الحلقه الاولى

الحلقه الثانيه

الحلقه الثالثه

الحلقه الرابعه

العراق 1945- 1958: ازدهار ثقافي ونضج سياسي وانفتاح اجتماعي (5 من6)
بقلم إيريك ديفيس
تقديم وترجمة حسين كركوش

أججت انتخابات عام 1954 ما كان موجودا من توترات داخل النخبة السياسة الحاكمة. فالحرية النسبية التي جرت في أجوائها تلك الانتخابات كانت، إلى حد بعيد، نتيجة للكراهية التي كان يكنها الوصي على العرش عبد الآلة، إزاء نوري السعيد، بسبب سيطرة الأخير، عن طريق حزبه (حزب الاتحاد الدستوري)، على البرلمان (51). وكان الوصي عبد الآله على قناعة بأنه لا يستطيع زيادة عدد الأعضاء المستقلين داخل البرلمان الجديد، وبالتالي إبعاد سيطرة أعضاء الحزب الدستوري، إلا عندما يستغل فرصة وجود نوري السعيد خارج الحكومة، وتواجده في الخارج. لكن نتيجة تلك الانتخابات لم تكن فقط نتيجة للمشاحنة الشخصية بين عبد الإله ونوري السعيد، وإنما كانت، أيضا، نتيجة لخلافاتهما السياسية، بشأن هل يقيم العراق وحدة مع سوريا. ورغم أن نوري السعيد كان قد حذر، من مكان تواجده في لندن، عبد الإله، بأن حزبه الدستوري يجب أن يضمن بين أثنين وسبعين وثمانين مقعد داخل البرلمان، إذا أريد ضمان استقرار سياسي جدي في البلاد، إلا أن الوصي على العرش تجاهل تلك النصيحة.
لقد سمحت الانتخابات البرلمانية التي جرت في حزيران 1954، والتي ترافقت مع ليونة أبدتها الدولة إزاء سير العملية الانتخابية، لأحزاب المعارضة أن تشكل الجبهة الوطنية، وأن تفوز بعشر مقاعد (52). والأمر الذي أثار، فعلا، أعصاب نوري السعيد وأعصاب النخبة السياسية التقليدية، هو، تلك الحيوية التي طبعت الحملة الانتخابية التي نفذتها الجبهة الوطنية، وكذلك حقيقة أن المقاعد التي فازت بها الجبهة، إنما كانت في أهم مدينتين عراقيتين هما، بغداد والموصل. وأكثر من هذا، فأن حزب نوري السعيد فقد أكثريته البرلمانية.
لكن البرلمان الجديد لم يعقد سوى جلسة واحدة، في تموز 1954، حيث تم حله بعد ذلك. وعندما جرت انتخابات أخرى في شهر آب، ظهر برلمان جديد، أصبحت فيه السيطرة، مرة أخرى، لحزب نوري السعيد.
إن الأداء الباهر الذي أظهرته الجبهة الوطنية في المناطق الحضرية، حيث تقل فرص الدولة في التلاعب بنتائج الانتخابات، أنتج مفارقة، تمثلت في اضطرار عبد الإله على الموافقة على حل البرلمان الجديد،والهروع إلى نوري السعيد، لتكليفه بتشكيل حكومة جديدة، وهو أمر دائما ما اعتاد النظام الملكي على اللجوء إليه، في الماضي، لمواجهة

الوصي عبدالاله ونوري السعيد
أزمات مماثلة. لقد قاد التلاعب المفضوح بالانتخابات الجديدة إلى نزع كل ما تبقى من شرعية كان يتمتع بها النظام البرلماني، وخصوصا بعد ما لجأت الحكومة، خلال الحملة الانتخابية التي جرت في حزيران، إلى اعتقال عدد من مرشحي الجبهة الوطنية، الذين لم يطلق سراحهم إلا بعد انتهاء الانتخابات.
لقد أظهرت انتخابات 1954 بأنه إذا توفرت شروط ملائمة، فأن بإمكان الناس ذي العقلية المنفتحة (المتنورين)، أن يفوزوا، بطريقة ديمقراطية. و الأكثر أهمية من هذا، هو أن القوى التي تشكلت منها الجبهة الانتخابية الوطنية كانت تضم أحزاب سياسية، لكل منها ذات مصالح وأهداف مختلفة. فقد ضمت تلك الجبهة الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال، والحزب الشيوعي، ومنظمة أنصار السلام التي يديرها الشيوعيون.

