في ذكرى رحيله الـ 24

نصر جميل شعث من غزة: أذكر أنّ أوّل قصيدة ألقيتها من على منبر الإذاعة المدرسية، وأنا تلميذ في المرحلة الإعدادية ndash; أي وأنا محسوب في جيل انتفاضة الحجارة - كانت قصيدة quot;المدينة المحاصرةquot; لكبير شعراء quot;الايدولوجيا الشيوعيةquot; والمقاومة الفلسطينية، الشاعر الفلسطيني الراحل معين بسيسو. دون أن أكون على علم بأني سأصبح أكتب وأتذوّق الشعر وأدرك خطورة الأيدولوجيا ولغة المقاومة، وأخطار البكاء المباشر ومديح الظلّ التسجيلي على جوهر الشعر بصفة خاصة!
قصيدة quot;المدينة المحاصرةquot; كنت نسختها بيدي، آنذاك، من مجلد الأعمال الكاملة الضخم الصادر لدى دار العودة للشاعر الراحل، والذي رُسم وجهُه المعروق على ورقة الغلاف.

وقبل أيام قلائل، من هذا الشهر يناير2008، كنت بعثت، عبر الايميل، للشاعر الفلسطيني ماجد أبو غوش، المقيم برام الله المحتلة، بصورة فوتغرافية لي التقطها أحدُ الأصدقاء في غزة المحتلة؛ فيما كنت ألقي قصائد في أمسية شبابية أقيمت، بمبادرة روح الشباب الجسور، على هامش هلع وخوف الناس من الجوع وانقطاع الكهرباء في quot;مدينة غزة المحاصرةquot;. الشاعر أبوغوش ردّ يقول: لا أعرف لماذا تذكرني هذه الصورة بمعين بسيسو؟.

وبعد ذلك بأيام قلائل، أيضًا، وفيما كنت أعود مريضًا، يرقد في مشفى ناصر (نسبة لجمال عبد الناصر)، بمدينة خانيونس، جنوب قطاع غزة المحاصر؛ إذا بمدرّس اللغة العربية الذي طلب مني، وقت كنت تلميذًا، أن أقوم بإلقاء قصيدة quot;المدينة المحاصرةquot;؛ يقابلني في أحد ممرات جناح الباطنة، كان معروقَ الوجه، أيضًا، ومنهكًا من مرضٍ لم أحبّذْ سؤاله عنه في شبابي الآن. كانت يده ملفوفة بشاش أبيض من عند الوريد، وعلى وجهه ابتسامة الحياة. أورد مقطعين من قصيدة quot;المدينة المحاصرةquot; للشاعر معين بسيسو:

البحر يحكي للنجوم حكاية الوطن السجين
والّليل كالشحّاذ يطرق بالدموع وبالأنين
أبواب غزة وهي مغلقة على الشعب الحزين
فيحرّك الأحياء ناموا فوق أنقاض السنين
وكأنّهم قبر تدقّ عليه أيدي النابشين
هذي هي الحسناء غزة في مآتمها تدور
ما بين جوعى في الخيام وبين عطشى في القبور
ومعذّب يقتات من دمه ويعتصر الجذور
صور من الإذلال فاغضب أيها الشعب الأسير
فسياطهم كتبت مصائرنا على تلك الظهور.

هذه لغة البكاء والمقاومة التي تبناها بسيسو في شعره ومسرحه جعلت منه أبًا كبيرًا لـquot;شعراء الأيديولوجياquot; وquot;شعراء المقاومةquot;. حيث كان مسؤول الحزب الشيوعي في مدينة غزة التي ولد فيها بتاريخ 10 تشرين الأوّل (أكتوبر) 1926. ومات خارجها، عن عمر يناهز 57، في أحد فنادق لندن، إثر نوبة قلبية حادة بتاريخ 23/1 /1984. حيث لم تكتشف وفاته إلاّ بعد حوالي 14 ساعة.. فهناك وجد، كما يقول الكاتب رشاد أبو شاور، quot;نائمًا ويده ممدودة إلى سماعة الهاتف في مشهد جامدquot;. وقد دفن في القاهرة بعد أن لم تسمح سلطات الاحتلال الإسرائيلي بدفنه في غزة. وكان تلقى معين بسيسو مراحل تعليم في كلية غزة عام 1948، قبل أن يلتحق بالجامعة الأمريكية في القاهرة، ويتخرج منها في 1952 من قسم الصحافة والأدب. ثم يعمل في الصحافة، ومدرّسًا في العراق الذي غادره في 1953، بسبب بعض النشاط السياسي في عهد نوري السعيد، حيث عاد لـ غزة ليعمل في التدريس من 1953 حتى 1955.
في غزة برز دوره الحزبي السياسي والثقافي الأدبي. إذ لمع نجمه كشاعر الحزب الشيوعي والمقاومة في فلسطين. ولكنه أضطر لمغادرة غزة عام النكسة 1967. وهناك عمل في جريدة quot;الثورةquot; السورية من عام 67-69، كما عمل في quot;الأسبوع العربيquot; القسم الثقافي من عام 71-74.
وقد خرج ناظم أشعار المقاومة الفلسطينية: محمود درويش، من كـُمّ معين بسيسو الابن المدلّل لياسر عرفات؛ قبل أن يزيحه الموتُ من الساحات والمكانات الثلاث الحزبية، الثقافية والسياسية؛ ويأتي بدرويش، ليملأ الفراغات كشاعر حزب وناظم أشعار المقاومة والسياسة ومتمتعًا بالدلال، ذاته الذي تمتع به بسيسو، من عرفات.

