كلما ضاقت الرؤيا... اتسعت العبارة!
((فما لنا سوى التجريد وفي هذا المقام رأيت النفري رحمه الله))
- محي الدين ابن عربي-
عادل عبدالله

يرد في مقدمة كتاب النفري ndash; الموقف والمخاطبات ndash; النص الاتي:
(فالعارف ان نطق، لن يكون كلامه الا شطحا او عبارة غير مفهومة تعبر عن تجربة لا يمكن وصفها او نقلها، لذلك فضل النفري في وقفاته ومسواقفه ان يصمت والصمت هنا صادر عن الدهشة او ناتج عنها، كما انه دليل على عجز العبارة في ان تنقل ما تريد، تماما كما ان الصمت مجال رؤية او ادراك لحشود من المعاني العميقة، تضيق بها العبارة وتتسع معها الرؤية، كما يقول النفّري بحق وصدق قولته الرائعة الشهيرة المنبثة الان في اعمق اعماق الشعر المعاصر الحي، اذا اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة)
بهذا المعنى المحدد او ذاك يمكن ان نعد من هذا النص المقتبس، من مقدمة الدكتورعبدالقادرمحمود لكتاب المواقف والمخاطبات، تفسيرا او شرحا لعبارة النفّري الشهيرة (كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة).
انه فهم الدكتور عبد القادر محمود، واضع المقدمة والتعليق لكتاب النفّري الفريد، وهو ايضا الفهم الشائع الوحيد لأغلب من صادفته وتعرضت له هذه الشذرة المعرفية خلال قراءة عابرة لها او تعامل معرفي يقصد استثمارها نقديا او ابداعيا كما فعل ادونيس في تعامله الشعري معها، حين بقي محتفظاً بذات التفسير الشائع، آنف الذكر، دون اضافة منه او تأويل مغاير او اختلاف.
وربما كان مبعث هذا الاتفاق والقبول المشترك لمعناها الشائع هو البساطة الكاملة التي تعرض فيها هذه الشذرة نفسها والوضوح المفرط في طريقة عرض معناها والى الحد الذي يمكن القول عنده بانها لا تضمر في داخلها اي معنى مغاير ndash; مختلف لهذا المعنى الشائع لفهمها.
والقادر - حقا ndash; على احتواء كل عمقها وغناها بالصورة التي خرجت الى الناس بها، فهي تقول ببساطة معنى مركزيا - يحمل امكانية التنوع عليه وفي الفضاء نفسه - مفاده:
ان هناك رؤيا واسعة تضيق العبارة اللغوية بحملها ونقلها الى الاخر، وان هذه العبارة تزداد حرجا وضيقا كلما اتسعت هذه الرؤيا وتمادت في عرض وسعها امام امكانية اللغة القاصرة للتعبير عنها، وهذا هو كما ذكرت فهم الدكتور واضع التعليق والمقدمة لكتاب النفّري وفهم القارئ الكريم وفهم ادونيس الشاعر الصوفي لها والمسهم بالقدر الكبيربتعريفنا بهذا التراث الخاص ايضا.
فان كان ثمة ما يعتذر به قارئ العبارة ndash; غيرالمتخصص- ومقدم الكتاب- رغم تخصصه - عن التباس معرفي حدث في فهمه لها في حالة اثباتنا لطريقة فهم مغايرة لما يرد في النص، باثباتنا لمعنى اخر كان يقصده النفّري حقا في قولها، فليس لدى ادونيس ما يعتذر به عن سوء فهمه لهذه العبارة القريبة من نفسه جدا، لا لانه قد سبق اتخاذها من قبله عنوانا كبيرا لشعره يفسر عمق صلته بالتراث العربي الحي المتحول عنه، ولا لانها تمثل شعارا مركزيا يفصح عن نوع المبادئ الابداعية التي يؤمن بها، لا، ليس لهذين السببين حسب يمكن ان لا نقبل اعتذارادونيس، بل كيف يمكن لهذا الاعتذار ان يغدو ممكنا
وقد عد ادونيس يوما ما تجربة النفّري الصوفية وشذراته اللاهوتية نصوصا شعرية بارزة وخالدة في مجمل تاريخ الشعر العربي وتعامل معها على وفق هذا التصور ناعتا اياها بتكريم جزيل اسماه (النص النفّري)كما ورد في كتابه الشعرية العربية، لا، ليس لهذا السبب الكبير ايضا، مثلما ليس لان صداقة ادونيس للنفري وعلاقته به - وقد استغرقت كل هذه المدة الطويلة، وظلت محافظة على مقدار حبها ونوع التعامل الجليل معها والى الحد الذي اعفى ادونيس نفسه من امكانية مراجعة قناعته وفهمه لتجربة النفّري وعبارته هذه، ثقة بقراءته الاولى ورسوخا بمعرفة صاحبه ndash; يمكن ان يصبح اعتذار ادونيس عن سوء فهمه لعبارة النفري ممكنا، لكل ذلك لا يبلغ الغفران والاعتذار امكانه، بعد كل تلك المكانة العالية التي تبوأها النفّري في نفس ادونيس ونصه والى حد السماح لنفسه بكتابة نصها الخاص تحت فضائه المعرفي بعلم منه بتسلل بعض عناصر النفّري اليه او بغير علمه.