quot;عدم أهلية العراقيين للديمقراطيةquot;: ذريعة لفرض الديكتاتورية
إن أي تحليل مفصل لانتخابات 1954 من شأنه أن يقودنا إلى عدد من الاستنتاجات المهمة، فيما يخص الوضع السياسي العراقي، قبل قيام الثورة.
الإستناج الأول هو،بالرغم من استمرار السياسية التسلطية منذ الانقلاب العسكري الذي قاده بكر صدقي عام 1936 ( ما عدا فترة قصيرة لحكومة توفيق السويدي عام 1946 )، وحالما تم تحدي القمع عام 1954، فأن الفئات السكانية الحضرية الناشطة سياسيا كانت قادرة، بسرعة، على تنظيم حملة سياسية، والالتزام بنشاطات وبخطاب سياسي متطور جدا.
الاستنتاج الثاني هو، أن أحزاب المعارضة كانت قادرة على تنظيم حملة انتخابية فعالة والحصول على مقاعد في مناطق إستراتيجية داخل أهم المناطق الحضرية في العراق.
الاستنتاج الثالث يكمن في أن الجبهة الانتخابية الوطنية ضمت في صفوفها القوى الوطنية والقوى القومية الوحدوية العروبوية. وكلا الطرفين أظهرا تضامنا فيما بينهما، بالرغم من الجهود التي بذلها الوحدويون العرب، سواء داخل النخبة السياسية أو من خارجها، لتخريب الجبهة.
إن هذه الحقائق لا تدحض فقط القول بأن عراق ما قبل ثورة تموز كان خاليا من أي عملية سياسية ديمقراطية، وإنما تشير، أيضا، إلى نمو أسس المجتمع المدني داخل أوساط الطبقة الوسطى الحضرية. إن انتخابات 1954 كانت دحضا للفكرة التي روج لها حكم قاسم، ومن بعده، نظاما حزب البعث على وجه الخصوص، والقائلة بأن الخراب والفوضى اللتين سببتهما السيطرة الاستعمارية، تحتمان بالضرورة قيام أنظمة عسكرية و/ أو حكم الحزب الواحد، quot;لحماية الشعبquot;.
وإذا كانت النتائج التي تمخضت عنها تلك الانتخابات، مؤثرة بهذا القدر الكبير، فأن ذلك بسب أن السلطات حاولت، بكل ما تملك من قوة، أن تقمع النشاط الانتخابي للجبهة الوطنية، وهو نشاط حظى بدعم واسع، ليس فقط في بغداد والموصل، ولكن، أيضا، في مدن أخرى، مثل النجف والحلة وداخل المنطقة الكردية، كمدينة السليمانية. وكانت مشاركة الجماهير بأعداد كبيرة وبمعنويات عالية في المسيرات التي كانت تقيمها الجبهة، قد جعلت تلك الانتخابات تصبح، ليست واحدة من الانتخابات التي جرت في أجواء حرة غير مسبوقة، وإنما، حولتها، أيضا، إلى واحدة من أكثر الانتخابات حيوية في تاريخ العراق الحديث. وكان شائعا في أيام تلك الانتخابات مشاهدة الأعلام المرفوعة على أسطح المنازل، دعما لمرشحي الجبهة الوطنية، ورؤية السيارات وهي تجوب الشوارع وتطلق من مكبرات الصوت، نداءات تحث المواطنين على التصويت لصالح مرشحي الجبهة الوطنية. إما مناصرو النظام الملكي فقد كان الرعب الشديد يتملكهم وهم يسمعون تلك الهتافات المنادية بإلغاء الإقطاع وتوزيع الأرض على الفلاحين (53).

