عبد الرحمن حللي

يمثل كتابquot;Mystical Dimensions of Islamquot; للمستشرقة الألمانية quot;أنيماري شميلquot; (ت:2003)، والذي صدرت مؤخراً ترجمته العربية بحلب بعنوان quot;أبعاد صوفية للإسلامquot; دراسة موسعة وموثقة عن تاريخ التصوف في الإسلام من حيث جذوره ورجاله وتياراته، وتعتمد فيه على كتب التصوف المرجعية القديمة والحديثة وبمختلف اللغات التي كتبت بها وخصوصاً الفارسية، وقد رحلت المؤلفة إلى مختلف البلاد لاسيما تركيا وباكستان والهند لتضمن ثقافة مسلميها في الكتاب.
من البداية تبدو المؤلفة مدركة للصعوبات التي تعتري عملها إذ quot;إن مجموع ما كتب عن التصوف في الشرق الغرب مطبوعاً ومخطوطاً عصي على الحصرquot;، لكنها حرصت أن تجمع ما يمكن أن بشكل أساساً لعدد من المقررات الدراسية في موضوع التصوف، هذا التصوف الذي يعكس في نظرها المواقف المختلفة للمسلمين إزاء quot;العالمquot;، نظراً لجذور التصوف العميقة في الممارسات العبادية التي علمها القرآن.
بعد البحث في سؤال ما هو التصوف؟ تحفر المؤلفة في الإطار التاريخي للتصوف التقليدي بحثاً عن جذوره في الإسلام والتي ترجع إلى نبي الإسلام والقرآن، ثم تسبر أسس الطريقة الصوفية إحدى ثلاثية التصوف الإسلامي (الشريعة-الطريقة- الحقيقة) والتي تقابل الثلاثية المسيحية (التطهر- التأمل- الإشراق)، فتبحث في مراتبها وأولوياتها ومقاماتها وتحولاتها عبر التاريخ الإسلامي واختلافها، وفي بحثها حول الإنسان وكماله في التصوف تلاحظ أنه quot;من غير المتيسر على جهة الحقيقة تقديم وصف لعلم الإنسان الصوفي في الإسلام لأنه متعدد الجوانب مثل الإسلام نفسه، والاختلافات بين التيارات الصوفية المبكرة والمتأخرة مهمةquot;، وتتابع شميل البحث في الطرق والأخويات الصوفية، والتي وصفتها بكونها قابلة للتكييف والتعديل مما جعلها وسيلة مثالية لنشر تعاليم الإسلام كما في الأجزاء الواسعة من الهند وأندونيسيا وإفريقيا السوداء التي صارت مسلمة بفضل النشاط الذي لا يفتر لوعاظ الصوفية الذين جلَّوا في حيواتهم الفروض الأساسية للإسلام: المحبة البسيطة لله والتوكل عليه ومحبة النبي والآخرين من أصحابهم، من دون الانغماس في المماحكات المنطقية والفقهية.
بعد التصوف الطرقي تبحث شميل في التصوف الإشراقي الذي بدأت جذوره مع تصوف النور الذي أوضحه بجلاء الغزالي ndash; رائد التصوف الشرعي المعتدل- في quot;مشكاة الأنوارquot;، لينتشر ذلك في النظريات الصوفية للسهروردي شيخ الإشراق الذي نشر التعاليم المتصلة بفلسفة النور فيما يقرب من خمسين كتاباً عربياً وفارسياً، وهي تظهر تأثيرات وانتقادات للفلسفة المشائية ولابن سينا ودمجاً مدهشاً نسبياً وعجيباً في الوقت نفسه لعناصر إيرانية وهلينية وشرقية قديمة، وذروة مؤلفاته quot;حكمة الإشراقquot; و quot;هياكل النورquot;، ثم تلخص أهم آرائه، ولئن بقي معظم تراث السهروردي حكراً على العالم الفارسي فإن ابن عربي الذي تشكل مؤلفاته قمة النظريات الصوفية بعد القرن الثالث عشر الميلادي، لا يمكن تقدير تأثيره في التصوف العام، كما أن تفسيراً صحيحاً لفكر ابن عربي أمر صعب، والنظام الكامل لابن عربي يحدد عموماً بتعبير quot;وحدة الوجودquot;، والترجمة الصحيحة لهذا التعبير تقدم المفتاح لمعظم نظرياته الأُخر، ولئن كان ممكناً فهم ابن عربي بشكل أعمق من قبل، فإن المناقشة حول دوره ndash;أكان إيجابياً أم سلبياً- لن تنتهي، أما معاصر ابن عربي الشاعر الصوفي ابن الفارض فقد اختزل تجاربه الصوفية بعدد قليل من القصائد الغنائية ذات الجمال الرائع في أسلوب الشعر العربي، وكثيراً ما فهم شعره بوصفه شاهداً على تفسير الإسلام وفق وحدة الوجود، حيث تطور تصوف الوحدة وانتشرت فِكَر ابن عربي سريعاً في كل أرجاء عالم الإسلام واكتسبت أنصاراً لا يحصون عدَّاً خاصة في المناطق المتحدثة بالفارسية والتركية، وتُرجع شميل النشاط الصوفي هذا إلى التغيرات السياسية في القرن الثالث عشر الميلادي، ويرجع فضل انتشار فكر ابن عربي على نطاق واسع إلى كتابين quot;روضة السرquot; للشبستري ت 1311م (بالفارسية) وquot;الإنسان الكامل quot; للجيلي ت 1408م (بالعربية)، لكنها ترى أن على المرء ألا يستخلص نتائج بعيدة المدى من استخدام وحدة الوجود في الشعر حيث استخدمت لدى الشعراء الأكثر التزاماً بمبادئ الشرع، ولا غنى عن أن يميز الإنسان بعناية بين اللغة الشعرية والأنظمة الخارجة عن نطاق المادة.
