ييجي شيرشونوفيتش
ترجمة: د. هناء عبد الفتاح

(بولندا):
منذ عدة سنوات مضت، احتفل مسرح من مسارح مدينتي quot;بياويستوكquot; البولندية بالذكرى السنوية لنشأة مسرحه. ومن أهم فعاليات هذه الاحتفالية ومسببات جذبها، كان تقديم العرض المسرحي quot;سيرانو دي برجراكquot;. كان يقدم هذا العرض حتى هذا الوقت الحاضر في فضاء مسرحي مغلق، وخصيصاً بمناسبة هذه الذكرى السنوية، انتقل العرض المسرحي ليقدم في فضاء مسرح مفتوح، يسع عدة آلاف من المتفجرين. وفي ظني أن هذه الفكرة، بمختلف المقاييس تتسم بطابعها التجريبي الفني. وبطبيعة الحال من وجهة النظر التكنولوجية كان هذا العرض نوعاً من التحدي الكبير، بل يدخل في مجال التجريب الكبير! كان على العرض المسرحي أن يملك مختلف التقنيات الحديثة، التي تساعد في تجسيم مفردات التعبير، وتشغل فجوة الفضاء المفتوح المقترح، وتسهم في إيصال وسائل تعبير الممثلين الى آلاف الجماهير، الذين حضر معظمهم الى المسرح بشكل عفوي غير مقصود، قاصدين النزهة، من دون دعوة سابقة لحضور هذا العرض المسرحي بعينه. وللوصول الى هذا التأثير المرجو، استخدمت تقنيات الآلة المسرحية المركبة بأحدث أجهزة الإضاءة، ومكبّرات الصوت. وروعيت جميع المحاولات للوصول الى أعلى مرتبة من استخدامات المؤثرات المسرحية، لكن الكارثة لا يمكن إيقافها؛ على الرغم من تحقيق أعلى مستويات تقنيات التكنولوجيا! ففي أثناء أداء أهم مونولوج لبطل العرض المسرحي quot;سيرانو دي برجراك ـ Cyrano de Bergeracquot;؛ تعطّلت فجأة مكبّرات الصوت وخمدت. أما quot;سيرانوquot; المسكين، والواقف فوق المنصة (براتيكابل) المرتفعة خصيصاً، ليقف فوقها لأعلى متعدياً رؤوس المشاهدين، فقد ظهر وكأنه quot;فقد صوتهquot; فجأة. هذا الخطأ الصغير غير المتوقع من قبل تقنيات أجهزة الصوت (ميكروفونات لاسلكية ومكبّرات) كان من الممكن أن يدمر هذه الاحتفالية الكبرى. ساد الصمت لحظات. كان من الواضح أن سماع ضحكة عابرة أو صفير مفاجئ من جانب المتفجرين، لسوف يحدث انهيار جبل الثلوج على الرؤوس جميعها ـ فسوف تتغير دراما quot;سيرانوquot; لتمسي ملهاة/ فارس طفولية.