مغزى الطعن الحكومي في شرعية مرشحي الجبهة الوطنية
وفيما يخص الصحف الموالية للنظام الملكي، فأنها هاجمت الجبهة الوطنية، بسبب ما اعتبرته إهمال الجبهة للقضايا العربية. وحتى تدعم وجهة نظرها، فان تلك الصحف أشارت إلى أن برنامج الجبهة الوطنية يخلو من أي أشارة لتحرير فلسطين. ولكن السبب الخفي لذاك الهجوم يكمن في أن مرشحي الجبهة الوطنية كانوا من الوطنيين العراقويين ( يتكونون، بشكل رئيسي، من شيعة وأقليات أخرى)، وبالتالي فهم، وفقا لتك الجهات المهاجمة، ليسوا وطنيين (patriots ) عراقيين حقيقيين. إن هذه النقطة الأخيرة تؤكد كيف أن النخبة السياسية الحاكمة وقتذاك ( مثلما فعل، بعد ذلك، حزب البعث) لجأت بسرعة، إلى إثارة النعرة الطائفية كوسيلة لإحداث انقسامات داخل المعارضة السياسية.
الأمر الثاني هو، أنه لأمر مهم أن نلاحظ أن حزب الاستقلال كان قد أنضم للجبهة الوطنية الانتخابية، بالرغم من سيطرة القوى الوطنية العراقوية عليها، ورفض الانسحاب، حتى وهو يتعرض إلى هجمات تطعن في مصداقية مواقفه القومية العربية. وعلى ضوء ما عرف من مواقف حزب الاستقلال الداعمة بقوة لقضية الوحدة العربية، فأن موقفه إزاء الجبهة الوطنية يكشف بأن التزامه الرئيسي كان، بالأحرى، منصبا على إجراء إصلاحات ديمقراطية. وباختصار، فأن ما أظهرته انتخابات 1954 هو، أن بإمكان القوى المختلفة ايدولوجيا أن تتعاون، حتى وهي تواجه ظروف ضاغطة.

لقد شجع النجاح الانتخابي الذي حققته الجبهة الوطنية على القيام بمحاولات أخرى في ميدان النشاط السياسي المشترك (54). وكان الموقف الوطني المعارض لقيام حلف بغداد عام 1955 حافزا مهما لقيام جبهة وطنية جديدة. وعندما حدث الغزو الثلاثي لمصر من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، بعد إقدام مصر على تأميم قناة السويس عام 1955، فأن ذلك الغزو كان بمثابة الحافز لإنضاج فكرة العمل السياسي المشترك لدى القوى السياسية العراقية. وبعد الانتفاضات المسلحة التي شهدتها مدينة النجف، التي تعتبر مهد الثورة، وكذلك في مدينة الحي، وما صاحب ذلك من تظاهرات في أنحاء العراق، دعما لمصر، والتي فشلت كلها في إحداث أي تغيير في السياسة المتبعة، فأن فكرة القيام بنشاط سياسي مشترك بين القوى الوطنية العراقية، بدأت تفرض نفسها بإلحاح. وكان لإحجام الجيش عن قمع تمرد مدينتي النجف والحي، أثرا حسنا لدى الأحزاب السياسية المعارضة، واعتبرته تطورا إيجابيا. وتبعا لذلك، أقيمت على الفور اتصالات بين الجبهة الوطنية وبين العناصر المعارضة داخل الجيش.
وهنا، مرة أخرى، لعب كامل الجادرجي دورا مركزيا في معارضة نوري السعيد والنخبة السياسية الحاكمة، وذلك للمعطيات التالية:
أولا، إن وجود الحزب الوطني الديمقراطي، كحزب سياسي مجاز قانونيا، أعطاه إمكانية قيادة العمل الجبهوي. إما بالنسبة لحزب الاستقلال فقد كان، بسبب ضعفه، غير مؤهل للقيام بدور قيادي. وفي ما يخص الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث، فقد كانا ما يزالان وقتذاك غير مجازين قانونيا.
ثانيا، أوضح الجادرجي، وبطريقة لا تقبل الشك، بأن الحزب الوطني الديمقراطي سيشارك في جبهة وطنية، لكن شرط أن تقاد بطريقة جماعية حقيقية. وفي الواقع، فأن إلحاح الجادرجي على وجوب رفض أي محاولة يقوم بها حزب واحد من أجل إخضاع الجبهة لتحقيق مصالحه الخاصة هو، بمثابة رسالة موجهة للشيوعيين، الذين كانوا قد انتقدوا، في بداية الأمر، جهوده لتشكيل جبهة وطنية.
ثالثا، أكد الجادرجي على ضرورة أن تضم الجبهة أكثر عدد من الأحزاب، وأن لا تقتصر العضوية فيها على أحزاب اليسار فقط.
وأخيرا، وهو أمر ذو دلالة مهمة، وعلى ضوء الانتقادات الأخيرة والقائلة بعدم إيلاء الوطنيين العراقويين اهتماما كبيرا بقضية الوحدة العربية، فأن الجادرجي شدد على وجوب اعتراف الجبهة بشرعية هذه القضية. (55).

