النظرية رمادية يا صديقي:

منير بولعيش من طنجة: في إحدى رسائله إلى أحد أصدقائه كتب لينين يقول: (النظرية رمادية يا صديقي، لكن الحياة شجرة خضراء) قد تكون هذه الحكمة و رغم السياق المختلف الذي تتحرك فيه و كتاب تزفيطان تودوروف الأخير: (الأدب في خطر)، هي الخلاصة الأساسية التي قد نخرج بها من ترحلنا بين فصوله، خاصة إذا ما تسنى لنا أن نستبدل (شجرة الحياة) الخضراء ب(شجرة الأدب) الأكثر اخضرارا و خلودا على الرغم ما قد يجمع بل و يوحد بينهما (الحياة و الأدب) من ترابطات و قواسم مشتركة، أوليس الأدب في إحدى تجلياته هو حياة أخرى.
الكتاب الذي صدرت مؤخرا ترجمته باللغة العربية (ترجمة عبد الكبير الشرقاوي) عن دار توبقال للنشر في 63 صفحة من القطع المتوسط، يتكون من سبعة فصول أساسية (اختزال عبثي للأدب- ما وراء المدرسة ndash; نشوء علم الجمال الحديث ndash; جماليات عصر الأنوار ndash; من الرومانسية حتى الحركات الطليعية ndash; ماذا يستطيع الأدب ndash; تواصل لا ينفد) فصول قدم لها تودوروف بتمهيد حكى فيه قصته مع الكتب التي عاش في وسطها منذ طفولته، بفضل والديه اللذان كانا يشتغلان قيمين على مكتبة، و هو ما سهل عليه التعلم السريع للقراءة و الكتابة و بالتالي تمكنه من قدرة النفاد إلى عوالم الكتاب و المبدعين، و على الرغم من هذا فإن محاولاته المتكررة لكتابة الرواية أو المسرح... كانت دائما ما تبوء بالفشل، و إن كان الأمر لم يزعزع يقينه أبدا في أن (الكلام عن الكتب) سيكون مهنته، لكن و في بلد يسود فيه النظام الكلياني مثل بلغاريا و حيث التعليم يقاس(بمقياس التوافق مع العقيدة الماركسية اللينينية) كان من الصعب على تودوروف تحقيق آماله في دراسة تلائم طموحه، لذا كانت فرصة السفر إلى مدينة الفنون و الآداب: باريس و تجاوز(الستار الحديدي) من أجل استكمال تعليمه العالي، نقطة جوهرية في حياته رغم صعوبة البداية و تعثراتها التي ستنتهي بمجرد التقائه بجيرار جينيت و رولان بارث، اللقاء الذي سيكون حاسما في إنعاش آماله في المسار الدراسي الذي كان قد حدده لنفسه سلفا، و هو ما سمح له بتطوير فهمه الخاص للأدب و فتحه بالتالي على الدراسة و البحث التأملي إلى جانب القصائد و الروايات و القصص و الأعمال الدرامية و التفاعل معها.

اختزال عبثي للأدب:

في الفصل الأول من هذا الكتاب، سيحكي تودورف كيف أنه و بمرور الزمن اكتشف أن الدور الرفيع الذي كان يوليه للأدب، لم يكن الجميع يعترف به، فقد أحس و قد صار أبا أنه ما عاد بمقدوره البقاء لا مباليا لنداءات الغوث التي يبعث بها أطفاله عشية الإختبارات، لكنه أخذ يشعر بالكدر و هو يرى أن توجيهاته لأبنائه غالبا ما تنتج عنها درجات دون المتوسط، لذا قرر إعادة قراءة واقع التعليم في فرنسا و ليكتشف أن الهدف الأول للدراسات الأدبية اليوم، صار هو التعريف بالأدوات التي تستخدمها تلك الدراسات، فقراءة القصائد و الروايات لم يعد يسوق إلى التفكير في الوضع الإنساني و الفرد و المجتمع و الحب و الكراهية و الفرح و اليأس... بل للتفكير في مفاهيم نقدية تقليدية أو حديثة، حيث لاحظ أن المدرسة لم تعد تتكلم عن ماذا تتحدث الأعمال الأدبية و إنما عن ماذا يتحدث النقاد، لهذا السبب يؤكد تودورف على أنه لنوع من غياب التواضع لدى المتخصصين و النقاد و الأساتذة أن يقوموا بتدريس نظرياتهم عن الأعمال الأدبية بدل الأعمال الأدبية ذاته، لأنه يجب أن يكون هناك نوع من اليقين، من أن روسو و ستندال و بروست سيظلون خالدين لزمن طويل بعد أن يكون النسيان قد طوى أسماء المنظرين الراهنين أو تشييداتهم المفاهيمية، لكونهم (أي النقاد) يبقون حسب وجهة نظره مجرد أقزام تعتلي أكتاف العمالقة، لهذا فهو يخرج بخلاصة تتركز حول أن الطريق الذي يسلكه التعليم الأدبي اليوم، سيسوق نحو طريق مسدود من الصعب عليه أن يقود إلى عشق للأدب.

