فى مساء يمضى على عجل، أحاول التشبث بأخر شعاع للنهار بلا جدوى. لقد مروا من هنا جميعا قبل وصولك بدقائق. لا تنتظر أحد. هل سيعودون ثانية؟ ألم يتركوا أية رسالة معك؟ ألم يقل أحد منهم شيئا؟ ولكن لا أحد منا يعرف عنهم أكثر مما قيل لك. ذهبوا جميعا من هنا، رأيناهم؛ بلا قبعات، بلا تحية، بلا رائحة، فقط تغير الظل من يمينى إلى يسارى، فقط تغير النادل، عندما ناديت على برهان قالوا لى: وردية برهان انتهت يمكن تنادى على خليل. لم التفت إلى خليل. هذه المائدة تتسع لرجل متوتر ومهمل وسيجارة هى الأخيرة فى العلبة. مائدة فى منتصف المقهى، بيضاء، بلا مقعد، وشاب ينظر إليها على عجل ويبحث حولها عن مقعد ملائم. يزفر دخان لا يلائم المشهد. ينظر إلى لوحة تمر مثل رجل على موعد بقطار أو غيمة يدعوه للجلوس: تعال نحكى قليلا إلى أن يأتى أحد. على شرط ألا تهز قدمك كلما تحدثنا. عندما تريد أن تعترض على أمر ما قل ببساطة: أنا لا أوافقك الرأى. عندئذ أعرف أنك ستوافقنى فى المرة القادمة. تقول العمق! لا أنه لا شىء. أنه السطح مرة أخرى. لا يوجد هناك عمق. هذا السطح يلتف إلى سطح، يفضى إلى سطح، يدفع إلى سطح ..وهكذا إلى ما لانهاية. العمق أبدية، العمق شرك. كنت أعتقد أن هناك عمق، ولكن كلما أردته لا أصطدم إلا بالسطح فأعود من جديد متوهما أن هناك عمق، ما يوجد هو السطح. قلت لك لا تنفث دخانك فى وجهى، أنه يؤذى عينى. آسف لم أقصد ولكنى أفكر فيما تقوله؛ فى يوم من الأيام سأصير شخصية عظيمة، سوف أصنع أفلاما، وكل مواعيدى سوف تكون فى باخرة راسية على ضفة النيل. أنت تنتقل بنا إلى مشهد آخر لم يستعد إليه أحد. هل تريدنى ان أصرخ فى وجه مهندس المناظر، ومدير التصوير، إلى منظر آخر، منظر آخر أولاد القحبة لقد قرر السيد المؤلف أن ننتقل إلى بيئة أخرى، إلى النيل. من أية جهة تريدنا؟ نحن لا نملك إلا جهة واحدة. إلى هناك، أنصبوا خيامكم وأشعلوا نيرانكم واستعدوا للمشهد القادم. قلت أن مواعيدى فى باخرة راسية على ضفة النيل. عليك أن تتخيل الآن أن هناك نيل، وعندما يحضر ستأتى البواخر والمراكب تباعا ومن تلقاء نفسها. أنت كاتب فعليك أن تخترع المشاهد وعلينا نحن تصويرها، سوف نحتفظ لك بكل الصور، سوف نعلقها على جدار غرفتك ونكتب أسفل كل الصور ملخص المقابلة. فى هذه الصورة يقف الكاتب مع المخرج فى لحظة تأملية إستعدادا للمشهد الآتى، وفى هذه الصورة يقف الكاتب مع المخرج يتأملان المشهد الماضى، وهنا الكاتب مع المخرج يبحثان البديل عن المشهد الأول. وأنا هنا، فى هذا الكادر أقول لك نحن أخذنا المشاهد على عجل، علينا أن نعيد بناء المنظر من جديد. ذهبت مواعيدى إلى غايتها وأنت تهذى أمامى. مواعيدى هنا وأنا هناك معلق على سطح باخرة راسية على ضفة متخيلة. أنت تلعب معى، أنت تدور على، شأنك شأن من أعرفهم جميعا. لكن الله وحده يعرف أنى صادق فيما أقوله. الله نفسه يصدق فيما يقوله، ولكن فيما لا يقوله لا أتوقع أن يكون صادقا فيه، لأنه ببساطة لم يقله. لو أنه، لو أنه.... تعال نحكى من جديد، نحكى عنى وعنك. امرأة تنظر إلينا من نافذة. هل نصعد إلى النافذة أم ندعوها لتنضم إلينا. أصعد