قيام جبهة الاتحاد الوطني
حظي الإعلان عن تشكيل الجبهة، التي طبع برنامجها، سرا، الحزب الشيوعي، بترحيب حماسي في جميع أنحاء العراق (56). وإزاء إصرار الجادرجي، تم تشكيل قيادة جماعية للجبهة أطلق عليها أسم quot;اللجنة العلياquot;، ضمت في عضويتها الأحزاب الرئيسية الأربعة وهي، الحزب الوطني الديمقراطي، والحزب الشيوعي العراقي، وحزب الاستقلال، وحزب البعث (وبالإضافة لهذه اللجنة، كانت هناك لجنة تنفيذية ضمت في صفوفها، ليس فقط ممثلي الأحزاب الأربعة، وإنما، أيضا، ممثلين من أحزاب صغيرة وبعض الشخصيات المستقلة، وانحصرت مسؤولية هذه اللجنة بإقامة روابط مع التنظيمات المحلية، وتبليغ الجماعات الفرعية المنضوية للجبهة أينما كانت في العراق، بما يصدر من الجبهة من معلومات (57).
هناك من كان يجادل ويقول أنه أمام فشل سياسة الانتخابات البرلمانية، واستمرار القمع البوليسي، فأن البديل الوحيد للنظام الملكي هو، تدخل الجيش. إن رأيا كهذا يجعل الأمر يبدو وكأن الحركة الوطنية كانت قد وصلت، في نهاية الخمسينيات، إلى ذروة قوتها، وأن الجيش كان مجبرا، بحكم الواقع، للاستيلاء على السلطة. وإذا تابعنا هذا النمط من التفكير حتى نهايته القصوى، فأننا سنجد أنه كان أشبه بنبوءة حققت نفسها بإقامة الحكم التسلطي في العراق. وبكلمات أخرى، فأن مؤيدي التدخلات العسكرية التي حدثت في أعوام 1936 و 1941 و 1958 يجدونها أمورا لا بد من حدوثها، قائلين أن العنف الذي يطبع الممارسات السياسية في العراق، يحتم وجود حكم تسلطي يقوده العسكر.