شعر الممثل صاحب الخبرة والتجربة، واللاعب الدور الرئيسي، شعر بشكل حدسي/ غريزي بما حدث!! وعلى الرغم من عجز مكبرات الصوت إيصال صوته للجماهير، إلا أنه بعد لحظات قصيرة ـ تعد دهراً (ردحاً) طويلاً من الزمن فوق خشبة المسرح ـ واصل أداءه للمونولوج المسرحي. وحدثت المعجزة: سكنت الجماهير وصمتت، توقفت محادثاتهم العابرة، سكنت أرجلهم عن احتكاكهم بالأرض، وأصغت آذان آلاف عدة من البشر في صمت مطبق الى صوت حي ـ من دون مكبرات صوتية ـ يتجه بقوة نحو السماء المتخمة بالنجوم. لقد أصبح هذا الخطأ التكنولوجي حجر أساس في تشييد النجاح الفني لهذا العرض المسرحي، وانتصار للروح والفن على التكنولوجيا والمادة. إنني أؤمن إيماناً عميقاً بأن هذا الحدث قد جعلنا نرى في خلاصة ميتافيزيقية، ماهية العلاقة بين فن المسرح والتكنولوجيا الحديثة؟! إنه يجعلنا نعي ما هو جوهر المسرح والتجريب المسرحي من جانب، ومن الجانب الآخر الوعي بما هو مجرد كونه وسيلة وأداة لتجسيده فوق الخشبة. إن استخدام تقنيات التكنولوجيا الحديثة، والاكتشافات العلمية المعاصرة في العمل المسرحي بعينه هو عرض تجريبي. فالمصطلح ذاته quot;المسرح التجريبيquot; يمكن لنا تفسيره، إذا فهمناه وفقاً لمعناه الحرفي الذي يصاغ من بنية هذا المصطلح ومشتقاته. ومن وجهة نظري الذاتية، لديّ انطباع ـ ليس منفصلاً عن يقين الداخلي ـ من أن المسرح إما أن يكون تجريباً أو لا يستحق أن يسمى quot;مسرحاًquot;. إننا نقدره باعتباره فناً، وواحداً من أهم الوسائل ـ بجوار العلم والمعتقدات ـ لتعرف الإنسان على ذاته، ومحاولة تفهم عالمنا المحيط بنا. فالمسرح إذن هو تجريب متواصل، تتوالى عليه تغيرات في quot;الفورمquot; أو الشكل يكون في معظمها فجائياً ومرناً، بينما يكون جوهر العمل المسرحي وموضوعه الأساسي ـ عبر تراكمات الحقب الزمنية عليه، ولقرون تالية ـ هو quot;الإنسانquot;!

المتناقضات
منذ بضع سنوات مضت؛ وفي احتفالية اليوم العالمي للمسرح؛ كتب المسرحي الألماني quot;تانكريد دورست ـ Tankerd Dorstquot;: (...) دائماً ما نتساءل؛ هل المسرح يلاحق الزمن؟! عبر ألفي عام جعلنا المسرح نرى ـ تماماً كالمرآة ـ العالم ومكاننا فيه. فالتراجيديا ـ وغالباً الكوميديا أيضاً ـ جعلتنا نشاهد أن ما يحكمنا هو quot;القدرquot;. وأن الإنسان ليس بمتكامل، يرتكب الأخطاء الفادحة، يتصادم مع المتناقضات، يشتهي السلطة، يرينا المسرح بأنه ضعيف، مخادع، ساذج، سعيد في جهله. ويظهر في الأفق نوع أو جنس آخر من الوجود الإنساني، يمكن صنعه، وإنتاجه عن طريق علم quot;الجيناتquot; الذي يتحكم في توجيه مسارات الإنسان عن طريق استنساخه بشكل مثالي. هذا الإنسان المثالي ـ إن وجد ـ لن يكون في حاجة الى مسرح مثل ذلك الذي نعرفه. لن يكون بمقدوره تفهم تلك الصراعات التي تقوده وتحركهquot;.
أريد أن أتحدث هنا ـ ولكني أختار أقل المسائل خلافية ومثيرة للجدل والنقاش ـ عن القيمة الفائقة غير العادية لاختلاف المسرح عن العلم والمعتقدات، وهي أن المسرح في اختلافه عن المعتقدات أو العلم، لا ينشغل بتوصيف تاريخ الظواهر؛ التي كان لها دور فاعل في الماضي، ولكنه يرينا الظاهرة ذاتها، يرينا الإنسان في لحظة حدوث هذه الظاهرة، وفي لحظة تغيرها. لا يوجد أي فن آخر كالمسرح؛ أو أي فرع من فروع العلم، ولا حتى المعتقدات نفسها بقادرة على أن تمنحنا فرصة لاقتراب حميمي يتّسم بهذه الاستثارة السيكلوجية مثل quot;دراما الوجود الإنسانيquot;.

