قصة قصيرة بقلم الكاتبة النمساوية إنجيبورج باخمان
ترجمتها عن الألمانية ليندا حسين: إنجيبورج باخمان (1926 ـ 1973) من أهم الأسماء في الأدب النمساوي. بدأت حياتها الأدبية بالشعر ونالت جائزة quot;جماعة 47quot; عن مجموعتها الشعرية quot;الزمن المؤجلquot; عام 1954، إلا أنها تحولت للسرد بعد ذلك وكتبت الرواية والقصة وتمثل قصصها جزءا هاما من الأدب الألماني الحديث. عملت في الإعلام وكتبت في السياسة باسم مستعار. تنقلت في العديد من بلدان العالم وحصدت جوائز أدبية هامة ونالت شهرة كبيرة في وسائل الإعلام الناطقة بالألمانية. في سنواتها الأخيرة أدمنت باخمان الحبوب المهدئة، وعثر عليها محترقة داخل شقتها في روما عام 1973 وتوفيت متأثرة بحروقها بعد أيام. من أعمالها quot;العام الثلاثون ـ قصصquot; ورواية quot;ماليناquot; التي تم تحويلها إلى فيلم سينمائي، ساهمت في كتابته الروائية النمساوية إلفريده يلينيك عام 1990. تكريما لباخمان تأسست عام 1977 جائزة quot;إنجيبورج باخمانquot; للأدب الناطق بالألمانية.

القافلة والقيامة

حين تطلع الرجل العجوز ـ الذي كان قد مات ـ حوله بعد خطوات قليلة، لم يدرك لماذا خلفه أيضا تمتد الصحراء اللامتناهية التي كانت تمتد أمامه. لم يكن ليقدر على معرفة إن كان رملا هذا الذي يمشي بخفة فوقه، أم أنه إسفلت مرصوف، لأن الضوء فوق المنطقة الخالية لم يكن ضوءا سبق وأدركه بأية حاسة من الحواس من قبل. لم يكن هناك ألوان ولا ظلال. كان بلا التماعة، غير محسوس. أمواجه غير قابلة للقياس، وسرعته من غير الممكن تحديدها. هو لم يكن ضوءا، ورغم هذا سماه العجوز في سره ضوءا.
كانت أرضا بسيطة تلك التي وجد نفسه فيها. لم تكن قدمه تخلف أثرا في أي موضع تدوسه. في كل الجهات بدا له وكأن لا بداية هناك ولا نهاية. ورغم هذا كان يعرف أنه يتمشى هنا فقط منذ وقت قصير. الرجل مازال يتذكر الآلام المبرحة التي عانى منها في أيام حياته الأخيرة، واستغرب أنه لم يرحه، أن يتخلص منها وأن يخطو بهذا اليسر.
حين التفت حوله مرة ثانية وجد أنه لم يعد وحيدا. خلفه وعلى مسافة لم يكن باستطاعته تقديرها مشى صبي برأس مرفوع مبتهجا، وخلف الصغير ببضع خطوات مشت بنت صغيرة، يغطي رأسها شلال من الشعر، بالكاد استطاع الجسد المسلول الهزيل حمله.
كان لدى العجوز شعور بأن الصبي والبنت انتبها له وانتبها لبعضهما البعض. لكنه لم يعرف وسيلة للتفاهم معهما. ربما كان من الأفضل أن يبقى واقفا وينتظرهما حتى يصلا إليه.
لكنه كان عاجزا أن ينفذ ما أراده ـ أن يبقى واقفا في مكانه. ذلك أنه الموت، قال لنفسه. حيث لا يعود بمقدور المرء أن يظل واقفا في مكانه.
