تتحسس المجتمعات الشرقية من الاختلاط بين الجنسين، وتضع الحواجز بين أي نقاط تلاقي ومحطات تواصل، وهذا التحسس فقط بين الجنسين أما ما عداه فهو اختلاط مرحّب به بل ومطلوب، فمثلاً quot;المائدة العربيةquot; تضم عشرات المذاقات والمطعومات والمشروبات، وقد يقول قائل أن quot;اختلاط موائدنا رحمةquot;، رغم أن من الفقهاء من يرى ضرورة اقتصار المائدة على نوع واحد من الطعام.. وكتب بعضهم كراسة تحت عنوان: quot;الفوائد في تحريم تعدد الموائدquot;! ولا يغيب عن الذكر أن بني إسرائيل كانوا لا يصبرون على طعام واحد، والتعدد في الموائد قد يدخل في باب التشبّه بالكافار والمشركين، ومازال القلم يتذكر أن أهل quot;الشّيَشquot; ومتعاطي quot;المعسّلاتquot; من النساء والرجال ndash;عليهم من الله ما يستحقون- يفضّلون من الجراك والمعسّل ما كان quot;مخلوطاًquot;!
ويمتد هاجس الاختلاط ليصل إلى الفصل بين الأطباق عطفاً على مسمياتها، فلا تستغرب أن يُغلَق مطعم بلا ذنب سوى أن الحلوى المشهورة quot;أم عليquot; المؤنثة كانت جالسة ومتبرّجة بجوار نوع من السّلطة quot;مذكرquot; هو quot;بابا غنوجquot;!
والفصل بين الجنسين قد يمتد ليشمل حتى راغبي quot;الوصال الحلالquot; وأعني به الزواج، وكم من محبين فُصل بينهما لعدم تكافؤ النسب، أو حيل بينهما وبين الزواج لخلل في المكانة الاجتماعية، أو لسبب متدحرج من التراث أو متزحلق من الأعراف والتقاليد.
ولم يسلم الشعر كذلك من quot;الاختلاطquot;، ومنه تلك القصيدة الخالدة التي كتبتها الشاعرة المشرقة الأديبة العراقية لميعة عباس عمارة، وافتتحت بها ديوانها المسمى quot;أغاني عشتارquot; تحت عنوان quot;اللقاء الخالدquot;.. وتحت هذا العنوان هامش صغير جاء فيه قول الشاعرة: quot;رأت ديوانه وديوانها متجاورين في إحدى المكتبات فكانت هذه القصيدةquot;.
وقصة النص باختصار أن الشاعر العراقي بدر شاكر السياب كان ممن يحبون الشاعرة لميعة، وهي أيضاً تبادله الحب ولكن quot;ظروف الأعراف واختلاف الديانةquot; حالت دون زواجهما ولقائهما quot;السليمquot;.
وبعد أن وصفت الشاعرة مشهد التصاق ديوانها بديوان السياب quot;على رفّ واحدquot; وليس على quot;سرير زوجي واحدquot;.. قالت:
وَهَكَذَا، بَعْدَ سِنِينِ النَّوَى
وَهَرَبِي حَتَّى مِنَ الطَّيْفِ
وَقَسْوَتَيْنَا إِذْ وَأَدْنَا الهَوَى
وَإِذْ سَتَرْنَا الحُبَّ بِالعُنْفِ
إنها تستدعي زمناً ضاع في الزمن، وتصدر عتاباً مراً لغرام كان صرحاً من خيال فهوى.. وإذا سألت الشاعرة عمن أسقط هذا الصرح، فلن تتردد بالقول إنه التراث المتعفّن والأعراف البالية، ومن غيرها يحيل بين المحبّ وحبيبه، لتقول في ذلك:
وَبَيْنَنَا ndash;قَبْلَ الرَّدَى- بَرْزَخٌ
مِنْ عَفَنِ التُّرَاثِ وَالعُرْفِ
ولكن هل التقى الشاعرة والشاعر ndash;رغم كل الأشياء العفنة- ليأتي الجواب: نعم، ولكن على quot;رفوف المكتبةquot; التي هي أيضاً أدركها غبار الزمان ووحشة المكان، لتقول الشاعرة في ذلك:
إِذَا بِنَا، وَرَغْمَهَا نلَْتَقِي
هُنَا..
كِتَابَيْنِ عَلَى رَفِ!
تأمّلوا النص، وقيسوا المسافة بين وجع اللقاء وألم الغياب والانطفاء.. إنها مسافة زمنية ملؤها الحرف، وحشوها الزمن والحب الذي لا يعرف مداه إلا من قاسى تباريح الشجن!
[email protected]