بسيسو أحد رواد المسرح الفلسطيني المكتوب:
إلا أن ما يمكن أن يقال في معين بسيسو أنه رائد من رواد المسرح الفلسطيني المكتوب. إذ ساهم بمسرحياته المكتوبة بخلق مسرح فلسطيني مكتوب بجودة ملحوظة.
في ذكرى مرور حوالي ربع قرن على غياب بسيسو، يرى الكاتب والأكاديمي الدكتور أحمد أبو مطر الذي جمعته بالراحل معرفة ولقاءات كثيرة به قبل حصار بيروت عام 1982 وخلاله وبعده، حتى وفاته..؛ يرى quot;أن غالبية الدراسات التي كتبت عنه ركزّت على أعماله الشعرية، وهي تستحق أن تعالج، إلا أنّ أعماله المسرحية لم تنل نفس الاهتمام. لذلك، يرى أبو مطر، أنه من المهم دراسة مسرحياته هذه تحديدًا: مأساة جيفارا، ثورة الزنج، شمشون ودليلة، الصخرة، محاكمة كتاب كليلة و دمنة. فمن يتفرغ لدراسة هذه المسرحيات ضمن منهج و سياق واحد يوضح رؤية الشاعر للعديد من المواقف، لأنها إضافة لرؤيته من خلال أشعاره.
وكان نشر معين بسيسو أولى قصائده عام1946 في مجلة quot;الحريةquot; اليافوية. إذ دخل مخاض العمل الوطني مبكرًا. في 27 كانون الثاني (يناير) 1952 نشر ديوانه الأول quot;المعركةquot;. وأمضى عدة سنوات في المعتقلات المصرية بين فترتين: الأولى من 1955 إلى 1957 والثانية من 1959 إلى 1963. كان غزير الإنتاج. ففي الشعر كتب: ( المعركة. المسافر. حينما تمطر الحجار. مارد من السنابل. الأردن على الصليب. فلسطين في القلب. الأشجار تموت واقفة. قصائد على زجاج النوافذ. جئت لأدعوك باسمك. آخر القراصنة من العصافير. الآن خذي جسدي كيساً من رمل. القصيدة.( وفي النثر كتب بسيسو: نماذج من الرواية الإسرائيلية المعاصرة ( 1970) يوميات غزة - غزة مقاومة دائمة (1971(، أدب القفز بالمظلات) 1972)، دفاتر فلسطينية ( 1977 )، مات الجبل، عاش الجبل ( 1976)، الاتحاد السوفيتي لي (1983)، الشهيد البطل باجس أبو عطوان، 88 يوم خلف متاريس بيروت (1983(. وكتب في جريدة الثورة السورية تحت عنوان quot;من شوارع العالمquot;، في جريدة فلسطبن الثورة تحت عنوان quot;نحن من عالم واحدquot; ؛ فضلا عن مقالاته العديدة في مجلة quot;الديارquot; اللبنانية، ومجلة quot;الأسبوع العربيquot; اللبنانية ومجلة quot;الميدانquot; الليبية. وعمل في أسرة في تحرير جريدة quot;المعركةquot; التي كانت تصدر في بيروت زمن الحصار مع مجموعة كبيرة من الشعراء و الكتاب العرب. وكتب عدة مسرحيات منها: ثورة الزن. شمشون ودليلة. شي غيفارا. العصافير تبني أعشاشها بين الأصابع. كليلة و دمنة. ترجمت آثاره إلى العديد من اللغات الانجليزية والفرنسية والألمانية والروسية، و لغات الجمهوريات السوفياتية أذربيجان، أزباكستان و الإيطالية و الإسبانية و اليابانية والفيتنامية و الفارسية. كان مسؤولاً كبيرا للشؤون الثقافية في الأمانة العامة للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين. وكان عضوًا في المجلس الوطني الفلسطيني.