ما وراء المدرسة:

في مستهل الفصل الثاني من كتاب (الأدب في خطر) يطرح تودوروف هذا السؤال (كيف حدث أن صار التعليم المدرسي للأدب على ما هو عليه؟) و بعدها سيشرع في تقديم لهذا السؤال بإجابة بسيطة تتمحور حول أن هذا الأمر يعكس في الواقع تحولا في التعليم العالي، و هو التحول الذي حدث في الستينات و السبعينات من القرن الماضي تحت راية البنيوية التي شارك هو نفسه فيها و هو ما يجعله يتساءل إن كان ينبغي له أن يحس بنفسه مسؤولا عن حال المادة التعليمية اليوم؟
يقول تودوروف أنه حين قدم إلى فرنسا في مطلع الستينات، كان الطلبة أصحاب الرسائل الجامعية بدل أن يتساءلوا طويلا عن معنى الأعمال الأدبية، يقيمون جردا شاملا لكل ما يحيط بها: سيرة المؤلف، النماذج الأصلية الممكنة لشخصياته، الإختلافات بين نسخ و روايات العمل الأدبي، ردود الفعل التي أثارها عند المعاصرين، و كان يحس بالحاجة لتعديل هذه المقاربة بمقاربات أخرى و لهذه الغاية عمل مع جيرار جينيت على إعداد (شعرية) أو دراسة خصائص الخطاب الأدبي، و يرى أن المقاربة الداخلية ينبغي أن تكون مكملة للمقاربة الخارجية لكن الهدف النهائي يظل هو فهم معنى الأعمال الأدبية، لذا كان قصده هو إقامة توازن بين الداخلي و الخارجي كما بين النظرية و التطبيق، لكن الأمور لم تجر كما خمن، حيث إن روح ماي 1968 التي لم تكن لها في ذاتها صلة مع توجهات الدراسات الأدبية قد قلبت البنيات الجامعية و غيرت عميقا التراتبيات القائمة و لم تتوقف عند نقطة توازن بل ذهبت بعيدا جدا في الإتجاه العكسي، و ليصل الوضع إلى ما هو عليه اليوم، حيث يتعلم تلاميذ الثانوي العقيدة القائلة بأن الأدب لا صلة له بسائر العالم و يدرسون علاقات عناصر العمل الأدبي فيما بينها وحدها، و هو ما يسهم في انعدام الإهتمام المتزايد لهؤلاء التلاميذ بالشعبة الأدبية، حيث يجد طلبة الآداب أنفسهم في نهاية مسارهم الدراسي أمام خيار مرعب يتمثل في أن يتحولوا بدورهم إلى أساتذة أو يسجلوا أنفسهم في لائحة العاطلين.
و في آخر هذا الفصل يتساءل تودورف، إن كان هو بدفاعه عن الأدب على حساب النظرية النقدية يرى أن تدريس المادة التعليمية ينبغي أن يتوارى تماما لصالح تدريس الأعمال الأدبية؟ قبل أن يعود ليجيب بالنفي، لأنه يعتقد أنه ينبغي لكل من الأدب و النقد أن يجد الموضع اللائق به، حيث من الجائز في التعليم الجامعي تدريس المقاربات و المفاهيم المستخدمة و التقنيات، أما التعليم الثانوي غير الموجه للمختصين في الأدب بل للجميع، فمن الأولى به تدريس الأدب لا الدراسات الأدبية.

