ايلاف من القاهرة: صدرت رواية quot;مواقيت الصمتquot; للروائي خليل الجيزاوي عن الدار العربية للعلوم للنشر/ بيروت، بالاشتراك مع مكتبة مدبولى للتوزيع بالقاهرة، وهي الرواية الرابعة من مشروعه الإبداعي، بعد رواية يوميات مدرس البنات 2000، ورواية أحلام العايشة 2002، ورواية الألاضيش 2003، ومجموعتين قصصيتين نشيد الخلاص 2001، أولاد الأفاعي 2004، وتأتى رواية مواقيت الصمت؛ لتشكل محطة جديدة مختلفة، ونقلة مهمة في رحلته مع كتابة الرواية، يتساءل الجيزاوى في الرواية: ماذا يحدث حين تلسع الحبيب أضواء الشهرة ويصعد درجات المجد، بعد النجاح الكبير الذي حققه في شركة مقاولات الهدم والبناء التي سعت بطلة الرواية لتعيينه فيها؟ هل يتنكر لها بعد قصة الحب الساخنة والتي أعطته ذات ليلة كل شيء؟ ولما خذلها سافرت إلى باريس لتكملة دراستها العليا، وحين عادت من باريس بعد عشر سنوات؛ لإجراء بحث يرصد ظاهرة أطفال الشوارع بالقاهرة، من خلال منحة دراسية لمدة شهر، وجدت أن الدنيا كلها تغيرت، الناس في الشارع التي سكنت وعاشت بينهم خمسة وعشرين عاماً، لم يعرفوها، بل أنكروها، فقررت مواجهة الجميع، حينئذ يتشابك مصيرها مع أحوال الأمكنة التي تقيم فيها أو تتجول دروبها، نجدها قد تحولت إلى هائمة على كورنيش النيل، بائسة، محرومة، وحيدة، تلك هي حال هند الشخصية الرئيسة في فضاء الرواية التي تنثال على فصول الرواية من خلال رسائل من طرف واحد، من هند أو هبة إلى سعيد أو سيد.
هبة الشخصية الغامضة تطارد هند حيناً، وتتلبسها حيناً آخر، من خلال أسطورة قديمة وحكايات شعبية نسجت حولها، ومن هنا يبدأ التأويل؛ لمحاولة فهم فصول الأسطورة التي تتداخل مع فصول حياتها، ونجد مساحة للبوح كبيرة بين أب زاهد في الدنيا، شبه مقيم بجوار ضريح أم هاشم، وأم متسلطة ديكتاتورية، تمارس القهر على الزوج والابنة معاً، وتحاول هند الإفلات من رقابتها، في محاولة مستميتة للبحث عن حريتها، هذه الأم نجدها دائما تحتل خلفية المشهد حيث تعيش وحيدة في فيلتها بمصر الجديدة بعد سفر ابنها؛ ولأنها شخصية مادية انتهازية، يحدث التصادم بينها وبين الزوج الذي زهد في زخرف الدنيا، ونجد أن هند تختار العيش مع أبيها في شقة السيدة زينب، بينما الابن ينتقل للإقامة معها قبل أن يقرر السفر إلى لندن لاستكمال دراسة الطب، وتتقاطع حياة شخوص الرواية ويتداخل مصيرها ومصير الأماكن التي يعيشون بها، وهكذا تتحقق نبوءة الأسطورة، فتموت الأم في ظروف غامضة، ويلحقها الأب بعد عدة سنوات وبنفس الظروف الغامضة أيضاً، وهكذا تعيش هند حياة بائسة، شريدة، تطاردها روح أختها التوأم هبة التي ماتت صغيرة، وهكذا نشاهد فصول الأسطورة وهو تدور بين رحى الموت والحياة؛ لتنسج خيوطها العنكبوتية من جديد حول هند، تطاردها الأشباح، فتعيش دائما على حافة الجنون، وتفشل محاولاتها المتكررة في الانتحار.
