قصة قصيرة:


quot;العاشق يلدغ من الجحر ألف مرةquot;
من رسالة مراهق انتحر

لمست أطراف أصابعه لحيته الشعثاء.. شعر بالشرخ الذي يعبره يمتد أكثر.. لم يجد ما يعكس صورته التي أهملتها نفسه فهملت.
quot;التوبادquot; الذي يسكنه يتصدع باستمرار.. امتد خيط دمه السائل عبر الزمان، واستبد به شوق إلى ماض كان من صنع خياله.
قطع حبل تفكيره ماء قذر.. لم يكن مطرا فالسماء عقرت منذ أمد ولم يستجب لدعاء المؤمنين وصلوات الاستسقاء المتكررة ولا حتى للقرابين وحضرات الدراويش المتواصلة.
أهل شقة في العمارة تخلصوا من الماء القذر إذن ورموه كعادة البدو دون حساب لأحد.
-ماذا تحمل في كيسك القذر يا قذر؟
-hellip;hellip;hellip;hellip;
لكمة الشرطي أسقطته أرضا.. أفرغ محتوى الكيس.. لم يجد إلا تراكمات عصور الانحطاط المتوالية هندسيا وصولجانات طغاة عصر الدينصورات المتجدد وتنائن الكلس والملح.
-أين وثائقك؟
-أي وثائق؟
-hellip;hellip;hellip;
بعد أن صفعه عدة مرات تركه أرضا.. حمل أشياءه وبقيت خيوط دمه تدل على طريقه بسهولة تامة.
شعر برغبة في فعل شيء ما.. أفكار غامضة تزاحمت في رأسه.. حاول رمي تلك البوتقة بأكملها في بحر اللامبالاة.. مشى طويلا إلى وجهة لا يعلمها.. قرأ في واجهات بنايات غريبة بخطوط مختلفة: -هنا يباع كل شيء- أكل خفيف وأشياء أخرى- للأزواج فقط.
عندما شعر بألم في معدته تذكر الأكل.. فكر كثيرا دون أن يتذكر آخر مرة أكل فيها.. سحب أذياله عندما قرأ في واجهة: quot;أكلhellip;hellip;hellip;quot; ولم يستطع إكمال الجملة الطويلة.
همسات خافتة وخلائق غريبة توزعت أزواجا في أرجاء القاعة.. لم ينتبه أحد لوجوده في بداية الأمر.. بقي مذهولا عاجزا عن فعل أي شيء.. السكوت حوله إلى quot;توبادquot; جامد.
سمع كلمة قتلت السكون الذي بداخله:
-أقبلي يا ليلى hellip;hellip;
التفت إلى مصدر الصوت.. يشبه صوت أنثى بملامح غريبة.. لم يشعر عندما باغته الكلام
-أين ليلى؟
قال مصدر الصوت: quot;من أنت؟quot;
ثم أضاف ساخرا: quot;هل أنت قيسquot;؟
-نعم أنا قيس.. قيس بن الملوح.
-أنت عشيق ليلى إذن.. إنها هناك.
هرول باتجاه الإشارة.. التفت فجأة.. شعر بحبل يكبل ذاكرته.. تلعثمت دورته الدموية وأصبحت دقات قلبه مسموعة لديه.. شيء في عينيها سمم نظرته.. شعر بملوحة في عينيه ثم ببلل في لحيته الشعثاء.
-من أنت أيها الدرويش؟
-ليلى؟.. سحر عينيك فقط يشدني إليك.. ماذا حصل لك؟.. ما هذا الزي الذي أنت عليه؟
وانهمرت الأسئلة العفوية بتردد دموعه.. فلم تجد ليلى ما تجيب به.. أرادت الصراخ لكن جليسها الغارق في الضحك منعها من ذلك، ثم سألها:
-هل هو قريبك؟
-قريبي؟ ما هذه الإهانة؟.. أنا من عائلة راقية، لا نعرف مثل هذه النماذج.. إنه مجنون لاشك في ذلك.
عندما سمع قيس هذه الكلمة قال: quot;نعم أنا مجنون وأنت السبب.. فكل القبائل تعرفني باسم quot;مجنون ليلىquot;.. هل نسيت وقت كنا في quot;التوبادquot;
-وما هوquot;التوبادquot; هذا؟..هل هو اسم فندق؟. اعرف كل فنادق رتبة خمسة نجوم.. شيراتون.. هيلتون.. سوفيتال.. لا شك في أنه فندق حقير يلجأ إليه الفقراء القذرون من أمثالك.
أخذ الأزواج المنتشرون في الضحك.. شعر قيس بضيق في دمه.. تحولت ثورة ليلى إلى سخرية معلنة.. أمرت النادل أن يطعمه على حسابها الخاص.. أخذ شيئا من الأكل وتساءل عن اسمه
-همبورغر الاختيار الأخير.. وهذا أحد محلات ماكدونالد ذائعة الصيت عالميا.. لا تحاول الدخول مرة أخرى إلى مثل هذه الأماكن وإلا تمزق جسدك ضربا وأخذت إلى مستشفى الأمراض العقلية.
أخذ قيس قطعة الهمبرغر تلك.. قربها من فمه.. سقطت من يديه.. لم يحاول أخذها.. جر أذيال اليأس والحسرة واتجه صوب الضياع وقد ارتسم في ذاته التوباد كئيبا.
أحس بأن التوباد الذي يسكنه يتصدع أكثر.. قطعة منه حبست أنفاسه.. منعته من البكاء.. اختنق صوته.. غرق في التيه.. نسي ما كان يفكر فيه..
عيناه الجاحظتان رسمتا شبحا غريبا.. لم يأبه به.. تقدم منه الشبح وسأله:
-أين يسكن علاوة الموسطاش؟
-hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;
-لا حول ولا قوة إلا بالله.. الجنون انتشر في البلاد بشكل غريب.. استرنا يا رب.
ابتعد السائل وواصل قيس الغرق أكثر في تيهه.. قاموس مفرداته ضاع ولم يبق منه إلا ليلى والتوباد.
حمل كيسه بعنف وكأنه خائف من الظلام الذي أنسحب في صمت.. الأضواء التي أشعلت لم يرها.. تحول يومه إلى ليل متواصل.
عندما خانته قوته انزوى في زقاق ضيق وأسلم جسده للأرض الباردة..
لم يدم قعوده طويلا.. تقدم منه أشخاص بزي موحد غريب.. أحاط به ثلاثتهم..
قال أحدهم: -كنت من البداية أشك في أمره.
وقال الثاني: -إنه شخص خطير.
وأضاف الثالث: -لقد استغفلنا هذا الذي يدعي الجنون.
أخرجوا سلسلة حديدية.. ربطوه بها.. سحبوه أرضا..لم يبد أية حركة ولم يتفوه بأية كلمة.. مضوا به إلى وجهة مجهولة.
عندما طلعت الشمس على المكان كان الكيس مرميا على الأرض.. لم يتقدم منه أحد.. خاف الكل من أن يكون مفخخا.
عند منتصف النهار تقريبا تقدم شاب مغامر إلى الكيس.. وفتحه فلم يجد إلا أوراقا مكتوبة بخط عربي لكن معانيها غير مفهومة، وفي ورقة منفردة كتب quot;وصيةquot;، وتحت الكلمة عبارة مختصرة تقول: quot;إذا ضم جسدي قبر فاكتبوا على شاهده: مات العشق بعدهquot;

[email protected]