نشوء علم الجمال الحديث:

أما في الفصل الثالث، فقد تطرق فيه تودوروف إلى مناقشة الأطروحة التي ترى أن الأدب ليس مرتبطا بعلاقة ذات دلالة مع العالم و بالتالي فالحكم عليه ليس له أن يأخذ بالحسبان ما يقول لنا عن ذلك العالم، فهو يرى أنها ليست من ابتكار أساتذة الآداب اليوم، و لا إسهاما للبنيويين لأنها ذات تاريخ طويل مواز لتاريخ ظهور الحداثة، و من أجل فهم أفضل لتلك الأطروحة و التمكن من النظر إليها من خارج قام باستحضار أهم مراحلها الرئيسية بإيجاز: بداية يرى تودوروف أنه ينبغي القول إن العلاقة بالعالم الخارجي مؤكدة بقوة فيما يسمى بالنظرية الكلاسيكية للشعر، و بعض عبارات القدماء الممثلة لهذه الفكرة ستحفظ و تكرر إلى أن تملها الأسماع حتى و إن ضاع المعنى الذي وضعه فيها مؤلفوها، و هي أن الشعر محاكاة للطبيعة و أن وظيفته هي المتعة و الفائدة، فالعلاقة بالعالم موجودة سواء من جهة المؤلف الذي ينبغي له معرفة حقائق العالم كي يقدر على محاكاتها أو من جهة المتلقي الذي يجد فيها متعة لكنه أيضا يستمد منها دروسا قابلة للتطبيق على سائر حياته، و عندما سيتحرر الشعر من هذه الوصايا سيعاد ربطه على الفور بالمعايير القديمة و سيطلب منه انطلاقا من عصر النهضة أن يكون جميلا لكن جماله نفسه يتحدد بحقيقته و إسهامه في الخير، قبل أن تأتي العصور الحديثة لتقوم بزعزعة هذا التصور بطريقتين مختلفتين، تقوم الطريقة الأولى على إعادة إضفاء القيمة على صورة قديمة: الفنان _ المبدع، الشبيه بالله المبدع و الطريقة الثانية لفصم أي صلة بالرؤية الكلاسيكية تقوم على القول بأن هدف الشعر ليس محاكاة الطبيعة و لا الإفادة و الإمتاع بل إبداع الجمال، و يرى الباحث أن الثوري في هذه الطرح هو أنه يؤدي إلى التخلي عن منظور الإبداع من أجل تبني منظور التلقي الذي ليس له من جهته سوى اهتمام واحد: تأمل أشياء جميلة، وهذا التحول أفضى إلى نتائج متعددة أولها أنه يفصل الفن عن الفاعلية التي لم يكن ذلك الفن إلا درجتها العليا، و أشار تودوروف إلى أن تدريس الآداب في فرنسا يوضح هذا التحول، فبينما كان هذا التدريس حتى أواسط القرن التاسع عشر يعلم الطالب كيف يكتب فإنه انطلاقا من تلك اللحظة قد تبنى مبدأ أن نتعلم كيف نقرأ، و النتيجة المباشرة لهذا أن الفنون قد عزلت عن سياق إبداعها و أن الحركتان اللتان حولتا في القرن الثامن عشر مفهوم الفن، توضحان علمنة العالم المتزايدة في أوروبا مع إسهامهما في قدسنة جديدة للفن.

جماليات عصر الأنوار:

