادة كيمائية، الي كونه رمزا لادراك ماهية الذات ونزوعها نحو المعرفة والتأثير على الاخرين، ربما معادلا ايضا، في هذا السياق، للخلاص من المصير المحتوم وتعويض الحرمان ونيل الحب المفقود.
وقد اختار المخرج ان يبدأ فيلمه بالمشهد ربما قبل الاخير، مشهد محاكمة البطل quot;جان باتيستquot; على جرائم القتل المتعددة، كوسيلة للتشويق، ثم عاد لاسلوب السرد التقليدي الخطي، بعرض حكاية هذا القاتل منذ مولوده حتي وفاته، متوقفا عند التفاصيل الدقيقة للشخصية، وما مر به من ظروف قاسية ومعاناة تجعلنا بعد ذلك نفهم سر لجوئه الي العنف والقتل، بل ونتعاطف معه.
فالبطل مولود من سفاح حيث نري الام تلده في السوق وتتخلص منه بعد ولادته مباشرة، ما عرضها للقتل، ثم يتم وضعه في ملجأ للقطاء حيث يسعي رفاقه الكبار الي قتله على سبيل اللعب.
وعندما يكبر قليلا ويصل الي ما يقرب من العاشرة تبيعه سيدة الملجأ العجوز كما لو كان عبدا لاحدهم الذي يستعبده هو الاخر في مصنع لدبغ الجلود، ويقضي، وسط الروائح النتنة والقهر والاستغلال بل والتعذيب البدني احيانا، سني مراهقته.
حتي يحدث التحول الكبير في حياته، برؤية فتاة حسناء يولع بها ويحركه عطرها.
وفي جو من الغموض والاثارة والفنتازيا ايضا، قدم لنا المخرج البطل فاقدا للكلام وغير قادر على التواصل مع العالم من حوله، الا من خلال حاسة الشم، كما لو كان كلبا.
وحين يري الفتاة بائعة المشمش يلاحقها متتبعا رائحتها العطرية حتي يصل الي بيتها
وهناك لا يجد وسيلة للتواصل معها ويصيبه الهلع بسماعه وقع اقدام، فيكتم نفس الفتاة حتي لا تصرخ، ودون قصد يخنقها، ولانه لازال غير مدرك لماهية الحياة والموت
يجردها، وهي ميتة، من ملابسها ويشرع في ممارسة الحب معها، لكن على طريقته الخاصة، عن طريق حاسة الشم والملامسة.
وبممارسته الحب واحتفاظه برائحتها الجميلة يحدث التحول في حياته، فنراه ينطق لاول مرة، ويميز بين الروائح بطريقة مذهلة بعد ان كانت تتساوي لديه النتنة مع الفواحة، ونراه يسعي لتغيير عمله من دبغ الجلود الي صناعة العطور.
فيذهب الي احد كبار صناع العطور الايطاليين، الذي يري فيه مهارة فائقة قابلة للتطور، وهناك يتعلم سر المهنة لكن في احد المرات وخلال حديث عابر يحدثه
سيده الجديد عن اسطورة فرعونية قديمة تحكي عن ان صناعة عطر من ثلاثة عشر عذراء حسناء يجعل المرء يمتلك قوة خارقة تجعله يسيطر على العالم ويصل الي الفردوس. وان كان لم يوضح له كيف، الا ان الفكرة سيطرت عليه لدرجة الهوس.
ولم يعد يشغله سوى هذا الامر، خاصة ان صورة الفتاة التي عشقها ورائحتها التي غيرت مجرى حياته، ظلت تطارده في صحوه ومنامه وبدت كمحفز على صنع العطر السحري، ولو كان المقابل ارتكاب ابشع جريمة وهي القتل لكل حسناء.
وقد سعي المخرج الي توريط المشاهد معه في الاحداث او بالاحرى جعله اقرب للراوي العليم، لدمجه داخل سياق الفيلم من خلال معرفته بما يفعل البطل، بينما الامر يبدو سرا غامضا لمن حول البطل الذين لا يعرفون اين تذهب الفتيات الحسناوات وهل يقتلن ام ماذا وما الدافع ؟ خاصة ان الجرائم لم يسلم منها احد، لا في الشوارع، ولا داخل البيوت او الكنيسة ذاتها، كما انها ليست بغرض جنسي مثلا، وذلك على عكس النهج الغامض الذي بدأ به الفيلم وادخل الجمهور في حالة من الحيرة والترقب المقصودين على ما اظن.
