أحمد خلف: كتب بمعزل عن الهموم والتداعيات الاجتماعية في المحيط العائلي اوالرقعة الجغرافية
الرواية (سليلة الملحمة) لا يمكنها ان تفعل أي شيء الا الحب والجمال والخير-
القصة القصيرة تمتلك وضعا خاصا في نفسي ولها مكانة متميزة -
عبد الجبار العتابي من بغداد:
احمد خلف.. قاص وروائي عراقي كبير اثبت قدرته في التفوق والابداع، وارتقى في كتاباته مستوى عاليا ومميزا وضعه على السطح المرتفع الذي يقف عليه النخبة من الكتاب، وعلى هذا القدر من التميز الاانه يجلس على قمة اخرى مفعمة بتواضعه وهدوئه، وتلك صفتان قلما اجتمعتا في رأس مبدع، احمد خلف.. صدرت له مؤخرا رواية (محنة فينوس) ويستعد حاليا لطبع رواية اخرى لتنضم الى قافلة مؤلفاته الخمسة عشر، مع احمد خلف اجرينا هذا الحوار الذي عرفنا منه افكاره وارائه.
* سأسألك اولا: اذا طلب منك ان تعرف احمد خلف فكيف تعرفه؟
- لا يمكن تعريف الكاتب بناء على مقترح من زميل يفترض به امتلاكه معرفة مسبقة، غير اننا ndash; دائما- نفترض ان السؤال موجه من قاريء او مهتم او متابع في مجال الثقافة والادب والفن، لذا، يسهل علينا القول ان القاص والروائي احمد خلف هو مجموعة الكتب التي انجزها عبر تجربة حياتية امدها اربعة عقود من الزمن، توجت بالتفرغ للكتابة وهذا كان طموحا ظل يأمله منذ زمن بعيد، ان روايات انتجناها كـ (نداء قديم او الخراب الجميل او موت الاب وحامل الهوى وبوابة بغداد حتى محنة فينوس) ترجمة صادقة عن عذابات وهموم احمد خلف بالضرورة، فمن تيسر له الاطلاع ومعرفة ما تحمله تلك المؤلفات، سوف يختصر الطريق لمعرفة هذا الانسان الذي قدم حياته من اجل المساهمة في كتابة ادب عراقي حديث، ومشاركة زملائه من القصاصين والروائيين العراقيين في تشييد صرح سردي متطور يشمل في كيانه الفني عذابات الانسان العراقي بكل ما تحمله من هموم او تطلعات، لذا.. فقد انجز صاحب السطور اكثر من خمسة عشر مؤلفا عبر اكثر من اربعين عاما من الكفاح والمثابرة وحب الفن.


* روايتك الجديدة (محنة فينوس) يبدو ان الاسطورة فيها واضحة، لماذا (فينوس)، حدثنا عن الرواية واقترابه من الواقع العراقي وما اردت ان تقوله؟
- من الواضح ان الفرصة لم تكن سانحة لديك لكي تطلع على محنة فينوس اطلاع قارئها، اذ لا يصح ان يتحدث الروائي عن روايته مستعيرا ادوات الناقد والباحث والمحلل الادبي، فهذه الرواية في الحقيقة استعارت من الاساطير الاغريقية مجموعة من الثيمات (اشارات ودلائل عبر حبكات قصيرة) استطاع المؤلف ان يبتدع بعضها ضمن افتراض خيالي في انها حدثت لمجموعة من الالهة الاغريقية ndash; ولكن توظيف الاسطورة في هذا العمل الروائي ليس من اجل كتابة رواية اسطورية، بل تم استخدام الاسطورة من اجل الرواية التي تعتمد اسطرة الواقع عبر الزمن بأبعاده الثلاثة تكون فيها حصة الماضي مختزلة بهيمنة الحاضر الذي يرشح مزيدا من الاشارات والعلامات التي تأخذ قاريء الرواية نحو آفاق جديدة غير ما انتجه الماضي او ما يدفع به الحاضر من افرازات، لهذا.. فالرواية (محنة فينوس) بقدر ما هي ذات صبغة ماضوية فهي تستشرف المستقبل وتدين حاضرها بعد فضحها لماضي الايام التي مرت وهي محملة بعذابات (لايحتملها جمل) عاشها الناس هنا في هذه الرقعة الجغرافية المباركة من العالم.