كانتور
عندما سئل المبدع المسرحي البولندي الكبير quot;تادووش كانتور ـ Tadeusz Kantorquot;، لماذا يظهر بنفسه فوق خشبة المسرح في أثناء عروض مسرحه؟ أجاب بأنه في اللحظة النهائية لتقديم الإبداع المسرحي فوق الخشبة، في لحظة انكشاف الممثل أمام جمهوره، نجده منزوع السلاح، وهو كأنسان في حاجة الى حضور الإنسان الآخر. لأن المسرح الحقيقي، ذلك المسرح التجريبي الجاد، ليس مجرد نمر حواة، وليس بتهريج رخيص، بل دراما إنسانية معاشة هنا، وفي اللحظة الآنيةquot;.
وعندما نجلس في قاعة المتفرجين، فإنما نكتشف أنفسنا في موقف أقرب ما يكون الى زيارتنا لشخص مريض مرضاً ثقيلاً. نحن لسنا بأطباء، ولسنا بقادرين على مساعدته، ولكن يمكننا أن نكون مع هذا الشخص في أثناء البروة، في اللحظة التي يصارع فيها هذا الشخص المرض المميت. إن المرض المميت للمسرح هو التعوّد، في تحجّر قوالبه وتكلّسها، في تعوّده على المسلّمات، والتي تحتاج في معظمها الى حلول فاعلة. إن ظاهرة التحرّر من قيود ذلك quot;المتعارف عليهquot;، تعدّ ظاهرة نادرة. فبعض الممثلين يقوم بأداء إيماءات مفرغة خالية من المعنى، والبعض الآخر يبيع نفسه لوسائط (ميديا ـ media) أخرى، حيث يربت الممثل على جمهوره ويتملّقه، يسير في توافق فريد مع quot;الثقافة الشائعة ـ commen culturequot;. وليس هذا بالشيء الذي يعاقب عليه، لأن الإنسان ـ والفنان على وجه الخصوص ـ هو وجود يتّسم بالخيلاء والغرور، يتعطّش الى الاعتراف به والوصول الى أعلى القمم، تماماً مثل السمكة في المياه. ولا يمكن لنا سجن الفنان في quot;بدرومquot;، أو نضع من حوله الأسوار التي تبعده عن العالم. لذلك فإن تطوّر quot;التكنولوجياquot;، خصوصاً quot;تكنولوجيا وسائل الاتصالquot;، تسبّب عنها في أن العالم قد تقلّص وصغر. قيل ـ في وقت ما في بولندا ـ إن العبقري يأتي من الأقاليم. فالفرديات الشهيرة، والتي وهبت الشعور برسالة التبشير، ولا تملك قدرة إيجاد نفسها داخل البنية الرسمية (الحكومية)، قد هاجرت ـ جغرافياً الى الخارج، أو هاجر في الداخل. ولقد راهن quot;تادووش كانتورquot; في عمله الإبداعي على ممثليه غير المحترفين ـ أبناء الطبيعة غير المشكلة، أما ييجي غروتوفسكي ـ الذي ليس من الضروري التذكير باسمه ـ لم يبدأ عمله الابداعي في مسرحه المعملي بالعاصمة quot;وارسوquot; أو بالمدن الكبرى مثل quot;كراكوف ـ Krakowquot; أو غيرها، بل بدأها في اقليم quot;اوبولي ـ Opolequot; الصغيرة وشيد مسرحه هناك: quot;مسرح الـ 13 صفاً. في تلك الحقبة الزمنية الصعبة بالنسبة للفنانين البولنديين، والتي تسمى quot;بزمن التخفيquot;، كان العثور على مأوي داخل هذه الأقاليم هو الطريق الأسهل. ولم تعد المشكلة في الوقت الحاضر في الهجرة فقط، بل حتى ايضاح تساؤل ملح: أين موقع هذه الأقاليم؟ ففي حيز المنطقة الثقافية وحدودها يختفي رويداً رويداً معنى هذا المصطلح quot;الاقليمquot;. لقد اصبح من الصعوبة بمكان الاختباء أمام العالم، ليكون بمقدور الفنان العمل بهدوء، أن يسعد بما يبدعه، ان يجد الـquot;تونquot; الصحيح غير التائه في شغب هذا العالم المحيط به واضطراباته.
