محاذاة المرأة بالفرس: قراءة في جديد الشاعر الفلسطيني محمود ماضي: quot;أُحاذيكِ فَرَسًاquot;

نصر جميل شعث من غزة: لم أبالغْ يومًا، كما لمْ أستعنْ بمُجاملةٍ لا أحسنها، وأنا أضيء المشهد الشعريّ والأدبيّ الذي ينضج في هذه البقعة العزيزة من الوطن وبقية أجزائه بما فيها مدن الثمانية والأربعين. فالجديد الذي يَخصنّي، فيهذا المقام، في ما شابه هذا المقال، هو جديد الشباب الرائع الذي تَخلّصَ مِن رَواسبِ الماضي الشعريّ، ويتَعالى، جماليّا، على واقعه، بالعبارة الشعرية، والدوزنة الساخرة.
ونَموذجي الجديد، إذًا، هو هذه المجموعة الشعرية الجديدة الثانية: quot;أُحاذيكِ فَرَسًاquot;، للشاعر محمود ماضي الصادرة حديثًا عن quot;دار ميمquot; في الجزائر. بوعيها الشعريّ المتقدّم، وبصفحاتها الـ 103، وبغلافِها الذي تنطبع عليه أسلاك حديد صلبة ومقوّاة وشائكة، ولكنها مطواعة، على هيئةِ امتداديْنِ رأسيين، كأنهما متوازيان. حيث التشكيلاتُ والالتواءات وَسط هذين الامتدادين الرأسيين - أي في الاستهلال والتصعيد الحديدي- علامةُ مسطحّة للحصار والقيود. وفي ضوء هذه العلامة الصلبة والمطواعة، في آن، بإرادة الشعر واليدِ والغد؛ لن يَمنعنا هذا المظهر العسكريّ من التعمّق في تأويل وقراءة علامة السطح/ الغلاف: فوضع أصابع أو أشواك الأسلاك الشائكة الحادّة في الصورة، هو يقارب حركة اليد التي تعبّر وتشير لمعنى النصر، الشعريّ، على الأقلّ والأجمل. فالشعرُ يَرقص ويتلوّى فوقَ وفي كلّ علائم وأبعاد وجهاتِ الحديد!
وتؤشّر هذه المجموعة الجديدة، منذ الصورةِ الشعرية التي ارْتضاها الشاعر عنوانًا لعمله؛ تؤشّر إلى سباق وجموح الرغبة. وتقتضي المحاذاة التوازي بين غايتين: المرأة التي يجعلُ الرجلَ يَنشدّ إليها حنين ورغبة الجسد للجسد، والفرس الذي يَشدّ الرجلَ إليهِ حنينُ وقِيَمُ الفروسيّة: quot;أحاذيكِ فرسًا وأرسم قلبًا يَشدّ على يدِ امرئ القيس طويلاًquot;. وإنْ كانَ محمود ماضي يُسمّي امرأ القيس في قصيدته؛ إلا أنَّ المتنبي، بدلالاتِ صوته وصهيله وحمحمته، يَحضر في هواء أو فضاء الشاعر؛ انطلاقـًا من هذه القراءة الفنية لبيت المتنبي: quot;أتوك يَجرّونَ الحديدَ كأنما :: سَرَوا بجيادٍ ما لهن قوائمquot;.