دور المعارضة السياسية المدنية في التمهيد للثورة
إن الحقيقة التي يهملها أصحاب نظرية التدخل العسكري هي، أن تعرية النظام الملكي والطعن المتواصل لشرعيته من قبل الحركة الوطنية هي التي عبدت الطريق أمام استيلاء العسكر على السلطة في تموز 1958،وأن الفكرة نفسها، أي فكرة الاستيلاء على السلطة، كان العسكر قد استمدوها بفضل التحديات المتواصلة للحركة الوطنية ضد امتيازات الدولة. ففي أعوام 1936 و 1941 كان الجيش معارضا لجماعات بعينها داخل النخبة السياسية الحاكمة، لكن، من الناحية العامة، كان يرى نفسه جزءا مهما ومميزا داخل ماكينة الدولة. وفي الواقع، فأن الجيش لم يبدأ بالتفكير بإعادة تأسيس الدولة بشكل كامل أي إقامة نظام جمهوري، إلا بعد الهزيمة الفلسطينية عام 1948. وعلى أي حال، فأن وثبة 1948 التي نفذتها القوى الوطنية، وأفضت إلى سقوط حكومة صالح جبر، هي التي كانت وراء رواج الفكرة لدى ضباط الجيش بأنهم قادرون على الإطاحة بالنظام الملكي. وهذه النقطة ليست مجرد واحدة من التفاصيل التاريخية، وإنما هي مسألة مرتبطة بجدال أوسع، يتعلق فيما إذا كان الحكم العسكري، وبالتالي الحكم التسلطي، هو قدر لا مفر منه للدولة العراقية الحديثة.
إن المعلومات التي أميط اللثام عنها بعد الثورة تشير إلى أي مدى استطاعت فيه المظاهرات السياسية العامة المستمرة، في زعزعة أرادة النظام الملكي ومناصريه. فحتى رئيس البوليس السري، بهجت العطية، كان قد بين في تقرير سري، مباشرة قبل وقوع ثورة تموز، بأن الدولة تواجه عدوا متماسكا (58). وبحلول عام 1956، كان نوري سعيد قد فقد تماما ثقته بمعظم أفراد النخبة السياسية. وتبين تقارير أعدت قبل الثورة أن الوصي عبد الإله كان قد وطن نفسه على حدوث انقلاب وشيك يطيح بالملكية (59). وفي الواقع، عندما تم تطويق قصر الرحاب صبيحة 14 تموز، وبدأت الوحدات العسكرية الثائرة بإطلاق النار، فأن عبد الإله أمر حراس القصر بعدم الرد على مصادر النيران، وفضل أن يستسلم فورا، أملا في أجلاء العائلة المالكة خارج العراق (60).
إن الضغط المتواصل الذي كانت تمارسه القوى الوطنية، بالإضافة إلى الانقسامات داخل النخبة السياسية الحاكمة، بين إصلاحيين مثل فاضل الجمالي، وتسلطيين مثل نوري السعيد وعبد الإله، ساعدت كلها في تقويض السلطة السياسية، بتلك السهولة، إلى حد أن quot;النظام القديمquot; لفظ أنفاسه في 14 تموز 1958، دون أن تطلق سوى رصاصات معدودة. لقد كان واضحا أن الحركة الوطنية نجحت في بناء الأسس الضرورية، حتى لا نقول الأسس الكافية، لقيام الثورة.
ورغم أن الحركة الوطنية ما كانت، وقتذاك، قادرة على التحدث بصوت واحد، إلا أن مجرد تشكيل جبهة وطنية، تواجدت في قيادتها العناصر المعتدلة، وتحديدا الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال، أظهر أنه بالإمكان الاتفاق على تفاهمات وسطية حول التفسيرات الخلافية، بشأن نوع النظام السياسي المطلوب. وعلى أي حال، فأن المتطرفين الأكثر راديكالية، داخل الطبقة السياسية (الشيوعيون، ولكن البعثيين على وجه الخصوص) هم الذين يقفون وراء السياسة الحادة والتي تسببت لاحقا في إنتاج هذا المقدار من العنف والمعاناة للشعب العراقي. وبالإمكان القول، أيضا، أن الكثير من العنف الذي ترعاه الدولة، والذي طبع فترات حكم حزب البعث في 1963 و 1968، كان موجودا في نهاية فترة الأربعينيات وفترة الخمسينيات، ولكن بشكله الجنيني. فالإعدامات في الأماكن العامة، وتعذيب المعارضين السياسيين، ونزع الجنسية من بعض الشخصيات المعارضة، واستخدام الورقة الطائفية كوسيلة لتعميق الخلافات داخل الحركة السياسية، وفرض الرقابة على الصحافة والمطبوعات، وطرد الموظفين من وظائفهم، واشتراط الحصول على quot;شهادة حسن السلوكquot; كشرط لدخول الجامعات، وحكم البلاد بمراسيم جمهورية، بدلا من الاستناد على تشريعات وقوانين دستورية ثابتة، هذه كلها أمور كانت موجودة سابقا،وكل ما فعله البعث هو، أنه عززها وتفنن بها (61).

المثقفون العراقيون نشروا قيم التسامح والتعددية
ورغم أن الأفكار والمبادئ التسلطية كانت تعاني من تقهقر مستمر، بسبب اقترانها بتفاقم العنف السياسي والانتهاك الفظ لحقوق الإنسان، إلا أن هناك، أيضا، تطورات تشير إلى اتجاه معاكس. فقيم التسامح والتعددية الثقافية والمثل الإنسانية التي عكسها النتاج الثقافي التجديدي، بعد أن كان قد حقق خطوات جبارة، لم تجد طريقها إلى الحياة السياسية في حقبة ما قبل ثورة 14 تموز، إذ ظلت بعيدة عن روح التسامح والانفتاح والديمقراطية. ومهما يكن، فأن ذاك النتاج الثقافي ساهم حقا في تشكيل ذاكرة تاريخية، أصبح بمقدور القوى الديمقراطية العراقية الركون إليها في جهودها الهادفة إلى تغيير مجرى الحياة السياسة في عراق المستقبل. وبالإضافة لذلك، فأن النتاج الثقافي في تلك الحقبة، هيأ الأرضية لمزيد من التقدم في النتاج الثقافي بعد ثورة 1958. وحتى نعرف كم أن ذاك الإرث الثقافي مثل، واستمر يمثل تهديدا كامنا للأفكار الديكتاتورية، فيكفي أن نطلع على الجهود الحثيثة التي بذلها صدام حسين وحزب البعث لاستئصال هذه الذاكرة التاريخية.