و فيما يتعلق بهذا الفصل، فقد تطرق فيه تودوروف للتجليات التي أخذها فهم الفن في عصر الأنوار، حيث يرى أن علم الجمال في عصر الأنوار و الذي يمثله بدرجات متفاوتة: شافتسبري، فيكو، باومكارتن، ليسينغ، كانط، جيرمين دي ستال، بنجامان كونستان، استطاع أن يحافظ على توازن غير مستقر، فهو من جهة قد حول مركز ثقل المحاكاة إلى الجمال و أكد استقلالية العمل الفني، و من جهة أخرى لم يلغي تماما العلاقة التي تربط الأعمال بالواقع لأنها تساعد على معرفته و تؤثر بدورها فيه، و حين الإنتقال من منظور الإنتاج إلى منظور التلقي تتقوى المسافة التي تفصل العمل الفني عن العالم الذي يتحدث عنه ذلك العمل و يؤثر فيه، ففي هذا العصر صار مطلوبا إدراك العمل في ذاته و لذاته و هذا التطور الذي حصل في فهم الفن يراه تودوروف مرتبط بالتحول العميق الحاصل في المجتمع الأوروبي في تلك الحقبة، ذلك أن روح عصر الأنوار هي روح استقلال الفرد و الفن الذي يظفر باستقلاله يسهم في تلك الحركة نفسها و حيث يصير الفنان تجسيدا للفرد الحر و عمله الفني يتحرر بدوره باعتبار أن الجمال منزه عن الغرض و في الآن ذاته هو رمز للأخلاقية باعتبار أنه لا يمكن إثبات الجمال موضوعيا لأنه صادر عن حكم الذوق الذي يكمن في ذاتية المتلقي، و بعبارة أخرى فإن هذا العصر كان عصر الفن للفن بامتياز.


من الرومانسية حتى الحركات الطليعية:

أما بالنسبة للفصل الخامس، فقد قام فيه تودوروف بتقصي تطور فهم الفن انطلاقا من العصر الرومانسي و حتى الحركات الطليعية، حيث رأى أن علم الجمال الرومانسي الذي سيظهر انطلاقا من مطلع القرن التاسع عشر لم يأت بقطيعة متميزة، حيث ظل الفن في رأي الرومانسيين الأوائل معرفة للعالم و إذا كان ثمة جديد فهو في حكم القيمة الذي يصدرونه على مختلف صيغ المعرفة و تلك التي يمكن بلوغها عن طريق الفن تبدو لهم متفوقة على صيغة المعرفة العلمية، غير أنه ينبغي التذكير أنه في اللحظة ذاتها التي ظهرت فيها الرومانسية كان نفوذ العلم قد أخذ في النمو بطريقة مذهلة، و لهذا السبب لم تلق الدعوة الرومانسية صدى مؤيدا لها في المجتمع المعاصر، و يرى تودوروف أن القطيعة الحاسمة لم تحدث إلا في مطلع القرن العشرين و هي ناتجة من جهة عن تأثير أطروحات نتشة الجذرية التي تضع موضع السؤال الوجود ذاته للوقائع معزولة عن تأويلاتها و وجود الحقيقة أيا كانت، و انطلاقا من هذه اللحظة لم يعد طموح الأدب للمعرفة غير مشروع فحسب، بل يجد خطاب الفلسفة و العلم نفسه موسوما بنفس الإرتياب، لكن الباحث يلاحظ أنه و بهذا الشكل فإن هؤلاء المنظرين يتعرضون للسقوط في النزعة الواحدية المميزة للجمالية الكلاسيكية التي كانت تريد تفسير كل شيء بواسطة مبدأ واحد هو المحاكاة، ما عدا أن المبدأ الجديد الوحيد الآن يسمى الجمال، و هو ما عمل على توسيع الهوة بين الأدب الجماهيري الناجح تجاريا و بين أدب النخبة الحريص على المزايا الفنية الخالصة، لكن التصور الجديد سيظهر لدى الحركات المسماة طليعية في مطلع القرن العشرين، مع بدايات التجريد في الرسم و الإبتكارات المستقبلية في الشعر، فقد كان لمذابح الحرب العالمية الأولى تأثير مزدوج على الممارسات الفنية كما على الخطابات النظرية التي تقوم بتحليلها، ففي الأنظمة الكليانية ستوجد إرادة لتسخير الفن في خدمة مشروع يوتوبي و سيستجيب عدد مهم من الفنانين لهذا المطلب الخادع، لكن و في ذات الوقت و في أماكن أخرى سيتم خوض معارك ضد أي تطاول على استقلالية الفرد و سيتم التأكيد على أن الفن و الأدب لا يقيمان أي علاقة ذات معنى مع العالم، و سيخلص تودوروف في الأخير، إلى أن نهاية القرن العشرين و مطلع الواحد و العشرين تميزت بالتعايش السلمي بين الإيديولوجيات المختلفة و أيضا بين تصورات عن الفن متباينة سواء من المذاهب المثالية أو المذاهب الحريصة على الجماليات الإنسية لعصر الأنوار.