وقد قدم الناقد الكبير د. عبد المنعم تليمة أستاذ الأدب العربي والنقد الحديث بكلية الآداب جامعة القاهرة الرواية في كلمته للغلاف الأخير قائلا: يصوغ هذا العمل الروائي quot;مواقيت الصمتquot; للكاتب خليل الجيزاوى اللحظة التاريخية الراهنة في المجتمع المصري، ويجعل هذا الراهن الماثل مركزاً يستدعي الماضي القريب الذي مهّد له وأنتجه، ويستشرف آفاق مستقبل يتجه إليه، ولهذا كله قاعدة من العوامل الاجتماعية الفعّالة والقوية والتناقضات والصراعات المُوارة؛ ولهذا الراهن من الرؤى والخطط والأداءات والسياسات ما ينتج المناسبات والملابسات والظروف والأسباب التي تُؤدي إلي تعطيل حركة الجماعة وتوسيع الهوة بين الفئات وإلي صور غريبة من الإحباطات والتي تؤدي في نفس الوقت إلي تفجير الأشواق نحو الوئام والعدل والدفع إلي أمام. ويستفيد الكاتب في صياغته لعمله الروائي هذا من جماليات اصطنعتها الأعمال الروائية العربية الراسخة التي وعي الكاتب ما استقر من أساليبها ومناهجها البنائية، وسيجد القارئ الراصد ـ في هذا العمل ـ أصداء قوية من إبداع التشكيل الزماني والمكاني، ومن تأسيس الشخصية بالحوار وتقنية السيرة، ومن طرائق الموروثات والمرويات الشعبية في القص والسرد والحكي.
في الرواية يحاول خليل الجيزاوى الاشتباك مع قضايا الواقع المعاصر، فيكشف بوعي عن آليات استلاب الوعي وانتشار صور الفساد والجهل والتزييف في حياتنا الإنسانية، ومن ثم يعلن تمرده علي أشكال التسلط والقهر، وفي المقابل تطرح الرواية رؤية مستنيرة كي نعيد تشكيل وبناء ذواتنا بناءً حراً، يؤمن بالحوار؛ لنثرى تجربتنا مع الحياة، وأنه بالإمكان أن نتحاور ويتجاور الرأي والرأي الآخر مثل مجاورة قضبان السكك الحديدية، ولا يحدث أي صدام وهنا تكمن أهمية الاختلاف. تثير رواية مواقيت الصمت الكثير من الأسئلة بداية من سؤال الهوية ووصولا إلى السؤال الشائك الذي يتردد همساً علي ألسنة أبطال الرواية: هل نحن أحرار حقاً؟ وهل يمكننا البوح بحرية مطلقة؟ هذا السؤال المراوغ يطرحه الروائي خليل الجيزاوى من خلال عدة تقنيات ومفردات الكتابة، أجاد الكاتب الإمساك بها وبحرفية شديدة من خلال هذا التكثيف الشديد، وبلغة شاعرية ومواجهات حوارية تبوح بمكنونات النفس من خلال المولونوج الداخلي الذي يعطى مساحة للبوح، هذا البوح الذي يمنح شخوص الرواية وجوداً حياً وحاضراً من خلال المشهد البصري الماثل عند قراءة تفاصيل المشهد الروائي، فيعطى مساحة للقارئ أن يتخيل المشاهد المروية وكأنها ماثلة أمامه وشاخصة وتتحرك مثل لقطات سينمائية، وهذه الطريقة تنتمي للمدرسة البصرية في الحكي، تحقق للقارئ مزيداُ من التواصل الحميم مع الكاتب والرواية. ومن هنا نلمس معاناة أم شحته، وصراع الأدب المتأرجح بين الداخلي والخارجي، الأم العنيدة والمتسلطة حد العجرفة، شحته وصراعه مع الكبار، هيمه صبى المقهى وأحلامه الكبيرة، هند وصراعها مع توأمها هبه طوال فصول الرواية، جنينه زعيم أطفال الشوارع وحاميهم وانكساراته المتتالية، مهندس سعيد الفاتح صاحب أكبر شركات لمقاولات الهدم والبناء وحلمه وهو يرشح نفسه في انتخابات مجلس الشعب أن يصبح وزيراً في تشكيلة الوزارة الجديدة التي تعقب الانتخابات مباشرة، أو النماذج المختارة من أطفال الشوارع وهم يحكون بألسنتهم قصصهم الدامية والموجعة، ومنهم نتعرف كيف يهرب هؤلاء الأطفال، وكيف يعيشون وينامون في الشوارع، بل كيف يواجهون برد الشتاء ومطاردات الشرطة الدائمة لهم؟
رواية مواقيت الصمت تعيد طرح الأسطورة الشعبية التي تعانق الحكايات الشعبية، هذا المزج الساحر بين الواقع المعيش والأسطورة الخيالية باعتباره جدلا قائماً بين الواقعي والخيالي المشحون بالكثير من الأسرار الغامضة والأحداث غير المنطقية، التي لا يمكن فهمها إلا من خلال فهمنا للأسطورة أو الحكايات الشعبية التي تروي (حكاية التوأمين) وهما يتنازعان ويتعاركان علي الحياة في لوحات حياتية مشحونة بالتوتر، وربما بدافع خفي للتحرر من ممارسات القهر التي مُورست ضدهما، أو تربيا عليها من خلال آليات القمع المختلفة التي تشكلت من خلال الصراع الدرامي بين هند وتوأمها هبة.