لا، ليس لكل هذه الاسباب التي هي وشائج قربى واخلاص، تعفي ادونيس وتجنبه امكانية خطأ الفهم، يمكن ان يصبح اعتذار ادونيس ممكن القبول، بل، لانه لم يبق محتفظا بسوء الفهم هذا لنفسه حسب، انما سوغ للاخرين قبوله ايضا حين استحضر العبارة لهم اول مرة بوصفها مقدمة لاحدى اهم مجاميعه الشعرية اولا ً، ولانه سمح لهم بفهمها مختلطة متداخلة مع الرؤيا الشعرية، تحت تصنيف واحد وعلاقة واحدة تجمع الصوفي والشاعر في الرؤى، وهذا هو موضوع قبول اعتذار الدكتور كاتب المقدمة عن سوء فهمه عبارة النفّري وقبولها بذات معناها الخاطئ، بل والتمادي في قبول هذا الخطأ الى حد تكرار عرضه والاعلان عنه بالطريقة الاحتفالية نفسها، تلك التي سبق لادونيس انتهاجها، اذ كرم الدكتور عبد القادر محمود عبارة النفّري هذه نفسها ووضعها مرة اخرى مقدمة اولية وعلامة كبرى تتصدر مقدمته لكتاب النفّري.
اذن فنحن الان ازاء ما يسوغ لنا القول بضرورة اخلاص ادونيس للنفّري، بحتمية افتراض ان يكون ادونيس هو العارف الاول بسر صناعة النفّري، ظاهرها وباطنها، ما احكم منها وما تأول وهذه هي ماهية الاخلاص المعرفي وفضل الصلة الابداعية الحميمة التي عقد ادونيس عزمه على ربط نفسه ونصه بها، فهل يمكن ان يعتذر ادونيس بعد هذه العلاقات الحميمية كلها عن سوء فهم عبارة صديقه ومعلمه النفّري؟
ها نحن الان ازاء وضع معنى اخر مغاير ومختلف نحسب انه كان مقصد النفّري وغايته في قول عبارته:-
اذا كان ادونيس، النفري، او بتجريد اعلى، الشاعر والصوفي، يلتقيان في فضاء الرؤيا وتحت تسميتها ثم يشتركان في شيء ما تحت طائلتها، فان هذا الاشتراك يبدأ انحلاله، تمييز مركباته وفرقة عناصره، حين الدخول في تفاصيل السؤال عن نوع هذه الرؤيا التي يشتركان فيها، ثم يبلغ هذا الانفصال تمامه، في السؤال عن طريقة تعامل كل من الشاعر والمتصوف مع هذه الرؤيا متمثلا ذلك بالعلامة الكبرى لتعاملها، اعني، الاول اي الشاعر بضرورة نقلها الآخر المتلقي وبالطريقة التي يجدها مناسبة لذلك، حريصا على ايصالها اليه وفق تصور معرفي وفني خاص به، اما المتصوف، فلا يمكن ان تملي عليه طريقة التقائه وتعامله مع الرؤيا ايما ضرورة بنقلها الى الاخر مطلقا، استنادا الى نوع صلته بالرؤيا من جهة وبالاخر من جهة اخرى.
من هنا، اي من هذا المكان الضبابي الذي يشترك في فضائه الصوفي والشاعر رغم اختلاف النوع بينهما، تسلل الفهم الادونيسي الخاطئ لعبارة النفري، ذلك لانه توهم، ان فرضية وواقعة الاشتراك في المكان، مقاسمة الشاعر للصوفي فيه، يعني واقعة اشتراكهما في وظيفة الرؤيا ونوع التعامل معها ايضا، فكان ان خلع ادونيس وفرض وظيفة الشاعر التي هي نقل الرؤيا، على المتصوف، ذلك الواقف الصامت المعني بتأمل هذه الرؤيا فقط،و ربما سترها ايضا! يقول النفري:
(كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة)ثمة عبارة هنا ورؤيا هناك وثمة تناسب عكسي بينهما، انفعال واستجابة في وضع العبارة، تسببه حالة الرؤيا في تحولاتها، فهي المحرك والباعث لحالة العبارة بين الضيق والاتساع.
