صبري يوسف من استوكهولم: افتتح الفنَّان التشكيلي حنَّا الحائك معرضه في سودرتالية، إحدى ضواحي ستوكهولم، بمناسبة الذكرى الثلاثين لإقامة أوَّل معرض له على أرض مملكة السويد، وسط جمهور غفير من الفنَّانين والفنَّانات والمهتمّين السويديين والمغتربين من بلدان الشرق الدافئ، السبت الماضي ويستمر العرض حتى غاية 3/3/2008.
قدَّم الحائك الكثير من تجاربه التي أنجزها عبر أكثر من أربعة عقود من الزمان، واختار ست وسبعين لوحة تشكيلية وعرضها في صالة فنّية، موزّعة على أربع صالات متعانقة مع بعضها بشكل بهيج، لوحات بقياسات متعدِّدة، متناغمة، ترقص شوقاً إلى حنين التراب، حيث بلاد آشور وسومر وبابل وأكّاد، تسقيها بكرمٍ باذخ مياه دجلة والفرات.
ألوان الفنان حنّا الحائك دافئة وانسيابية، غنيّة بمنعرجاتها وخطوطها وظلالها ومساحاتها المترامية مع روعة الانسجام، يرسم بالأكريل، فارشاً ألوانه كأجنحة فراشات على بياض اللَّوحة، يرسم لوحاته بعيداً عن ضجيج هذا العالم، كناسكٍ معتكف في مرسمه المسترخي وسط غابة مكتنزة بالهدوء والاشجار والزهور البرية، يناغي ألوانه ساعات طوال وهو يفرشها على بياض اللَّوحة، كأنه يسقي سنابل الجزيرة الخضراء، بهفهفات فرشاته وهو في أوج تجلِّياته وشوقه إلى ربوع اللَّون المتناثر من توهُّجات الذَّاكرة المتعانقة مع ربوع الحسكة والقامشلي، وبراري الجزيرة العليا.
تحمل لوحاته في ثناياها نكهة الشرق ونكهة الحضارات الموغلة في تواشيح الحدائق المعلَّقة في ذاكرة توّاقة إلى نقوش المعابد القديمة، حيث مسلّة حمورابي بتشريعاته المنقوشة على خارطة متماهية مع البكاء، لوحات منبعثة من تجلِّيات فنان منبعث من رحم أقدم حضارة على وجه الدُّنيا!

الفنَّان حنَّا الحائك، رأى النّور في مدينة الحسكة، وترعرع في مدينة القامشلي الغنيّة بالعطاء واخضرار السَّنابل، تخرّجَ من جامعة دمشق، قسم الدِّراسات الفلسفيّة، اشتغل مدرِّساً لمادة التربية الفنّية لطغيان شغفه الفنّي الباهر على تخصُّصه الفلسفي، ثمّ عُيّنَ مديراً في إعداديات وثانويات محافظة الحسكة وانتقل إلى دمشق ثم عَبَرَ المسافات قاصداً ثلوج مملكة السويد ليعمل مدرِّساً للتدفُّقات اللَّونية قرابة أربعةِ عقود من الزَّمن ثمَّ تفرّغ بعدها كليّاً لتشكيلات وفضاءات خميلة اللَّون!
أقام أكثر من أربعين معرضاً في الصالات والمتاحف السويديّة وفي العديد من الدول الأوربية منها بولونيا، الدانمرك، بلجيكا وألمانيا وغيرها...