لقد كانت مؤسسات الدولة إبان الأيام التي سبقت ثورة 1958، تعاني حال من الهزال. إذ، ما خلا الوصي على العرش، عبد الإله، ونوري السعيد ودائرة ضيقة من المؤيدين، والبوليس السري، فأن مؤسسات الدولة كانت تفتقر إلى بنية متماسكة. وكانت النخبة السياسية الحاكمة منقسمة على نفسها، بين إصلاحيين، وبين متشددين يرفضون مناقشة أي تغيير سياسي. أما فيما يخص الجيش، فقد كان موضع شك في مسألة ولاءه للنظام الملكي، وبالتالي ما كان بمقدوره الحصول على ذخيرة عسكرية، كالمدرعات والمدافع والأسلحة الصغيرة، بدون الحصول على رخصة واضحة ومحددة من نوري وعبد الإله. ورغم وجود العديد من المحامين الأكفاء البارزين في عراق ما قبل الثورة، إلا أن القانون ما كان يطبق بعدالة واستقامة، وخصوصا في الحالات السياسية حيث كان البت فيها يأتي من القصر ونوري.
ورغم افتقار الدولة الملكية إلى ما يسميها غرامشي quot; خنادق المجتمع المدنيquot;، وهو مصطلح يعني به غرامشي، الدعم الذي يحظى به quot;قلبquot; الدولة من قبل دفاعاتها الخارجية كالنظام التعليمي والنظام القضائي والديني، إلا أن تلك الدولة كانت قد خطت، بالفعل، خطوات مستمرة باتجاه بناء وعي سياسي وذاكرة تاريخية. وبخصوص هذه النقطة، أظهرت تلك الدولة بعض الحساسية فيما يتعلق بحاجتها إلى نشر أشكال من التفكير العام تمتاز بالتجانس.
وأحد تلك الأمثلة هو الوصف الرسمي للعراق الذي أجترحه النظام الملكي في عام 1939.وبحلول شهر أيار/ مايو عام 1953، ظهرت للوجود مديرية الدعاية العامة، التي نشطت في وزارة الداخلية (62). وفي عام 1939 ظهرت quot;مجلة الجيشquot;، التي أخذت على عاتقها مهمة نشر الفضائل العسكرية، والتأكيد على دور الجيش في التطور الاجتماعي والدفاع عن حياض الوطن، ثم أسس الجيش مطبعته الخاصة به، بهدف تعريف الناس بquot;القضايا العسكريةquot; (63). وفي هذا الصدد يرى ستيفن هامسلي لونغرنك Stephen Hemsley Longring بأن النظام الملكي العراقي استطاع بوقت قصير أن يشكل وزارة الإرشاد، خلال فترة الخمسينيات، والتي أصبحت تسمى رسميا عام 1958، وزارة الإرشاد والإعلام (64).
إن الإقدام على خلق مؤسسات إعلامية تكون وسيلة يتمكن السكان بواسطتها التمعن في التاريخ والثقافة والسياسة، يعد مؤشرا إلى التأثير الذي كانت تمارسه الحركة الوطنية وقتذاك. وفي الواقع، فأن لجوء الدولة إلى استخدام البروباغاندة/ الدعاية، كان استجابة للتحديات الوطنية التي كانت تواجهها وتهدف إلى نزع امتيازاتها، أكثر من كونه إستراتيجية دافعها التجديد. وعندما أقدمت الدولة على تشريع قانون العمل عام 1936، رغم أنه استثنى العمال الزراعيين، فأن ذاك القانون كان بمثابة اعتراف ضمني من الدولة بالقوة المتزايدة للحركة العمالية، وخصوصا القوة التي مثلتها النقابات والاتحادات، والتي تعود بداية تأسيسها إلى عام 1924 (65). وحتى تعديل القانون الذي تم عام 1944 والذي سمح للعمال بالتنظيم، وبعد ذلك، أي عام 1954، بحسم نزاعات العمال مع الإدارات، وتحديد حد أدنى للأجور، التي كانت قد ارتفعت مرة ثانية عام 1957، إنما كان، أيضا، بمثابة اعتراف بالقوة السياسية المتنامية للعمال في بعض القطاعات الصناعية.
وبدون شك، فأن تشريع قانون الضمان الاجتماعي في عام 1956 الذي تم تطبيقه في القطاعات الحكومية، وفي القطاع الخاص، وفي صناعة النفط، كان انعكاسا للأهمية الإستراتيجية للقانون، وتجسيدا لتنامي قوة العمال التي ساهمت في إظهاره للوجود،مثلما كان انعكاسا لذات الديناميكية المتمثلة في مجاراة القوى الوطنية التي بدأت تشكل تهديدا واضحا للدولة. (66).