لكن فلنتفحص هذه الشذرة جيدا ولنقراها بعين بصيرة نافذة الى كل ما يمكن ان تخفيه من دلالات محجوبة متسائلين، كيف يمكن لاتساع الرؤيا ان يحدث ضيق العبارة وهل ان هذا الضيق حادث حقا؟
اعني اليس في اتساع الرؤيا التي يتأملها الصوفي ما يسبب اتساعا مثيلا مقابلا في ذات الرائي الصوفي سبيلا لادراكها؟
الا تفترض مثل هذه الرؤيا المتسعة المنكشفة لروح الصوفي انكشافا مقابلا وانفتاحا واسعا عليها يكون خلاله الصوفي جديرا بما يكرم به من الاتساع والكشف، ام يتطلب ذلك الاكرام انصرافا وضيقا في الروح عن ما تراه، انشغالا بشيء ما سواها؟
ان العبارة لتضيق عن ادراك الرؤيا لان الصوفي مشغول بتأمل الرؤيا، برؤيتها منفتحا عليها ومنكشفا لانكشافها وكل محاولة منه لنقلها او ادراكها في العبارة بوسيلتها هو انصراف عن الجهة التي تتبدي هذه الرؤيا فيها. انه التفات الى الجهة التي تقع فيها العبارة وتحويل البصيرة عن المكان الذي ينبغي ان تبقى فيه هذه البصيرة ثابتة لا تزوغ عنه ولاتطغى، ذلك لان العبارة من جنس اخر مختلف، لا ينتمي ابدا لعلاقة الراي بالمرئي، انها الاخر الثالث الذي يمثل حضوره في هذه العلاقة الثنائية المطبقة الوحدة التي يتبادل الكشف فيها بين الرائي والمرئي، حضورا طارئا ودخيلا منبوذا! فكيف يمكن للنفري وفي هذا الموضوع المتوحد الفريد ان يفكر بضرورة حفظ هذه الرؤيا في عبارة من اجل نقلها الى الاخر شاكيا من ضيق العبارة وقلتها ازاء حجم ما يراه؟
ان ضيق العبارة هنا هو نتيجة نفسية بل ومنطقية ايضا، لانتفاء الحاجة اليها والى وظيفتها التي هي نقل الرؤيا الى الاخر.
ذلك لان هذا الوسط الذي تعرض فيه الرؤيا نفسها، تعكس نفسها في الاخر الحاضر المنكشف لها هو وسط كامل، غني بذاته المغلقة على عناصره ولا حاجة به لا الى الاخر ولا الى العبارة التي هي وسيلة ايصال ما يحصل للصوفي وما يصل اليه الى الاخر الذي لا حضور ولا تمثيل له هنا في هذا المكان ابدا.
لا خلاف على ان مصدر الرؤيا لدى الصوفي، هو الاخر الكلي او انها ndash; هذه الرؤيا ndash; تمثّلٌ له اة لادراكه وملكاته، مثلما لا خلاف على ان هذا الاتساع هو في حقيقته انكشاف الاخر الكلي، الله، الوجود، الى الموجود، الانسان، الرائي الصوفي، وهو امر ليس يحصل في حالة ضيق النفس وانشغالها بما هو جزئي محدد، انما يحصل ذلك في حالة اتساع الكائن، تحرره عن الجزئي وعن عبئه.
ومن هنا يمكن القول ان اتساع الصوفي اولا، احساسه بكليته وتعاليه، تحرره من الموجود الجزئي هو الذي يسبب انكشاف الرؤيا الكلية المتسعة اليه، وليست العبارة هنا سوى رمز لعلاقة الجزئيات بعضها ببعض، موجود بموجود، انها وسيلة الاتصال والتخاطب بينهم، نقل الحدث وبكل مستويات حدوثه بما ذلك الكوني، منه، بينهم.
