ناعور يملأ جراره بالماء الثقافي الاجنبي
الادباء العراقيون يستذكرون يوسف عبد المسيح ثروت
عبد الجبار العتابي من بغداد:
بين صورة كبيرة له علقت على المنصة وكتبه التي انتشرت عليها وبين عائلته واصدقائه ومحبيه، استذكر الادباء العراقيون زميلهم الراحل يوسف عبد المسيح ثروت قريبا من ذكراه السنوية التي تصادفالثامن عشر من كانون الثاني، في اصبوحة حضرها حشد من الادباء والاعلاميين، بعد مرور اربعة عشر عاما على رحيله، وهي المرة الاولى التي تتم فيها اقامة احتفائية له، وكانت صورته ترسم ملامح عتاب تارة ومحبة وشكر للذين تذكروه، كأن رأسه تهتز للذين يعاينونها، قدم الاصبوحة الناقد علي الفواز الذي قال في مقدمته ان الراحل تعرض الى الاهمال حتى ممن تقربوا اليه من كتبه المترجمة او مؤلفاته وتعاملوا مع نصوصه كما يتعاملون مع وثائق سرية، واضاف: كان يوسف مترجما متميزا، وعصاميا ويذكرنا بالكاتب العربي عباس محمود العقاد الذي بدأ عصاميته ليخلق له مكانة في الثقافة المصرية، كان يوسف يملك الكثير من القدرات لكي يترك اثرا نحن بدأنا نعيده ونتلمسه داخل العقل العراقي والثقافة العراقية، ثم سرد جزء من سيرة حياته قائلا: ولد يوسف ثروت عام 1921 في ديار بكر (تركيا) قبل ان تتشقق الجغرافيا الى دول، جاء الى العراق عام 1925 وسكن بعقوبة في قرية الهويدر، تخرج من دار المعلمين وصار نقيبا للمعلمين في مدة حكم عبد الكريم قاسم، توفي عام 1994، واكد الفواز: اننا نحتفي بالذكرى الرابعة عشرة لرحيله علما انه لم يذكر منذ وفاته حتى اليوم، لذا آثر اتحاد الادباء على استذكاره وفاء ومحبة.

بعده تحدث حازم نوري لموزة نيابة عن عائلة الراحل وهو ابن اخته قائلا: (انني لا انوي التحدث عن يوسف عبد المسيح ثروت ناقدا مبدعا او كاتبا بليغا ومترجما بارعا غزير الانتاج بكافة تلكم المجالات، بل اتحدث عن الفقيد كونه انسانا شديد الحساسية بانسانيته، كان يرى الاشياء دائما بمنظور ما يخدم الانسان اولا والانسان بالمفهوم المطلق بعيدا عن اي اعتبارات طائفية او عرقية او سياسية او طبقية، كان يحب الناس بشكل عميق وحقيقي بعيدا عن اي تزلف او تصنع، يجالس الناس جميعا، تجده في المقاهي في وقته المخصص وحوله هالة من الناس، جمع جميل ومتباين احيانا في الاعمار والثقافات وكان يحبهم جميعا بلا استثناء، يوسف عبد المسيح ثروت كان معلما في بعقوبة، يحب مدرسته الى حد العشق ويحب تلامذته الى حد الموت، كان يتفانى في تدريسهم، كان شديدا ورقيقا في آن واحد، لايعرف اللين في الخطأ ولا يعرف التعسف مع جيل الشباب الناهض والذي يبني كل الامال العراض عليهم )، واستطرد لموزة في حديثه وسط اصغاء هادئ للكلمات الطالعة وهي تتحدث عن الفقيد: ( ابا عمار كان يعشق النخيل والنهر، كان يحب طول قامة النخلة وعنفوانها، عاش بين ظهراني نهر خراسان الذي يشق بعقوبة الى نصفين، وديالى التي تحتضن وتروي بساتينها الجميلة، كان يحب الخصب والنماء والحياة، كان يحب اللون الاخضر لانه لون اشجار الليمون والبرتقال ولون سيقان النخيل والسنديان وهامات الناسالتي تكدح لتسوية اراضي البساتين ليأكل الناس الرمان والتين، كان يحب الخمر والتمر، كان يتغزل في الكأس حين يشربها ويضحك ويمرح في جلسته المسائية بعد عناء العمل، كانت حياته جميلة متناقضة، كان يشتغل يوميا عشر ساعات تقريبا وهو جالس في غرفته يقرأ ويكتب ويترجم حتى في عز الصيف، كانت له صومعته الخاصة، غرفة مبنية في مؤخرة الدار يجلس فيها ويقرأ والعرق يتصبب من جبينه، كان يمسح جبينه بمنشفة صغيرة ويستمر في العمل وكانت اداة التبريد لديه مروحة سقفية فقط ولا يحب التبريد الاصطناعي (المبردات) ويقول دائما: ان الجو الطبيعي هو افضل شيء ) واذهب المتحدث يسرد نتاجات الراحل العديدة ونيله لشهادة تقديرية عن المركز العراقي للمسرح وتحمله لمسؤولية مجلة (الثقافة الاجنبية) للسنوات العشر الاخيرة من حياته، وفي ختام كلمته شكر الاتحاد والفريد سمعان والذين اسهموا في الاحتفالية.