ماذا يستطيع الأدب:

في الفصل السادس من كتاب (الأدب في خطر)، عمل تودورف على البحث عن الدور (أو الأدوار) التي يمكن أن تناط غالبا بالأدب، حيث يرى و على الرغم من أنه لم يعش درامية ما عاشه بعض الأدباء و لا غنى حياة البعض منهم، لا يستطيع الإستغناء عن كلمات الشعراء و حكايات الروائيين، لأنهم بحسب رأيه يتيحون له أن يمنح شكلا للإحساسات التي يعانيها و ترتيب سيل الأحداث الصغيرة التي تشكل حياته، و لأن الأدب أيضا يستطيع أن يمد لنا اليد حين نكون في أعماق الإكتئاب و يقودنا نحو الكائنات البشرية الأخرى من حولنا و يجعلنا أفضل فهما للعالم و يعيننا على أن نحيا، و لهذا يرى تودوروف أن القارئ العادي الذي يستمر في البحث ضمن الأعمال التي يقرأها عن ما يمنح معنى لحياته هو على صواب ضد النقاد و الأساتذة الذين يقولون أن الأدب لا يتحدث إلا عن نفسه.
بعدها عرج تودوروف للحديث عن الفروقات بين الأدب والفلسفة و بينه و بين العلم، حيث يرى أن الأدب مثل الفلسفة فكر و معرفة للعالم النفسي و الإجتماعي، لكن الواقع الذي يطمح الأدب إلى فهمه هو التجربة الإنسانية أما الفلسفة فتعالج المفاهيم و تنحو نحو التجريد الذي يتيح لها صياغة قوانين عامة، أما فيما يخص الإختلافات الموجودة بين الأدب و العلم، فقد ذهب تودوروف إلى أن خطاب رجل العلم الذي يطمح إلى حقيقة المطابقة و يتخذ شكل الإثبات بوسعه الخضوع لفحص فوري و سيتم تفنيده أو تأكيده و لو مؤقتا و هذا عكس الأدب إذ أن المتلقي ليس في حاجة للإنتظار لمدة طويلة ليعرف إن كان المؤلف قد نطق بالحق أم لا.
و يختم تودوروف هذا الفصل بوجوب تشجيع فعل القراءة بكل الإمكانيات المتاحة، بما في ذلك الكتب (الشعبية) التي ينظر إليها النقد بتعال و احتقار.

تواصل لا ينفد:

و بخصوص الفصل الأخير من هذا الكتاب، فقد عاد فيه تودوروف للحديث عن الأفق الذي يندرج فيه العمل الأدبي، عن تلك العوالم الخلاقة التي ندخلها عندما نصطدم بنص أدبي، و من أجل توضيح هذا الأمر ارتأى أن يعود للإستشهاد بمراسلة عن الأدب و الحقيقة و الأخلاق بين جورج صاند و فلوبير، باعتبار أن هذان الكاتبان صديقان جيدان حتى و إن كانا لا يتفقان في وجهة نظرهما في الفن و الأدب، فجورج صاند كانت دائما ما تعيب على فلوبير أنها لا تستطيع أن تجده في أعماله التي يكتبها و أنه لا يفسح مجالا في أعماله لكائنات مثله، فيما كان فلوبير يتصرف كأنه ينتظر وجودا أفضل في عالم آخر و هو ما يتجلى بشكل واضح في كلامه مع عشيقته لويز كولي: (الحياة لا تطاق بشرط أن لا نوجد فيها)، و رغم الخلاف بينهما إلا أنهما مع ذلك ndash; كما يرى تودوروف - يتفقان على أن الأدب يطمح قبل كل شيء إلى شكل من الحقيقة، و هي النقطة التي سيخلص منها إلى أن الأدب (يتيح فهما أفضل للوضع الإنساني و يحولّ من الداخل كينونة كل واحد من قرائه) و هو ما تحتاجه الناشئة المتعلّمة اليوم، لأن التعليم يتوجه إلى كل الأطفال و عبرهم ينتقل إلى الكبار، لذا فهو يرى أنه من الواجب البحث عن المعنى في الأدب لأنه هو الأساس، و لا يهم الطريقة التي نصل بها إلى هذا(المعنى)، بشرط أن تظل هذه الطرائق و المناهج مجرد وسيلة لا غاية في حد ذاتها.