استفاد الكاتب من توظيف الأسطورة التي تتردد في الحكايات الشعبية عبر حواديت الجدة سواء في الريف المصري أو الحارة الشعبية، تلك العوالم السحرية الغامضة التى تثير شهية القارئ، بل تجعله متلهفاً بمتابعة أحداث الروية المليئة بالأحداث الشيقة والممتعة معاً.

تتكئ رواية مواقيت الصمت فى الكثير من أحداثها إلى أبعاد أسطورية تشتبك مع أحلام أبطال الرواية وسط حي السيدة زينب، وهي تمثل أحلام الطبقة المتوسطة مقابل أحلامهم بالثراء والانتقال للحي الراقي حي جاردن سيتى المقابل لهم مباشرة، مثلما فعل عضو مجلس الشعب السابق، أو مثلما فعلت أم هند بطلة الرواية التي تمردت على الحياة في السيدة زينب/ الحي الشعبي، وأقامت في فيلا بمصر الجديدة، أو من خلال الأحلام المبتورة للطبقة المتوسطة في شارع الناصرية، هؤلاء الذين يشكلون ملح الأرض، هذه الشخصيات التي تتغلغل في بنية الواقع المعيش ومكوناته الفكرية، وهو ما يؤكد أن الرواية رواية مكان، حيث ترصد الرواية علاقة شخوصها بالمكان رصداً أنثربولوجياً لحياة الجماعة البشرية فى الحارة الشعبية في تناغم بديع، يصعب معه أن تحدد بدقة الحدود الفاصلة بين الواقعي والمتخيل؛ لأن الواقعي يبدو أحياناً أغرب من المتخيل، حيث نرى الغرائبى يتوازى مع الحياتي، والعجائبى يتعانق مع الواقع المعيش، فواقع شخوص الرواية مع الأحداث المتشابكة يصبح سرداً مؤطراً يتجاوز ما هو تخيلي وعجائبي وغرائبي؛ ليندرج إلى ما يسمى بالواقعية السحرية؛ لأنك لا تستطيع فهم طبيعة الإنسان إلا من خلال فهمنا للموروث الشعبي الذي تشكل عبر السنوات الباكرة من خلال وعينا بالحكايات الشعبية، والمتخيل الروائي يستمد كثيراً من عناصره التخيلية من إشكالية الواقع وأحلام شخوصه التي تحاول تجاوز هذا الواقع، فتحلم الذات الإنسانية بالتحليق في تلك العوالم السحرية الأخاذة المليئة بالدهشة والغرائبية، وهكذا نجح المتخيل الروائي أن يتجاوز هذا الواقع المحبط والمؤلم؛ ليعيش معظم أبطال رواية مواقيت الصمت تلك العوالم السحرية.