تلفت عدة مرات، وتطلع إلى رفاق طريقه، الذين كانوا قد زادوا اثنين. خلف البنت المتهالكة كان هناك شاب يمشي على عكازين. وخلف الشاب المعاق كانت هناك عجوز متقوسة الظهر، شكلت النهاية التائهة للقافلة. كلما مر وقت أطول على مسيرهم وكلما مارس الفتور والتكرار قهره على المجموعة الصغيرة، يصير المسير التائه والبلا هدف لكل واحد منهم أكثر كآبة ويأسا، حتى لو لم تعد الكآبة الحقيقية قادرة على التمكن من أي منهم. لم يكن تفكيرهم وإحساسهم قد مات تماما على الإطلاق، لكنه أقرب لكونه بلا محتوى حي، بحيث ينشغل بنفسه فقط، ضائعا ووحيدا يحوم، وبحيث تطبق الأفكار متعبة على الأفكار.
أحيانا كان العجوز يتذكر: كان ربيعاً. والريح تضرب النافذة حين متّ. ابني كان يعزف على كمانه الصغير، آلة أصغر بكثير من أن أتمكن من سماعها حقا. ابنتي قالت: quot;أبي!quot;ـ ثم عدة مرات quot;أبي!quot; للمرة الثالثة أشرقت الشمس تلك السنة.
أحيانا كانت البنت الصغيرة تفكر: كان ربيعا، والريح تضرب النافذة حين متُّ. يدي كانت في يد الطبيب ضعيف النظر، كان يضغطها بنعومة ويقول بين الحين والآخر: quot;ما أروع شعرها!quot;
كان الشاب أحيانا يحرك ساقه للأمام بسرعة أكبر. يتصرف بين وقت وآخر وكأنه يمد يده أثناء المسير إلي جيبه ليسحب سيجارة: كان ربيعا وأنا فكرت: لقد مات الله. إنه يضغط بيده الثقيلة على فم المرء ليمنعه من الصراخ، ويترك الريح تضرب صدرنا وعيوننا وجبهتنا، ثم السيجارة تنطفئ، قبل أن يستطيع المرء الصراخ.
بين الحين والآخر تنتاب المرأة العجوز رغبة بالتمتمة: آه لو أن أحدا أشعل نارا في الموقد، لو أن شخصا خلع لي جوربيّ السميكين، وحملني للسرير. بكلا قبضتيها ضربت الريح النافذة وصرخَت: quot;لا تنامي، أشعلي نارا في الموقد. البسي طاقية الصوف وفكري بحكاية لحفيدك الصغير!quot; آه لو أتى الصغير وطلب مني أن أروي له حكاية حمَل الفصح الأبيض الذي تحول إلى غيمة. آه لو أن الريح دخلت عبر النافذة وأشعلت النار...
فقط الصبي لم يعرف شيئا عن الكمان الذي كان يعزف بصوت منخفض جدا، ولا شيء عن الابنة التي قالت quot;أبيquot;، لا شيء عن الشَّعر الجميل، لا شيء عن الله الذي كان قد مات ومع ذلك يستطيع انتزاع ساق أحدهم من جسده. ولا عرف شيئا عن العجوز التي تنتظر حفيدها والتي لم يعد بإمكانها أن تشعل نارا في الموقد.
ما هو الربيع؟ كان سيسأل. إنه ليس الربيع هذا الذي تحكون عنه. عليكم أن تروني إياه مرة، الربيع الأزرق الذهبي الرائع. ذلك الذي يأتي بصحبة أزهار الكرز ورنين أجراس أزهار الربيع. الذي تقود الملائكة عربة من سحبه، وتحمل شمسَه درعا متقدة تصدّ بها سهم الشتاء. آه، ماالذي تعرفونه أنتم عن الربيع!
هو لم يكن ليصدق أحدا من الآخرين أن الربيع كان حين ضربت رياحٌ عاصفةٌ نوافذ الميتم الذي قضى فيه وقتا طويلا من حياته معزولا في نفس المكان. أشواقه كانت بانتظار نغمات رائعة لم يعرفها بعد، كلماتٍ لم يسبق أن نطق بها، إنسانٍ لم يبعث بعد، أو ميت منذ زمن طويل.