وقبل ان يكمل عطره السحري، يفر الثري الكبير بابنته جميلة الجميلات خارج البلدة، فيلحق بهم مستغلا حاسة الشم التي لديه حتي يصل اليها خلف الابواب الموصدة فيقتلها، حتي يتمكن من سحره، لكنه بعد ان ينجح يتم القاء القبض عليه وتعذيبه قبيل محاكمته.
وفي مشهد عبقري من حيث الدلالة وباسلوب ساخر فانتازي اراد به المخرج علي ما يبدو ان يفضح عن عمد رجال الدين والسلطة من ناحية، ويحذر من قابلية الجماهير كذلك للاستهواء والتحريك شمالا ويمينا وفق ارادة القوة، دون وعي وكأنها قطيع بلا عقل، نري الجماهير مستنفرة و قد احتشدت في ساحة كبيرة تطالب باقصى العقاب للقاتل دون ان تستمع لدفاعه، وبعد برهة وقبل ان يصعد المتهم الي المقصلة ينثر العطر علي الحراس الذين يخرون له سجدا، ثم ينثره مرة اخري على الجماهير فنراها تهلل ببراءته، وتتحول من النقيض للنقيض.
ولم يبق سوي رجال الدين الذين يتحولون هم الاخرين، كما الجماهير، بل ان الكاردينال يعتبر القاتل ملاكا من السماء، وحتى الاب المكلوم بعد ان كان يتعجب من هذا التحول في المواقف نجده يصعد للمقصلة ويقترب من القاتل ويطالبه بالصفح.
ولمزيد من الاثارة والفنتازيا، يتجرد الجميع من ملابسهم بما فيهم رجال الدين والقضاة ويبدأوا في ممارسة الحب.. رجالا مع نساء، ونساءا مع نساء ورجالا مع رجال وكأن غريزة الانتقام والشر قد حل محلهما الحب والسلام، وكأن النبوءة قد تحققت وكأن العطر اوصله للفردوس.
لكن بعد زوال تأثير العطر يصدمون بمشهد العري فيخجلون من انفسهم ويقررون كتمان الامر ومحوه من الذاكرة بالنفاق والتدليس، فيبحثون عن كبش فداء ليلقوا بالتهمة عليه ويعدموه، بدلا من القاتل المسحور لينتهي التحقيق وتغلق القضية بصرف النظر عن الحقيقة والعدل.
ويستدعي البطل، من جديد، صورة اول من احب واول من قتل، لكنه يفيق على احساس الفقد والالم ويكتشف انه احب لكن لم يبادله احد الحب طوال حياته الممتدة، وان السحر الذي بيده لم يحقق له الاشباع الذي تمناه ولم يعوضه عن فقدان الحنان والرعاية، فيعود الي موطنه الاول ليقضي نحبه بشكل اسطوري شبيه بالطريقة التي قضت بها حبيبته اي عبر قوة العطر، اذ ينثر ما تبق من العطر فوق رأسه، فيثير نساء الحي جميعهن الذين لايتركونه وينلن منه لدرجة لم يبق منه شيئا الا بقايا ملابسه وزجاجة العطر الفارغة التي يثبت المخرج عليها الكاميرا ليؤكد على معنى عميق وهو ان القوة مهما بلغت ذروتها الي زوال وان لكل شئ نهاية.
انه فيلم يحسب لمخرجه توم تايكور tom tykwerويجعله في مصاف الكبار المبدعين الذين يتصدون للصعب.. فمن يقدر على التعاطي مع حاسة الشم وتجسيدها على الشاشة ان لم يكن مخرجا غير عادي، كما يحسب لبطله الممثل بن ويشاو ben whishaw الذي جسد مشاهد صعبة بمقدرة فائقة جعلته يجعل غير المحسوس يبدو محسوسا.

من المواد الاضافية بنسخة الدي في دي الفاخرة
bull;تحقيق بطول 53 دقيقة عن مراحل صناعة فيلم العطر
bull;تحقيق عن كيفية ايجاد اماكن التصوير