وحدك، ولو أتت هذه المرأة سأتركك، لماذا أنقلبت رأسك، هذه المرأة شرموطة، وليكن، هى حرة، هذا ليس شأننا. وأنا أيضا حر، أنا لا أحب أن أتعامل مع الشراميط. ال شرا راراراارامميييط. استمع الآن إلى موتسارت وأحاول أن أعيد بناء المشهد ليس وفقا لم تم ولكن تبعا لما أراه الآن وأنا أستمع إلى موتسارت وأنقر على الكى بورد. المشهد مرة ثانية يعيد تنظيم نفسه. شاب يجلس إلى مائدة رخامية فى مقهى. يزفر دخان سجائره وينظر إلى البنات برغبة عارمة، عيناه تتابعان؛ الثدى، ثم يصعد إلى الوجه، ثم يدور إلى الخلف، المؤخرة، السيقان، ومنهما إلى فتاة أخرى، أو تدقيق آخر. ينتبه فجأة فيجدنى أمامه، ينظر إلى ويحول وجهه عنى وبعصبية يقول: ممكن تقعد، اتفضل، معاك سجائر، علبتى خلصت. معى سجائرى وكبريت وسندويتش ومفتاح لغرفة فارغة لمدة 24 ساعة فقط. غرفة تقع على النيل فى تقابل مع مركب راسية على ضفته. وهناك ستجد امرأة وكل ما تريده منك أن تعرف كيف يمكن التعامل معها. لا تقلق، أنا لا أعرف أى شىء فى هذه الدنيا إلا التعامل مع النساء. إذن أنت الشخص المطلوب. سأكلم المؤلف. لقد وجدناك أخيرا. لقد إنتظرناك طويلا، أين كنت أيها الرجل؟ تقدم، تفضل سيجارة وكبريت. لم يأت أحد حتى الآن. لا تسأل عنهم، فهذه عادتهم، يظهرون فجأة وأيضا فجأة يختفون. ملعونة هذه الدنيا ومن عليها، كيف لا يقيمون وزنا للمواعيد، العمر هو الوقت، أليس كذلك. ماذا تقول/ آسف لم أسمعك جيدا كنت أفكر بأمر ما، أقصد كنت أبحث عن شخص ما. لا لست أنت المقصود. كنت أقول بأنى وجدت لك سيجارة وعود ثقاب. وأيضا كوب شاى لو أحببت. المساء ينتظر جانبى مثل صديق ودود. لم يسألنى مرة بأن الوقت تأخر بنا وعلى أن أذهب، بل على العكس تماما يهدىء من قلقى ويقول لى بصدق: لا تقلق مازال أمامنا وقت لكى نرى. ابتسم له فى مودة وأنزع يدى من جيب سترتى وأضعها على ركبته. وأقول فى نفسى لو صديقى هذا يشبه المسيح وأنا يوحنا، لو أنا يوحنا وصديقى المسيح لكنت الآن فى لوحة العشاء الأخير معه وأسند رأسى إلى كتفه الأيمن. مائدة فارغة فى منتصف المقهى تبحث عمن يرتادها، أو من ينصب خيمة حولها، وينفث دخان سجائره متوترا، قلقا، نزقا، خائفا....
اذهب بعيداً عنى وابحث عن شخص آخر يلائم مشهدك. أنا هنا أحلم بموعد على باخرة راسية على شاطىء النيل وأنت تأخذنى إلى مشهدك. مشهدك مصمم مسبقا. كنت أتحدث إلى نفسى وأشرب كوب الشاى وأعد حصى جيبى. لم أخسر شئيا طول النهار، قبل مجيئك، لأنى لا أملك ما يمكن أن أخسره. مرة أخرى استمع إلى موتسارت. أية معزوفة التى تنبعث جانبى. لا أعرف. هى شىء أشبه بماء يأتى من الداخل، يندفع بقوة شلال نحو الكى بورد، نحوى، وأنا جالس أرتب نفسى للقاء غير مصمم بشكل مسبق.

عندما رجعت إلى المساء وحاولت أن أستعيد المشهد وموقع التصوير لم أتعرف إلا على بقايا عظمية لأسماك صغيرة وبعض القواقع التى يبدو أنها تركت على عجل أو كأنها سقطت من موجة خائفة. كنت أحلم بشاطىءٍ وبأناسٍ وبمحبةٍ. كنت أحلم بمدية فضية وبطفل يليق بألقى، أحلم بنزق مساوٍ لوحدتى، أحلم بآخرة لا تساومنى على فرحى.
أنا هنا أنتظر من رحلوا.......