يتبع القسم الأخير

52-بطاطو والدليمي يؤكدان بأن الجبهة الوطنية فازت بأحد عشر مقعدا. إما السفير الأميركي السابق فالديمار غالمان Waldemar Gallman فيدعي بأن الجبهة فازت بأربعة عشر مقعدا، ولكن حميدي يرى أن العدد الأجمالي هو عشرة مقاعد، بضمنهم كامل الجادرجي وذنون أيوب. أنظر: حميدي، التطورت والأتجاهات السياسية، 93. بطاطو، نفس المصدر،686. الدليمي، نفس المصدر،183 وأيضا:
Gallam, Iraq Uder General Nuri: My Recollections of Nuri al-Said,1954-1958(Baltimore,Md.:Johns Hopkins Press, 1964) 4.
53- Gallam,Iraq Under General Nuri,4. Batatu, The Old Social Classes,686.
- 54نفس المصدر،761.
55- نفس المصدر،759.
56- حميدي، التطورات والاتجاهات السياسية،293.
57- لمعرفة الجبهة الوطنية والاطلاع على برنامجها، راجع:
Batatu, The Old Social Classes,758-63.
حميدي، التطورات والاتجاهات السياسية،236-42
الدليمي،كامل الجادرجي،179. والملاحظ أن بطاطو وحميدي والدليمي يتفقون بأن محمد حديد وفؤاد الركابي كان يمثلان الحزب الوطني الديمقراطي، بالنسبة للأول، وحزب البعث بالنسبة للركابي، ولكنهم عندما يصلون إلى من كان يمثل الحزب الشيوعي وحزب الأستقلال في الجبهة، فأنهم يختلفون. بطاطو يذكر أسم عزيز الشيخ ممثلا للحزب الشيوعي ومحمد مهدي كبة عن الأستقلال، بينما يؤكد حميدي والدليمي ان جمال الحيدري كان يمثل الشيوعي وصديق شنشل ممثلا عن الاستقلال.
58- حميدي، التطورات والاتجاهات السياسية، 345-48.
59- لمزيد من التحليل لشخصية عبد الأله في سنواته الأخيرة كوصي على العرش، راجع: التكريتي، الوصي عبد الأله.
60- Alie Kedourie, Arabic Plitical Memories and Other Studies (London: Frank Cass,1974),181.
61 ndash; Yousif, quot;Vanguardist Cultural Practicesquot; 200-201. أيضا: حميدي، التطورات والاتجاهات السياسية، 313.
62- المديرية العامة للدعاية، العراق اليوم (بغداد: وزارة الداخلية، 1963).
63- نفس المصدر، 47. كانت مجلة الجيش توصف بأنها quot;مصدر ليبرالي تزود المعارف العسكرية في مجالات مختلفةquot;.
64- Stephen Hemsley Longrigg and Frank Stoakes, Iraq (London: Ernest Benn, 1958), 78.
65- نفس المصدرة 168-69.
66- الإضرابات العديدة التي شهدها القطاع النفطي، بما في ذلك إضراب كركوك عام 1946 الذي استمر لفترة طويلة واتسم بالعنف، بينت أهمية وحدة العمال، وقدرتهم في إلحاق أضرار في صناعة النفط العراقية، والتي تعتبر المصدر الرئيسي للدخل العام. أنظر بحثنا:
quot; Utopia From Below: The Inclusionary Discourse of the Iraqi Working Classquot;,paper delivered at the Rutges Centre for Historical Analysis, Rutgers University, Mar.22, 2000.