فكيف يمكن للنفري ان يشكو وفي موضع الخلوة الكلي هذا، من غياب وقلة ما يرمز الى الاخر الجزئي ويشير اليه، وهو الذي لم يكرم بهذه الرؤيا المتسعة الا لتخليه عن الجزئي وتحرره منه؟
ها هنا نكون قد وصلنا الى المكان الضيق المحدد الذي تحل فيه عقدة الصداقة والاشتراك في الرؤيا بين الصوفي والشاعر، حيث، ومن هنا بالتحديد سيغادر الشاعر المكان الذي كان يشترك فيه والصوفي في مقام ورتبة واحدة، الى رتبة ادنى من المكان، مغيرا نظام التعامل مع الرؤيا وخائنا اياها حتى، فحيث كانت الرؤيا تبدو اليه، وفي اللحظة الخاصة المتعالية التي اوشكت ان تضعه والصوفي في مقام ورتبة واحدة، منسجمة مع منطق النفري وجارية على وفق التصور الصوفي (كلما ضاقت الرؤيا اتسعت العبارة)، اصبحت الحالة الجديدة المرافقة لرؤيا الشاعر في مكانه الجديد، هي (كلما اتسعت الرؤيا اتسعت العبارة معها)إهتزت وربت وعادت الى الاخر غنية واسعة، كلما اتسعت رغبة ايصالها الى الاخر، رغية استحواذ الشاعر على الرؤيا من اجل نقلها الى الاخر، مشاركته فيه، اذن، فهو اتساع العبارة، تلك التي حرص النفري على طردها من علاقة الرؤيا بالرائي، ان الشاعر ليعود هنا باسرع واول ما يصادفه من الغنائم لأرائة الاخر اياها، اشراكه بها، اخباره عنها وربما بيعه اياها ان شاء حين يكون مبدأ الصوفي في التعامل معها هو تأملها، وجها لوجه، اتساعا
باتساع، تداخلا معها يفترض ويشترط لتوغل الصوفي به تخليه عن التعبير والاخر وكفّه عن الانشغال له والتعبير اليه. الامر الذي ينتج طوعا ضيق العبارة وطردها من هذه الحلقة الكاملة التي لا مكان للاخر ولا لما يمثله فيها.
(كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة)ان ادونيس اذ يتمثل هنا شذرة النفري، فانما يتمثلها شاكيا متذمرا ومتحيرا من هول رؤياه وسعتها مقابل ضيق امكانية اللغة للتعبير عنها وايصالها الى الاخر حين كان النفري صاحب الشذرة وقائلها، يقرر واقع حالٍ ماضية كانت معاسة لديه، حتى مانها تكاد تكون اجابة عن سؤال سائل ما، يطالبه بنوع من التعريف برؤياه او الافصاح عنها، فيجيبه النفري: بانه كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة وانحسرت باتجاه الرؤيا نفسها ولصالحها فلا طريق لايصالها الى الاخر ولا سبيل لها اليه.
لكن الذي يحصل هنا على وفق فهم ادونيس ووفق تصوره لعمل الشاعر، هو عكس ذاك الذي هو موضع قصد النفري في اطلاق عبارته، اي (كلما ضاقت الرؤيا اتسعت العبارة)لان اتساع هذه الاخيرة لا يتم الا على حساب التنكر لاتساع الرؤيا وانكشافها لمن يراها، اما ضيقها - ضيق الرؤيا - فهو الانحسار عنها عن كبرها واتساعها الى ضيق الاخر الذي يفترض اتساع العبارة من اجله، ومن اجل افهامه ما حصل وتمت مشاهدته هناك.
ان الفرق هنا، فرق الموقف النفسي بين الشاعر والصوفي، فرق علاقة كل منها مع هذه الرؤيا ذاتها، فاذ يكون معنى الضيق لدى الاول كناية عن الشكوى من ايصال الرؤيا الى الاخر واعترافا ضمنيا بعظمة ما يراه، يكون معناه لدى الثاني كناية عن الانتماء والاخلاص الى اتساع الرؤيا وتقرير واقع حالها مع عبارته الضيقة الطريدة، لكن دون شكوى او تأس على طردها وانحسارها الطوعي، بل هو مديح وفخر لانتماء الصوفي الى هذا الاتساع الذي يمسخ عبارته، انه نوع من الحمد والشكر لها، على غنى نفسه متمثلا ذلك في كفه عن حاجة التعبير عنها، وفي كفه عن الموجود الجزئي الذي ينبغي ان لا يكون مطلعا عليها، وان تبقى بالنسبة اليه سرا، لا يصح لاحد الاطلاع عليه سوى الرائين العارفين القادرين على كتمه.