مرة أخرى أعود الى المقولة المقروءة للكاتب المسرحي الألماني quot;تانكريد دورستquot;. يكتب قائلاً: quot;المسرح هو فن ملتهم وفي ذلك قوته. بلا خجل او استحياء يستغل كل ما يلمسه ويقع ما بين يديه. يكسر مبادئه الذاتية. يخضع بالقطع لكل ما هو quot;موضةquot;، يتوغل داخل الوسائط الأخرى. أحياناً ما يتكلم ببطء، وأسرع في أحيان أخرى. يتلعثم ويصمت. انه متطرف ومبتذل (تافه)، خبيث ماكر: يقطع من أوصال الرواية الأدبية، وفي الوقت نفسه يبدع شيئاً جديداً منها. إنني واثق من ان المسرح دائماً زاخر بالحياة ـ اذا كان بمقدورنا ان نشعر بالحاجة الى اظهار: كيف نحن، وما لسنا نحن عليه، وكيف ينبغي ان نكون!!quot;.

ميدانياً
تخفي هذه الأقوال مضامين بسيطة: يحتضن quot;المسرحquot; كل ما يقدمه العالم، لكنه لا يستسلم لفوضويته او زيفه ـ انه يحمل في قبضته كل ما يقدر عليه، من أجل التعبير عن نفسه كاملاً.
كيف تبدو هذه الظاهرة عملياً؟!، كيف يمكن لمبدعي المسرح البولنديين quot;الحداثيينquot; ان يبدعوا تطبيقيا quot;تجريبهم المسرحيquot;، وquot;معلمهم المسرحيquot;؟ في بحثي ـ وليس هذا الملخص ـ أتناول طرق ابداع فرقتين مسرحيتين بولنديتين، الأولى: تقدم العرض المسرحي quot;موروسوفوس ـ Morosophusquot; وهو أحد العرضين الممثلين لبولندا، والفرقة الثانية هي فرقة quot;فيرشالين ـ Wierszalinquot;، أما الفرقة الأولى فتاريخها حديث، وهي تتكون من شباب مبدعين لا تزيد أعمارهم عن خمسة وعشرين عاماً. أما الفرقة الثانية quot;فييرشالينquot; فهي فرقة مسرحية معروفة لها تاريخها المسرحي الطويل، ومعترف به في بولندا، واوروبا، ويقدرها اخصائيو quot;المسرح البديل ـ (Theater alternative) في العالم كله. وليس من الصدفة ان اخترت في بحثي هاتين الفرقتين! فما يعنيني هنا هو نوع التجربة المسرحية المغايرة لكل منهما، فهما غير متشابهين في quot;الموديلquot; المسرحي الذي تقرحانه، ويفرقهما quot;التشكيلquot; والصياغة المسرحية المختلفان، والتي لا تسمح على المستوى العملي بالوفاق بين جيلين من المبدعين. باختصار شديد لقد بحثت داخل ابداعات هاتين الظاهرتين المسرحيتين اللتين على الرغم من اختلافهما، الا انني وجدت ثمة رابطة تربط فيما بينهما: إنها مسارح تنضوي تحت مسمى quot;التجريبquot; بكل ما يعنيه هذا المصطلح؛ وهي تعد مثالاً جيداً لتلك المسارح التي تتعامل في تناولاتها المسرحية مع quot;التكنولوجيا الحديثةquot;. عن تجربة الفرقتين يمكن للقارئ ان يجد في البحث المطول ما قصدته.
نقلا عن quot;المستقبلquot; اللبنانية