كان طقسا غريبا، ذلك الذي يحدث في بيتنا، لم يعتد عليه أو يسمع به أحد. يتلخص في زيارة جدي القابع منذ سنوات لاعلم لي بها في سرداب بيتنا. وهي زيارة تتكرر في أزمان مختلفة.
لم يكن الشوق إلى أولاد أو أحفاده هو مايدفع جدي على الظهور، بل كان يخرج في كل مرة ليردد نفس السؤال، وليعود بعده بهدوء وسكينة إلى سردابه ليظل فيه سنوات وسنوات.
رغم مرور سنوات على غيابه في كل مرة إلا تقاسيم وجهه لم تكن تتغير، وكأن الأعوام عاجزة عن وضع بصماتها على وجهه الذي ظل يحتفظ بنفس السحنة التي نزل بها إلى السرداب.
كان يبدو كما ذكر لي أبي ذلك، بأن الزمن لا يملك سلطانا على جدي الذي سمعت عنه كثيرا، ولم أره إلا مرة واحدة.
كان جدي هو الذي يختار زمن ظهوره في كل مرة من السرداب، بعد أن يزور والدي في حلمه. لم يكن مكان اللقاء إلا بيتنا بغرفه الواسعة، وشجرة الزيتون التي تتوسطه، وسطحه الذي يقرب منا السماء والنجوم في ليال الصيف، بحيث تبدو السماء أكثر ألفة وألقاً.
على الرغم من وجود معظم أفراد الأسرة في اللقاء الغرائبي من الأبناء والأحفاد، إلا ان سؤال جدي في كل زياراته لم يكن يتغير قط،ويظل للحظات ينتظر في كل مرة بشرى سارة طال انتظاره لها، لذلك لم يكن يسأل خلال اللقاء القصير عن أحوال أبنائه وأحفاده، بل يظل مهووسا بالعثور على جواب لسؤاله الذي لا يتغير رغم تقادم السنين.
كان أبي يوصيني بالسكوت والصمت وعدم البوح أو الكشف لكائن من كان عن الزيارات السرية لجدي، خوفا من أن نتهم بالجنون. وكان يقول، ان مايجري هو اكبر من أن يستوعبه ذهن حمد،الفار من العسكرية، او زاير، الذي يوصل بسكره الليل بالنهار، او الحاج لطيف المهووس بحكايات الجن والعفاريت، أو نعيمة الدلالة التي لا تجيد إلا نقل أسرار البيوت إلى نساء الحي الثرثرات، أو العسكري أبو نادية، المطرود من الخدمة بسبب رشوة، والمستعد للوشاية حتى على أخيه في سبيل أن تعود النجمات العسكرية للمعان فوق كتفيه اللتين هدهما الحزن على أمجاده الضائعة.
لم أجد جوابا لسؤال ظل قابعا في ذاكرتي، ماالذي يدفع جدي في كل مرة للخروج من السرداب ليلقي بسؤاله الذي لا يتغير؟..وماالذي سيجديه من الجواب الذي كان يتغير في كل زيارة عكس سؤاله الثابت؟..رغم ذلك ظل جدي مصرا وبإصرار أكثر من ذي قبل على سؤاله الذي أعتاد أن يسأله بعناد وإصرار.
لم أكن أعلم بعمر جدي بالضبط، ولا أسباب غيابه في سرداب بيتنا الكبير. كان يخرج ويعود إليه وكأنه طيف حلم أو شبح. لم يكن يسأل إلا سؤالا واحدا لا يتغير:
ـ هل استقر العراق؟
حدثني أبي بأن وجه جدي ينضح بالحكمة والمهابة،وبأن بداية الطقس الغرائبي هذا بدأ عندما
خرج لأول مرة من سردابه الذي اختفى فيه، بعد شهور من اغتيال العائلة المالكة، وسأله:
ـ هل استقر العراق ياولدي؟
قال له أبي في حينه:
ـ عبدالكريم قاسم، سيبني عراقا جديدا، لا مكان فيه للمستعمر يا أبي!
أشرقت ابتسامة مثل نهار ندي على وجهه المرهق، وهو في طريق العودة إلى السرداب.
بعد اغتيال عبدالكريم قاسم في إذاعة بغداد، وعندما أوشك فيه أن يتبين الخيط الأسود من الخيط الأبيض، جلس جدي قبالة أبي وسأله:
ـ هل استقر العراق ياولدي؟
ـ عبدالسلام عارف يعد بعراق مزدهر يا أبي!
أشرقت ابتسامة صافية ورائقة على وجهه، وهو يتوجه بخطى متفائلة إلى مستقره.
عاد جدي بعد سنوات في ليلة كان القمر فيها بدرا.سعل قليلا، وقال متأملا النجوم التي كانت تلمع كعناقيد فضة في السماء المظلم.
ـ هل استقر العراق ياولدي؟
ـ عبدالرحمن عارف خلف أخيه الذي احترق في الطائرة التي كانت تقله..وهو يعد بعراق هاديء، بعيد عن المشاحنات السياسية يا أبي!
هبط جدي سلالم سردابه مبتسما، متفائلا كالعادة.
لم يطل غياب جدي كثيرا، سرعان مابشر أبي أفراد العائلة ببشرى زيارته لنا في قيظ تموز، حيث كانت المسامير الكبيرة على باب الخشبي لبيتنا على وشك أن ينصهر من شدة الحر.
ـ هل استقر العراق يا ولدي؟
ـ أحمد حسن البكر يا جدي يبشر بعراق جديد، وبعهد للحرية والكرامة.
شعت كالعادة الابتسامة على تجاعيد وجهه، وهو يتسلل بهدوء إلى السرداب.
عاد جدي يعد سنوات متلهفا، ينظر إلى وجه أبنائه وأحفاده.
ـ هل استقر العراق يا ولدي؟
ـ صدام حسين أصبح حاكما للعراق.. نأمل خيرا يا ابي!
ارتاحت أسارير وجهه وعاد بهدوء من حيث أتى.
في زيارته الأخيرة حدق في وجهي طويلا. أحسست بنوع من التوتر. كان في وجهه الذي ينتظر البشرى منذ عقود، سحنة الحكماء والشيوخ الذين خبروا الحياة والدهر. كنت أود ان احتضنه أو يحتويني بحنو بين ذراعيه. لكنه لم يفعل، بل اكتفى بسؤاله الثابت الذي لم يتغير رغم تغير الأيام والمواسم والسنوات.
كانت قد مرت سنوات على احتلال العراق، لسبب لا أدريه، كان يحدق في وجهي هذه المرة. وهو يردد سؤاله المعتاد:
ـ هل استقر العراق يا ولدي؟

12/1/2008
السابعة والنصف صباحا