في حديثها عن الشعر الصوفي الفارسي والتركي ترى أنه من غير المفيد البحث عن تفسير صوفي صرف أو عن تفسير دنيوي خالص لقصائد حافظ أو جامي أو العراقي، ذلك أن غموضها مقصود والتذبذب بين مستويي الوجود يحافظ عليه على نحو مقصود وربما يضاف إليهما مستوى ثالث، كما لا يمكن أن يستمد نظام صوفي من الشعر الفارسي أو التركي أو يُرى فيه تعبيراً عن تجارب تقيم تقييماً سطحياً، ثم تعرض لموضوعات هذا الشعر ورموزه فضلاً عن شعرائه وبالخصوص جلال الدين الرومي الذي لا يوجد شخصية صوفية معروفة في الغرب مثله.
أما في الهند وباكستان فيرجع التأثير الكامل للتصوف فيها إلى أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر الميلاديين، إثر اندماج الطرق الصوفية الرئيسة في أقاليم الإسلام المركزية، والممثل الأكثر بروزاً لهذه الحركة معين الدين الجشتي ت 1236م ومن خلفه من بعده، ولا تستبعد شميل وجود تأثيرات متبادلة بين التصوف الإسلامي والتصوف الهندوسي، وكذلك تطور مجاهدات الأولياء الهنود المسلمين تحت تأثير رياضات اليوغا، على أن بعض المؤلفات النظرية حول الممارسات اليوغية ألفها علماء هنود مسلمون.
وتختم شميل كتابها بالجدل الدائر حول مسارات التصوف والطرق الصوفية والثيوصوفية والشيخية الخطيرة، وترى أن تصوف المحبة والمعاناة الذي يعلم الإنسان أن يحيا وأن يموت في سبيل هدف خارج نفسه هو الرسالة الأكثر أهمية للتصوف اليوم، وتنهي بكلام لابن عطاء quot;إذا رأيتم الصوفي يتكلم عن الناس فاعلموا أنه فارغquot;.
وألحقت الكتاب ببحثين طريفين الأول quot;رمزية الحرف في الأدب الصوفيquot; الذي ترى فيه أن دراسة متأنية للصلات بين فن الخط والفكر الصوفي ستثمر يقيناً نتائج ممتعة وتسهم في فهم أفضل لبعض الفِكَر الصوفية وللفن الإسلامي أيضاً، أما البحث الثاني quot;العنصر الأنثوي في التصوفquot; فترى فيه أن موقف التصوف من الجنس اللطيف كان متأرجحاً حتى إنه يمكن أن يقال إن التصوف كان أكثر تأييداً لتطور النشاطات الأنثوية مما كانت عليه أفرع الإسلام الأُخر.
هذه المطالعة في الأبعاد الصوفية للإسلام تجعل القارئ يقف باحترام لهذا الجهد البحثي في جمع شتات التصوف من مختلف مراحل التاريخ وشتى أصقاع الجغرافيا وعبر لغات متعددة كتب بها أو درس من خلالها، ليصاغ التصوف في الإسلام ضمن نسق علمي يحفظ تنوع اتجاهاته ونظرياته ومستوياته مع وعي عميق بأدواره التاريخية المقبول منها والمرفوض، والأهم من ذلك الذوق الأدبي والحياد العلمي في مقاربة موضوع حساس كالتصوف يعبر من خلاله عن جانب من نظرة المسلمين للعالم، والتقدير أيضاً للمترجم الذي صبر على نقل كتاب بهذا الحجم والعمق إلى العربية بلغة رشيقة تحافظ على الطبيعة الأدبية للموضوع في سياقاتها، وقد اقتدر المترجم على ذلك لما له من اهتمام خاص بالأدب الصوفي لاسيما وقد ترجم بعض أعمال جلال الدين الرومي عن الفارسية، فبصدور الترجمة العربية لهذا الكتاب تسد ثغرة في الدراسات المرجعية الشاملة حول التصوف في المكتبة العربية رغم مرور ثلاثة عقود على تأليف الكتاب.

المصدر: موقع تنوير
http://www.kwtanweer.com/articles/readarticle.php?articleID=1297