استقبلتني لوحاته حالما عبرتُ مدخل صالة كريتسن الفنّية، تمايلت بتلات الزُّهور والورود التي قدَّمها الزُّوار مع ألوان اللَّوحات التي كانت تناجي الزوَّار، كأنَّها تحتفي مع زوَّارها وهي في أعلى تماهياتها مع هذا الكرنفال الفنّي الذي ملأ صالات العرض كلها حبوراً وحضوراً طيباً يبهج القلوب، تقدمتُ نحو الحائك وهو يتجاذب أطرافَ الحديث مع فنَّان تشكيلي سويدي من الجيلِ العتيق، عناق دافئ غمرني وهو يرتمي بين أحضاني بضفيرتيه المكتسيتين ببياض الفرح الآتي، لم تبخل اللَّوحات في فتح صدورها الهائجة بألوان شهوة الشَّمس وهي في أوج حنينها إلى سماء الشَّرق، و كأنَّها في حالات تأمل، تدعو السَّماء أن تهطل مطراً فوق براري الشِّمال المتاخمة للأراضي التي قطعها كلكامش بحثاً عن نبتةِ الخلاص!
شفافية مفرحة تسطع من اللَّوحات، تتعانق الألوان مشكلة نهراً عذباً، تطيرُ فوقه حمائم السَّلام، وطفولة مخضَّبة بمروج الأوَّل من نيسان، حيث بهجة الرَّبيع والأعياد تغمر معابر اللَّوحات وهي ترقص رقصة الرَّحيل على إيقاع أحلام متشظِّية من ظلال القلب، بحثاً عن غابة فسيحة، مسكونة بألوان لم تُرَ من قبل!
عندما تتأمَّل لوحات الحائك، تشعر وكأنَّ دموعه امتزجت مع الألوان وتناثرت فوق خدود الصَّباح، مشكلةً خيوطاً من الغمام، موشِّحاً التِّلال البعيدة بأحلام غيمة ماطرة تتهاطل فوق عاشقين وهما في طريقهما إلى الارتماء فوق أزاهير براري الشِّمال، التي خبَّأها بين أجنحته قبل أن يعبرَ البحار، وكأنّه رسمها وهو في حلم مفتوح نحو بيادر الطفولة.
سألت طفلة وهو تنظر إلى لوحة تبتسم ألوانها المفرحة، رغم تفاقمِ سماكات الدم على ضفاف النهرين، سألتها، ماذا تشبه هذه اللَّوحة؟ ابتسمت الطفلة ثم قالت بصوت خافت، انها تشبهني! أجل، تشبه بسمتك، ثمَّ همستُ في سرّي لكن كيف استطاعت هذه اللَّوحة أن تضيء لنا بسمتها وفي حلقها غصّة حارقة؟!
لوحات حنَّا الحائك، ممهورة بالأمل، بالبسمة، بالمحبة، بالوداعة، بالوئام، لكنها تغفو فوق أحزان المدائن واشتعالات أوتار الحنين إلى إنسيابِ الدُّموع الأخيرة، كأنها تبحث عن المآسي المخبّأة في تعاريج ظلال الرُّوح، تنبش أعماق آهاتنا كي تخفِّفَ من جراحنا من خلال وميض الأمل الذي ينثره الفنَّان فوق جبينِ اللَّوحات.
مررتُ بهدوءٍ لذيذ، أشاهد اللَّوحات تباعاً، كلّ لوحة تخلق في نفسي حالة فرحية، تفجِّرُ حنيناً، لوعةً، شوقاً، فكرةً، تنيرُ آفاقاً، تفتحُ شهيَّتي على كتابة القصائد!

تخلَّلت اللَّوحات مواضيع عن السَّلام والتآخي والجنوح نحو الصفاء والفرح والمحبة والتواصل بين البشر، عبر سيمفونية لونية معتَّقة بألوان مسترخية على حافَّات المدن البعيدة، الغافية في ذاكرة الفنَّان..
أغلب لوحات الحائك كانت تجريدية، متداخلة تداخلاً لونياً باهراً، اخضرار متصاعد نحو ليالي غربة الفنان، بحثاً عن تصالحه مع الذات ومع الحياة لخلق حالة توازن بينه وبين الذَّات التَّواقة إلى مرافئ الإبداع، وإلى حالات الانشطار التي حلّت بنا منذ أمدٍ بعيد.