اذن،فمعنى ضيق العبارة لدى النفري، هو انها أُتلفتْ، مُسخت، انتفتْ الحاجة اليها والى وظيفتها في التوصيل الى الاخر، مكرمةً بضيقها هذا وانحسارها الرائي الصوفي بتمكينه من دوام الانشغال برؤياه ودفعه جدليا باتجاه الحفاظ على اتساعها بذات فعل انحسارها من هذه البينية الكاملة، اذن فهو الحديث عن مكانة العبارة / الاخر، بين الشاعر والصوفي واختلاف قيمتها بينهما، فحين ينبغي على الشاعر ان يتظاهر الى الاخر معرفا نفسه اليه بواسطة العبارة ومخاطبا اياه بها، لا يتبغي الافتراض بان تكون علاقة الصوفي بالاخر وبعبارته شبيهة بهذه العلاقة ابدا بل هي اقرب الى العكس منها، عكس الوظيفة، ونوع الوجود في الرؤيا ثم هو عكس المكانة والمنزلة.
فاذا يكون الصوفي منشغلا بتحقيق منزلته فانما في عرف الله وبين يدي رحمته، اما منزلة الشاعر فهي لدى الناس،في الاخر وبين يدي قرائه، من هنا سيتجه الصوفي الى الله متقربا اليه من اجل علو منزلته في الرؤيا.
اما الشاعر فهو الذي تبنى على عاتقه نقل هذه الرؤيا الى الناس من اجل تعريفهم بمنزلته.
حتى اذا اردنا شاهدا عيانا على صدق كل هذا الذي تحدثنا به فليس لنا من احد غير تلك الشذرات الرائعة من مواقف النفري التي قمنا بانتقائها من مجمل كتابه. والتي تدعم كل ما ذهبنا اليه من قصد النفري فانها تنفي في الوقت ذاته كل احتمال وتأويل يسمح بفهم عبارة النفري بغير مقصده الذي شرحناه والذي يفترضه كامل الوسط المعرفي الذي يتحدث النفري به، واليكم هذا الجمع الغفير من الشهود - شذرات النفري - التي ينبغي ان نضع في اذهاننا حين قراءتها، بان معنى الوقفة لدى النفري هو مقام كشفي فوق كل علم ومعرفة، انه رؤيا حيال الحضرة العالية التي (تمحو كل ماسواه فلا يبقى مجال للغير ولا للسوى و لا للعبارة ولا للكلمة ()،وهي كما يقول النفري (ليس في الوقفة ثبت ولا محو ولا قول ولا فعل ولا علم ولا جهل)(). - الذي لم ينشر اليه صراحة - لحضور العبارة في شذرات النفري، الا وهو حضورها المدان المحظور والمطالب بالغائه، لكن، من محل هذه الرؤئا المتعالية التي تجمع الله والانسان في موقف واحد، فهي الاشارة اذن الى نفي العبارة وحذفها من مكان الرؤيا، بين الرائي والمرئي، الحال، التي تفترض حتما حذفها والغائها من علاقة الصوفي بالاخر.
(طائفة من مواقف النفري)
وقال لي ndash; اذا جئتني فالق العبارة وراء ظهرك والق المعنى وراء العبارة والق الوجد وراء المعنى.
وقال لي ndash; لأن العبارة مجاز ولأن الواقفون لا يعرفون المجاز.
وقال لي ndash; ان سكنت الى العبارة نمت وان نمت مت، فلا بحياة ظفرت ولا على عبارة حصلت.
وقال لي ndash; اذا تعرفت اليك بلا عبارة خاطبك الحجر والمذر.
وقال لي ndash; اذا كلمتُك بعبارة لم تأت منك الحكومة لان العبارة تردك منك اليك بما عبرت وعما عبرت.
وقال لي ndash; اوائل الحكومات ان تعرف بلا عبارة.
وقال لي ndash; اذا تعرفت بلا عبارة لم ترجع اليك واذا لم ترجع اليك جائتك الحكومات.
وقال لي ndash; العبارة ستر فكيف اذا ندبت اليه.
وقال لي ndash; ليس اعطيك اكثر من هذه العبارة فانصرفتُ فرايتُ طلب رضاه معصيته.
وقال لي ndash; العبارة ميل فاذا شهدت ما لايتغير لم تمل.
وقال لي ndash; اوصافي التي تحملها العبارة اوصافك بمعنى، واوصافي التي لا تحملها العبارة لا هي اوصافك ولا هي من اوصافك.
وقال لي ndash; يا كاتب الكتابة الوجهية ويا صاحب العبارة الرحمانية انم تبت لغيري محوتك من كتابي وان عبرت بغير عبارتي اخرجتك من خطابي.
وقال لي ndash; عزمك على الصمت في رؤيتي حجب، فكيف على الكلام.
[email protected]


نقلا عن مجلة quot;الأقلامquot; العراقية