لكن الأرض الواسعة الخالية التي وجد نفسه فيها الآن، لم تكن أكثر فراغا من التي عاش فيها من قبل، وخيل له أن شيئا لم يتغير، رغم أن أشياء كثيرة كان يجب أن تتغير.
كل خطوة من خطواته كانت تضج ببهجة ود لو شارك فيها الآخرين. لكنه لم يعرف لهذه السعادة اسما، وهو لم يكن لينطق بها حتى لو كان هذا ممكنا.
فجأة خرجت وسط الرتابة والفراغ غير القابل للوصف هزة جعلت الصبي يرتج ويتهاوى، رغم أنه تابع مسيره وبالكاد بان عليه شيء. في الهزة الثانية استطاع أن يحرك يديه وأن يفتح فمه الذي صدر عنه صوت ذهول لا قرار له، دون أن يحصل هذا للرجل العجوز أو للآخرين الذين كانوا يمشون خلفه. وحين هوى عليه ذلك الصوت المدوي الهادر للمرة الثالثة عرف أن أجراسا بمثل هذه القوة الهائلة ستصيب القافلة في فرقتها وضياعها وأن الساعة حانت لينتهي فيها هذا المسير، و لينتهي الطريق الذي بلا هدف وليحين وقت العودة إلى البيت، المكان الذي لم يكونوا فيه قبلا أو ربما كانوا فيه دائما.
مع قدرة على حركة لم يكن يعرفها من قبل، خرج الصبي من الصف الذي لم يستطع أحد حتى الآن كسره، واندفع للأمام صوب العجوز الذي انتبه مستغربا أن الصبي أوتي قوة لا هو نفسه ولا أحد من البقية امتلكها، لكنه لم يفهم ماذا كان يقول الصبي بشفتيه المرتعشتين.
quot;أيها العجوزquot;، خرجت الكلمات من الصبي، الذي وبدون أن يكون متمكنا من لغة واحدة، استطاع دفعة واحدة أن يمتلك كل اللغات في شفتيه. quot;الأجراس ترن للمرة الرابعة والخامسة! ألا تسمع الأجراس التي تنادي lt;أبيgt;؟quot;
حين لاحظ الصبي أن العجوز لم يسمع الأجراس، اندفع للوراء مباغتا البنت بتضرع: quot;اسمعي! ست... سبع... الأجراس ترن...quot; لكن البنت تابعت المسير، وبالكاد رفعت رأسها. المعاق لم يسمع الأجراس على الأرجح، فكر الصبي، وهو يتابع العد: ثماني.. تسع.. ربما تشعر العجوز أني حفيدها. quot;جدتي، الريح ستضرب النافذة وتريد أن تشعل النار حين ترتدين الطاقية الصوفية وتصغين للأجراس! عشر.. جدتي!quot; أيتها العجوز الغريبة! إحدى عشرة...
أخذ الصبي ينتحب. اندلعت ألسنة اللهب فيه، أراد أن يمتلك صوتا أقوى من الأجراس الكبيرة السوداء القوية، التي دقت للمرة الثانية عشرة في الأرض الواسعة الخالية.
ومع أنهم لم يسمعوها إلا أنهم جميعا يرون الصبي المحترق الآن، يرون ويذهبون، العجوز والمعاق والبنت المسلولة والجدة. والأجراس دقت للمرة الثانية عشرة وقرعت أقوى من كل المرات، حتى أنها ضربت آذانهم وظلوا واقفين. والأرض الواسعة الخالية لم تعد موجودة، والطريق لم يعد موجودا. والذين يمشون أنفسهم لم يعودوا موجودين.
فقط في الموضع الذي بدأ فيه الصبي بالاحتراق، كانت هناك شعلة صغيرة في العتمة التي لا حدود لها، تلك التي كانت قد ابتلعت كل أثر للنور.