* هذا يدفعني الى سؤال: أي تأثير للروايات العالمية التي تناولت الاسطورة عليك؟
- انه من حسن الحظ ان يتيسر للكاتب مقدرة خاصة تجعله لا يميل الى التأثر بالمبدعين الاخرين، اذا تمكنت من قراءة رواياتي السبع سوف تدرك جوهر ما اقول، أي: ان المؤلفين الذين تأثرت بهم لم يكونوا قادرين على ترك بصماتهم على مؤلفاتي وابداعي، بل ثمة اعجاب هنا برواية او مجموعة قصص هناك، غير ان هذا كله يزول خلال الممارسة الجادة والكتابة الحصيفة للنص القصصي او الروائي..، ان مسألة التأثير والتأثر بحاجة ndash; دائما- الى استقراء خاص مع ان هذا الاستقراء غالبا ما يأتي بصيغة افتراضية غير ملزمة للاخر، وقد اصبحنا من الكتاب المطبوعين المعروفين على مستوى العراق والوطن العربي، يكون من الصعب القول اني تأثرت بطريقة فلان من الكتاب، هناك مؤلفون يكتبون روايات اسطورية، وهناك من يؤلف اساطير تهيمن على النص بحيث تنطبق عليها اشتراطات الاسطورة التي هي نص مغلق غير قابل للهبوط الى الاسفل على اعتبار ان صلتها الاساس بالالهة، بالنسبة لي استفيد من الاسطورة، او يكون التاريخ في النص مجرد مصدر او مرجع يمكن استثماره في خدمة القصة او الرواية التي اكتبها.


* ما المؤثرات العائلية عليك كقاص وروائي؟
- انا اكتب بمعزل عن الهموم والتداعيات الاجتماعية في المحيط العائلي اوالرقعة الجغرافية للمنطقة او الحارة، ان المؤثر الذي يمتلك مقدرة النفاذ الى روحي وعقلي وخيالي هو العراق الذي احبه حد العشق والجنون، انني اعيش في ظلال هذا السيد الكريم كبير القلب اعني العراق سيدي دون منازع الذي يدفعون به الى الهاوية والتمزق، هذا الوطن الجليل وحده الذي يمتلك تأثيرا على ما اكتب.


* في روايتك (نداء قديم) التي ضمتها مجموعتك (صراخ في علبة) وضعت لها هوامش.. لماذا؟
- تلعب الهوامش في النص دور مختلف عن المتن على الاقل، فما يحمله الهامش ليس بالضرورة انه يفسر المتن او يقدم خدمة له، بل ثمة نزوع داخلي يتحرك تجاه الهامش من اجل استجلاء الغموض الذي قد يكتنف النص او لزيادة الدور الذي ينبغي ان يلعبه البطل او مجموعة الابطال في الرواية، الهوامش في (نداء قديم) جاءت لتوضيح الجانب اليومي ndash; الواقعي في حياة شخوص الرواية، والهامش في حقيقته في (نداء قديم) اشبه بالبورتريت الضروري الذي لا مفر من وجوده داخل اللوحة الكبيرة او المشهد البانورامي، لهذا.. يعتبر العديد من الاصدقاء ان الهوامش في نداء قديم وبئر الابار وتيمور الحزين، لازمة عضوية للنص، او فقرة ضرورية لاستكمال الجانب الموضوعي والجمالي في المشهد القصصي.


* تحولت من القصة القصيرة الى الرواية.. لماذا؟ وما الذي اغراك فيها؟
- لايتم التحول بناء على استكمال حالة او شرط ذي خصائص مادية، عندئذ.. يمكن لعملية التحول ان تجري بصيغة طبيعية، وبالنسبة لكتابتيللرواية، فانا لم اتحول من القصة القصيرة الى الرواية، بل كتبت الرواية بوقت مبكر وقد سبق رواية نداء قديم التي نشرت في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين روايتي:(الخراب الجميل) التي كتبتها عام 1978-1979 ونشرت في عام 1980 في كتاب مستقل، ومنذ ذلك التاريخ وانا اكتب القصة والرواية معا، وفي احد اعداد مجلة الاقلام في عام 1986 هنلك فصل من رواية بعنوان (جحيم اخضر) كانت معدة للطبع ولا ادري لماذا لم اتقدم بها الى النشر، ربما لوجود حساسية ذاتية ازاء نشر الرواية بدافع من ردة الفعل التي حصلت لي بعد (الخراب الجميل)، غير ان التدرج الطبيعي للمؤلف راح يعمل ويترك اثره في كتابة رواية جديدة، وكانت رواية (موت الاب) ورواية (حامل الهوى) ثم (محنة فينوس) واخيرا رواية (الحلم العظيم) المعدة للطبع، القصة القصيرة تمتلك وضعا خاصا في نفسي ولها مكانة متميزة، وقبل ايام دفعت الى احدى الصحف قصة قصيرة بعنوان (شمس ساطعة كالفضة).


