محمد الحمامصي: منذ سنوات تجاوزت العشرة قرأت ديوانه (قبل الحرب بعد الحرب) فأدهشني حسه الراقي باللغة وصفاء ونقاء رؤيته، فكتبت عنه دراسة نشرتها وقتها بمجلة البيان التي يصدرها اتحاد الكتاب في الكويت، والآن يأتي إليّ ديوانه (شامة ليل) متوهجا بنفس الدهشة،اختلفت اللغة وبقي الرقي واختلفت الرؤية وبقي الصفاء والنقاء، وعلي الرغم أنه بين هذين العملين ثمة عملين آخرين هما (خزانة الأهل ـ سيرة الجدران) و(حديقة الغرباء)، للأسف لم يتح لي قراءتهما كاملين، لكني أستطيع التأكيد علي أن التجربة قد حققت نضجا جليا تمثل في ثقل المفردة المعرفي رغم بساطتها، وانتقال ذلك إلي تركيبة الجملة التي جاءت مكثفة ومحكمة والتحامها بالحالة الشعرية لهذا النص أو ذاك، وهذا أعطي للرؤية اتساعا جماليا وفنيا، لكن الأهم برأيي من هذا وذاك هو سيطرة روح حميمة تملك القدرة علي أن تلبس روح القارئ فلا يستطيع الفكاك من أثر شفافيتها في التعامل مع مفرداتها المستلهمة من الحياة، ربما تكون هذه قراءة شاعر لشاعر، لكني أبدا لا أقرأ تحت سيطرة الشعر ولكن أقرا كقارئ عادي، علي أية حال أدهشني الديوان الأخير كما أدهشني الديوان الأول للشاعر السوري حسين درويش الذي ينتمي إلي جيل الثمانينات، ووجدت في الديوان بالفعل ما يستحق التوقف عنده وتأمله. وأول ما يمكنني تأمله باعتبارها يرمي بثقله علي تجربة الديوان هو المكان، المكان هنا ليس مجرد مدينة أو قرية أو بيتا أو سقفا أو جدران أو حديقة أو غصنا أو أبواب فحسب، وإنما أيضا هواء نتنفسه حركة ونقبض عليه ونتلمسه أنفاسا وعطرا وظلالا وعشقا وغربة، هذا المكان حيّ في ذاته وفي زمنه سواء كان ماضيا طفوليا أو عيابا للحبيبة أو بحثا عن الحلم، وحيّ كجزء من نسيج التجربة بكل تفاصيل زمنها الماضي والحاضر والمستقبل، وهو يتبادل مع الشاعر أحاسيسه في حضورها وغيابها، في بحثها عن الحب في حضوره أيضا وغيابه.. يقول الشاعر:
كل مفاتيحك التي جربتها.. تثلّمت
كل أبوابك التي طرقتها.. صدتني
كل همساتك التي أسمعتني
نسيت وقع أنفاسي
شبابيك التي لوّحت لي
عيونك التي صعّدت قامتي
بحارك التي ملحت راحتى
سفنك التي شتّتت جزري
حقولك التي قلمت طفولتي
ها أنذا أراها
من ثقب الباب
تسهر قرب روحي
ليلة إثر ليلة

ويقول:
شامتك القديمة
الباقية هناك منذ سنين
كم غفت وحيدة
قرب حائط الكلس
لربما جاء أحد ما
من أغنية قديمة
وأيقظتها ذات ليل..
الأمر الثاني في هذا الديوان تراوح التجربة بين زمانين زمن الطفولة الذي يحن إليه الشاعر بحثا عن أحاسيس نقية وصافية وبريئة من خلال ذكرياته، ويمكن التدليل علي ذلك بأكثر من نص في الديوان، وزمن يدخله أو دخله بالفعل وهو الآني والمستقبلي حيث يبدو إحساس الشاعر بالعمر عاليا دون أن يكشف عن ذلك الزمن صراحة ولكنه يتجلي واضحا في قلقه وصراعه مع مفردات حياته، وأيضا في مقابلته بين الزمنين الطفولي والآني المستقبلي، يقول:
كلما تقابلنا
عيوننا خارج الزمان
مائدتنا غريبة كمهاجر آسيوي
علي الأطراف
يتساقط منها الوقت
ويموت علي حوافها
عشب حدائق الصباح.

ويقول في قصيدته (عطرها):
العطر الذي تركته
علي مخدتي
كان كافيا
لأحلم بعودتك
كل يوم
لتمشّطي وحدة أيامي
أيامي التي تسيل
نعاسا علي دروب
الضجر..

وقوله:
كأس ماء قرب السرير
مساحين الزوجة
قبل النوم
لفائف الشعر
الأغطية السميكة
لجسدين أنهكهما النهار
أغطية بيضاء
تليق بمنتصف العمر
نصف كأس ماء قرب السرير

أيضا من الملفت في هذا الديوان هو هذه القدرة الفائقة للشاعر علي تشكيل صورة بثراء بصري وسمعي وحسي وذوقي جامعة بين تقنيات الصورة التراثية والحداثية، حيث تتمتع الصورة بالحركة والحيوية والقُدرةٍ على الانزياح بالمدلولات عن دَوَالِّها، صورة يمكن تلمسها وتحسس روحها وجسدها دون أن تفقد عطاءها الدلالي والموسيقي والجمالي.
هذه الصورة ليست منفصلة عن طزاجة اللغة وحميمية مفرداتها، ولا عن حميمية الأماكن والأزمنة، ولا عن توترات الشاعر وأحلامه، لذا هي تمثل خصوصية النص كاملا يقول الشاعر:
ياسمينها
ياسمينك مرّ بالباب
عندما كنت أطرق حوائط البيت
بحثا عن شال يرفّ خلف حديقتك
حيث يجتمع الغرباء
بثيابهم الضيقة
وقبعاتهم المخرمة
يلوحون لظلال ثيابك
خلف النافذة.
ويبقي النص مفتوحا قابلا للعطاء الدلالي والجمالي والفني عبر الدرس النقدي.

ديوان: شامة ليل
الشاعر: حسين درويش
الناشر: رياض الريس للكتب والنشر
الطبعة الأولي ديسمبر 2007