وعلى الرغم من استنتاج أو رسم صورة السياق: أي السباق والجموح بالمعنى الشعري؛ إلا أننا نلاحظ الشاعرَ يُقيّد لغته ومفرداته. وهذا يُوحي بِعملٍ مقصود للحفاظ على اقتصاد العبارة؛ الذي يقف مقابلاً للإسراف العاطفي الذي يلجأ إليه الشعراء لالتهام المسافة والفضاء باللغة غير المحسوبة جماليّا. فيُحافظ الشاعر على الرغبة الواعية باقتصاد العبارة، مثلما يحتفظ بالرغبة الجامحة بمعناها الشعري والدلالي: quot;تحت الريح جواد ينهبُ فضاءَ الصحراءquot;، quot;أحاذيكِ فرسًا كي يَضيقَ الغيابُquot;. وتَظلّ البنيةُ الفنية تَصونُ اقتصادَ العبارة، على الرغم من إفراط الشروط الموضوعية في عشوائيتها، وإهدارها للمعنى الإنساني في حلقة الصراع بين الضيق والفضاء، حيث المعاني الذاتية والمعيشية الكثيرة في أرض الواقع.
وعلى طول القراءة في المجموعة، المحمول الكلّي تحمله وتتجمّل به إرادة حنينٍ قويّ الحضور في الشاعر؛ حنين لمكانِ المرأة البعيد والبعيدة لا كمجاز، بل كحقيقة موضوعية مثالية على الأرض في أبعاد وآفاق المكان والزمان: quot;صوتُ البعيدةِ يُزهرُ حيثَ يَحطّ صداهquot;. وليس كمثالية موضوعية عُليا في السماء. وحنين ارتدادي للفروسية البعيدة، في الماضي، والمشاركة الآن، من باب الخيال الشعري، في تسابق الفَرَس أو ظلّ الفرس مع المرأة؛ في صورة التحاذي والتوازي، هذه، بين رغبتين لا تتحققان بالمعنى الذاتي، ولا بالمعنى الوطني. فالأثر، الصوت، يَسبق الوصولَ الجسديّ الفعليّ للغايات المرجوّة:quot; فوضاكَ تزاحمُ أغنيةَ فَمي/ لو كنتَ فارسًا لانحنَيْتَ قليلاً/ وأخذتَ حينَ تـُغادرُ فوضاكَ/ لو كنت..quot;. ولكنّ الصوتَ، صوتَ الشاعر، يُزهر حيث يَحطّ صداه؛ حتى وإن كانَ في قصيدةٍ له بعنوان quot;موسيقى هشة1quot; يُحدثُ تقابلاً بين جسدِ جوادٍ وظلٍّ يُسمّيه ويَصفَه فَرَسًا: quot;تحت الريح جوادٌ يتعثّر بظلٍّ فَرَسٍquot;. وهكذا تَعثّر إنما يُكرّسُ معنى التقابل الذي يبنيه الشاعر من ـ وعلى ـ سُرعةِ الترادف اللغوي المتداول بين الجواد والفَرَس.


وثمة أفعال أخرى رائجة في القصائد، تُصاحبُ وتشارك فعل التعثّر، بالمعني الدلالي في المجموعة، مثل أفعال الارتباك، الارتجاج، والشدّ المضارعة: quot;ثلاثة وعشرون عامًا وأنا أركض فوق جسر العمر/ مرتبكـًا/ أشدّ الخيل إلى جهتىquot;. وقد سمّى الشاعر القصيدة الأولى- التي سبقتها عتبةٌ عاطفيّة مقتصدة- quot;ارتباكquot;. ومن ثمّ القصيدة الثانية التي حملَتْ عنوان المجموعة. وهناك عناوين لقصائد أخرى تدعم سياق الدلالة العامّة للمجموعة، مثل quot;ظلّ متوتّرquot;، وquot;ظلّي فوق ظهريquot;؛ بما يشير إلى أحمال الذات والموضوع الثقيلة في أجواء الرحيل والفقد، في قصائد الشاعر: quot;منذ عامين/ والطين يَرحلquot;، quot; لكنّ النهر يَحملُ جبَّـتَه ويَرحلquot;، quot; فوق يدِكِ حملْتِ الجمرَquot;، quot; شئتِ أنْ.. أرسمَ ظلاً وأحمله فوق ظهريquot;... وهكذا: الخيل وبعض الحنين يلازمهما الرحيل والفقد: quot;صهيلٌ يَحملُ وجهي إليّ/ صَهيل يَحملُ روحي إليها/ صَهيل يَرقصُ/ فيما الخيولُ تَموتquot;. فمرّة نقرأ الصهيل بوصفه دالة على الحنين بالمعنى المُجرّد، إذ يضرب أو يَسرق الشاعرُ quot;موعدًاquot; مع هذا النوع من الحنين الموجع: quot;سأسرق بعض الحنين لأهزّ به هزائمي ليلاًquot;، ذلك أنّ: quot;الحبّ يقدر أن ينثرَ الحنينَ في كلّ زوايا الهواءquot;. ومرّة الصهيلُ دالة الرغبة الجسدية - quot;القبلة حصان حرّquot; - المستعاض عنها بما تختزنه الذاكرة وتنسجه المخيلة من صور:quot; الذاكرة سكرانة/ تزفر صهيل يُؤجّج نارَكِ وخَشَبيquot;. وأيضًا: quot;النهدُ ارتباك المسافة/ النهدُ اسم الأمس/ وأيقونةُ الغدquot; * quot; بعدَ مليون عام من الآن../ سأحملُ موميائي إلى البحر لأرقصَ معها/ سأعيدُ الحياةَ إلى جثتي بالرقص../ بالرقص فقطquot;. وهكذا، في عموم المجموعة، الحضور المكثّف للغةِ الجسد كطاقة حركية تعبيرية أكثرها أفعال الرقص، الركض، وحمل الظلال والأشياء لأرقى تجسيدات الشعر بالعبارة.