رواية مواقيت الصمت رواية تعيد قراءة الواقع في ظل المتغيرات اللاهثة في المجتمع الجديد من خلال صور الفضائيات والانترنت التي تصيب الكثير من أفراد الحي الشعبي بالحسرة والضياع، فبطلة الرواية تعانى من القهر الاجتماعي الذي فرض عليها مبكراً، حيث تعاقبت على حياتها الكثير من صور القهر، حيث مارست عليها الأم كل وسائل القهر والتعذيب باعتبارها نذير شؤم وأن الخراب آت على البيت لا محالة، كما يقول الحكاية الشعبية/ الأسطورة التي تصدرت بدايات فصول الرواية السبعة كنص موازى للنص الروائي، وقد عانت بطلة الرواية كثيراً من ضرب الأم لها، حتى اعتقدت أنها ليست أمها، بل زوجة أبيها، وهكذا فرّت بنفسها عند أمها الثانية أم شحتة التي أرضعتها طفلة. كذلك عانت بطلة الرواية من سيطرة قوى خفية وغامضة طوال حياتها، لم تعرف طبيعة هذه القوى الخفية إلا في آخر صفحات الرواية، عندما اعترفت روح أختها التوأم التي ماتت صغيرة بأنها احتلت جسدها قسراً، بل تلبست روحها وحاولت بشتى الوسائل أن تعزلها عن المجتمع، حتى تتقوقع وتتشرنق حول نفسها، كل ذلك حتى تظل خاضعة مقهورة وتطيعها وتتصرف وتأتمر بأوامرها، وخارج البيت نراها تعانى من قمع المجتمع الذكورى الذي نجح في نسج خيوطه العنكبوتية حولها، ويوم أن نجح في الاقتراب منها بعد انتقال أمها العيش في فيلتها الجديدة بمصر الجديدة، وفض بكارتها بعلاقة حميمة، نراها لم تقاومه، لكنه بدلا من أن يقترب منها أكثر، نراه يدفعها للانتحار أكثر من مرة، بعد أن دخلت روحها منطقة الأرض الخراب وأصيبت بنوبات متكررة للاكتئاب، حين ابتعد ونأى عنها بعقيلة القمع الذكورى للمرأة، وأنها وحدها يجب أن تتحمل خطأ الحب، وهكذا تفضح الرواية وتعري سلطة المجتمع الذكورى، تلك السلطة الكاذبة والعفنة التي تربت على قمع الرغبات وتشويه وتزييف المشاعر والأحاسيس، فأنبتت عقول مريضة ومنحرفة، تتشدق بالتقوى والورع في النهار، وحين يهطل الليل وتنطلق الرغبات تعربد، تقتنص، تمتطى صهوة بنات الليل. ولقد نجحت بطلة الرواية أن تخرج من أسر هذه الدائرة المغلقة وتفر بروحها المريضة من قمع هذه المؤسسات، بالسفر إلى باريس مدينة النور، لتشفى روحها من أمراض المجتمع وتستطيع استكمال دراستها العليا لدرجتيّ الماجستير والدكتوراه، حيث اختارت علاقة الأدب بالمجتمع كتخصص دقيق، وعادت لاستكمال الجزء التطبيقي على أطفال الشوارع في القاهرة؛ لتطبق عليهم ما توصلت إليه من نتائج بحثية، كي تساعد هؤلاء الأطفال، وتقدم لهم طوق نجاة أو ترشدهم إلى طريق الخلاص من التشرد والضياع.
تأتي الرواية وتتواتر فصولها السبعة كحلقات درامية مكثفة ودالة، وينهض البناء السردي بشكل محكم؛ ليضعنا في عدة مفارقات مهمة ومثيرة، حيث تشتبك أحداث رواية مواقيت الصمت مع رؤى المجتمع المتسلط الذي يتبنى ويفرض آليات القهر والاستبداد كطريقة وحيدة للعيش في الحياة، بديلا عن التحاور بين أفراد وأبناء هذا المجتمع الصغير، فيورث أبناء المجتمع آليات الاستلاب والقمع والغياب القسري، ومن هنا اندفعت بطلة الرواية إلى الخروج من هذه الشرنقة التي وضعت داخلها قسراً، خلال يقين تراتبي طوال سنوات حضانة المجتمع الأبوي الأولي، وهكذا اندفعت برغبة حقيقية أن تثور ضد المجتمع البطريكى المتسلط، ونجحت أن تُكسر هذا الطوق الحديدي؛ لتنال حريتها، ولم يتبق للآخرين من المحيطين بها سوي الشعور بالعجز والضياع واجترار مرارة الانكسار على الرغم من هالة النجاح الإعلامية المزيفة التي يوهم نفسه بها، بل يعتبرها دليلا على آلية النجاح.