ثم تحدث الدكتور عقيل مهدي عميد كلية الفنون الجميلة الذي قال: كلمتي تحمل عنوان (المسرح وآلة الترجمة الجهنمية عند يوسف عبد المسيح ثروت ) قال في مطلعها: (ما حسبت يوما ان يوسف سيموت مثل سائر الخلائق فجأة، لاننا كنا طلابا فنراه مثل شارع المتنبي او جامعة بغداد او اتحاد الادباء وخان مرجان، اثرا شاخصا، نتلقف كتاباته المترجمة لكي تهدينا في دروب السرح التي دلفنا اليها توا بلا طوق نجاة سوى ما نتعلمه من بعض اساتذتنا وما نطلع عليه في مجلة المسرح المصرية والاصدارات الشحيحة الاخرى )، واستطرد عقيل في حديثه مقتربا منه:(كان الرجل القصير الذي ينغم الكلام في انفه قبل فمه وغير المعتني بهمدامه مأخوذا بسليقة الترجمة او هو عبارة عن ناعور يملأ جراره بالماء الثقافي الاجنبي ليحيي الاراضي البور ويجعلها سهوبا خضراء )، ومضى يواصل حديثه (لم نتبادل الحوار مرة وجها لوجه لكنه كان مأخوذا بعراقيته وبتقدميته وبحبه للمسرح العراقي بلا حدود في جميع ندواته ومقالاته، كانت ماركسيته، كما يخيل لي، مشوبة بأخلاط (ليبرالية)، ولم تؤخذ من مرجعها السوفيتي،بل ترشحت من موشورات غربية، فتراه منقسما بحبه، كما ازعم، للعبث واللامعقول واللاالتزام بعنوانات ماركسية اختزالية مثل الحياة، المجتمع، الطبقات، التاريخ، يسدلها كستارة تخفي شغفه بالطروحات المسرحية الحديثة التي يراها قد دهمت العالم بأسره ونحن العرب عنها غافلون حتىوان كان مصدرها الغرب البرجوازي نفسه او اميركا، وربما تطرف، كما احدس، في ترجماته بعيدا عن الترجمة الحرفية احياتا بمداخلاته الشخصية وثقافته الخاصة باستنطاق النصوص على غير ما كانت عليه، ولا اظن ان هذا يدخل في نطاق (الخيانة) قدر تعبيره عن حرصه في تنوير قارئه )، وبعد ان اسهب الدكتور عقيل في شرح ملامح علاقة ثروت بالمسرحيات العامية والمسرحيين العالميين ونقوده لها وتأثراتها عليه قال: (يوسف عبد المسيح ثروت يشكل وحدة سردية في مشهد النقد المسرحي العراقي بمكنونات وعيه المتناقضة اذا اخذت من الخارج لكنها منسجمة داخليا بديناميكيتها وانفتاحها على الجديد المتحرك وكان من ابرزها الخطاب الماركسي ومن ثم الوجودي والعبثي والنفسي، حين تراه.. تراه مثل راهب هرطوقي ومن زاوية نظر اخرى يبدو وكأنه (تحريف) تبادلت فيه المرجعيات الثقافية الشمولية امكنتها فأختلط صخب النظريات وعنفها بهدوء العقل وصفائه).

ثم اعتلى المنصة الدكتور صلاح القصب وبهدوء تقطرت كلماته التي راح يلفظها على المسامع، قال: (نقف امام عقل ثقافي، امام تواصل حضاري مع العالم، يوسف.. كان صوتا حضاريا، كان صوتا مستقبليا استطاع ان يشكل حوارا ثقافيا مع قارات هذا العالم وان يدخل فنا مركبا صعبا هو المسرح، استطاعت ثقافة هذا الانسان الكبير ان تشكل مدخلا بالنسبة لنا على مستوى المعرفة والتواصل والحضارة التي هي مدخل الترجمة، هي تواصل مع اجيال وحضارات وثقافات متعددة في المسرح هذا الفضاء المعقد بتلك الاسئلة والمداخلات المتعددة والذي يشكل حضورا ما بين الان والماضي والمستقبل، مابين هذه الاومنة الثلاثة استطاعت رؤى المترجم المثقف الحضاري يوسف ان تتداخل وان تلتقط ماهو محرك وماهو يشكل نبضا بالنسبة الى المسرح، لذلك المسرح العراقي والثقافي والتاريخ المسرحي المضيء يقف بجلالة لهذا الامبراطور الثقافي الذي كان لايمك الا تلك الحقيبة الثقافية التي فيها عمق ثقافي) واضاف الدكتور القصب في ختام كلمته قائلا: (انا كمسرحي ومن خلال اصةات المسرحيين واجيال المسرح الممتدة والمتواصلة مع كل ماهو حضاري ومتقدم اقف اجلالا ومحبة لهذا الانسان الكبير).
واختتم حميد عطوي الكلمات المستذكرة لسيرة الفقيد وثقافته متحدثا عن بعض الكتب التي تختص بالمسرح التي ترجمها الراحل واهميتها للجيل وافكاره حول بريخت التي وجد فيها الراحل ظاهرة متكاملة تتناسب مع الادوار التي قام بها في وضع الاسس لكيان مسرح عالمي جديد، مشيرا الى ان يوسف ثروت كان من المتابعين الحريصين للعروض المسرحية وشكل حضورا مع مجموعة من زملائه في الوسط المسرح.

ومع تحلق العيون حول صورة الراحل ووجوه عائلته عاد الفواز ليدعو وزارة الثقافة العراقية لاعادة طبع كتبه او ان تدعو الجهات المعنية بأمانة بغداد الى تسمية شارع باسمه وتدعو وزارة التعليم العالي والبحث العلمي لتسمية احدى القاعات باسمه، مشيرا الى: اننا نسعى الى ان نضع الاثر في مكانه وبقدر الاهتمام بالاحياء علينا الاهتمام بالمتحف الثقافي الذي يؤرخ حضارة الانسان، اذ لايمكن للدولة ان تتعزز بالامن والسياسة فقط بل بالثقافة.