* قلت ذات مرة (ان من الخطأ الكبير مطالبة المبدعين بالقيام ببطولات على صعيد الواقع) لماذا.. أليس هذا من شؤونهم؟
- بالتأكيد.. كنت اريد القيام بعملية فصل بين الابداع وبين النشاط الاجتماعي والسياسي، بعض الادباء يخلطون الاوراق بصورة عشوائية غير دقيقة، بحيث يبدو المعرفي ndash; الثقافي الجاد في خطابهم مجرد مقولات جاهزة يغلب عليها طابع الانفعال بالواقع اليومي، ويمنحون انفسهم مساحات كبيرة بحيث يوحى الينا انهم قاموا بانجازات عظيمة على مستوى تحقيق الافعال الدرامية والتراجيدية، غير اننا ما ان نتحقق من ذلك، حتى نجدها مجرد بطولات فارغة يعوزها الكثير من مصداقية الخبر او الكلام، لذا.. رفضت تلك البطولات التي تتسم بالفراغ والادعاء الاجوف وطالبت الاديب والفنان بالاهتمام الجاد بفنه والالتصاق بانجازه الابداعي، ولا يخفى عليك ان الخطاب السياسي او الاجتماعي خطاب سهل الخوض فيه خصوصا حين يكون مجرد هجوم صارخ ضد المؤسسات السياسية، بينما الخطاب المعرفي خطاب صعب ويتطلب ثقافة جادة ورصينة، لهذا.. نجد ان معظم الناس يتهيبون من الخوض في مدار المعرفة وما تفرضه من جدية ورصانة وعمق، بينما يعبرون من المعرفي الى اليومي بيسر ويتركون وراءهم الخطاب الفكري جانبا، لانهم اقدر في الكلام والصراخ في كل ما هو بعيد عن الثقافة الرفيعة.


* اغلب عناوين قصصك ورواياتك تحمل كلمات نصفها الاخر (سلبي) اذا صح التعبير، مثل شوارع (مهجورة) و (خريف) البلدة وتيمور (الحزين) و (الخراب) الجميل و(موت) الاب و(صراخ) في علبة وخوذة لرجل (نصف ميت) واخيرا (محنة) فينوس، لماذا وهل ثمة قصدية فيها؟
- لولا وجود ما اسميته بالسلبي، لايمكن لنا الاستدلال على ما هو ايجابي في حياتنا لانهما يتعايشان معا وفي مجال واحد من الدوران حول بعضيهما، يتجاذبان ويتناظران في الوقت نفسه، أي انهما يكملان بعضهما البعض في مساحة متباينة تارة ومتساوية في تارة اخرى، وقيام السلبي والايجابي في انطلاقة واحدة دليل قاطع على وجود الحياة، اذ ما يميز الابيض الناصع هو وجود ملموس للاسود، وهذا الجدل بين الاشياء هو ما جذبني الى التسميات المتناقضة والمتنافرة، ومن الطريف ان اغلب القراء يحصرون العناوين تلك في كلمتين او اصطلاحين جاهزين هما: السلبي الذي يترجمه القاريء العادي على انه كل ما ينهل او يستمد قوته من الظلام او التشاؤم او العدم، بينما الايجابي هو ما يدعو الى الفضيلة والخير، ليس هذا مجال عناوين القصص، بل اكتشاف الجدل او الديالكتيك الذي يعني في المحصلة الاخيرة:- الحركة، في الحقيقة ndash; الديالكتيك هو الحياة.


* في عصر السرعة والفضائيات ما الذي للرواية ان تؤديه من دور؟
- لماذا لايكون السؤال بصورة اوسع، أي: ما الذي يؤديه الابداع او الادب او الثقافة بصورة عامة، مع هذه الحومة من الفوضى التي جاءت مع قدوم المحتل وفرض ثقافته لتدخل في صراع مع ثقافتنا الوطنية؟، ما الذي تؤديه المعرفة التي هي عزلاء ولا تملك سلاحا تقاوم به خصومها اللدودين غير سلاح العقل والفكر والادب والجمال والمحبة والبراءة؟، ماهو دور الادب؟ ثم ما هو الادب وسط فوضى القنوات الفضائية والاعلامية، وماذا استطاع الادب والفن من دور ايام تفشي الدكتاتورية والطغيان والموت المجاني للانسان؟، ماذا يستطيع الادب والثقافة والفكر ازاء حرب النجوم وحرب الفقر والجهل والامراض الغريبة التي تغزو عالمنا هذا؟ واخيرا ماذا يستطيع الادب من تحقيق دور مؤثر في عمليات القتل والتشويه وبث الرعب في قلوب الناس؟، بصراحة مطلقة:- لاشيء قط ولكن الرواية والتي هي جزء من الابداع العام، لاتستطيع الا تقديم المتعة والفائدة والاستبصار ومحبة الاخر واحترام ارائه، الرواية (سليلة الملحمة) لا يمكنها ان تفعل أي شيء الا الحب والجمال والخير وهي امور وحالات تتراجع امام صخب الفضائيات من حولنا.