تطبخ الأم شوربة العدس فوق الموقد الكهربائي من دون فائدة. لا تفعل أن تنتهي. صحيح أن تحضير الطبخة سهل: ماء وحجارة وقليل من الملح. لكن الصعوبة تبدت الآن حيث أن الماء الذي يجمع المادة في القدر مازال باردا. وضعت يدها تلمس مقدار الحرارة. بالفعل البرودة والقشعريرة والماء ساكن صار مثل هضبة جليد. مثل بركة يملأها المطر ثم يأتي المناخ محمولا من سيبريا كي يطرق ماءه ويجعله صلبا. لكن الطباخ الماهر يجب أن يتحلى بالصبر فتحلت بالصبر. فتحت كتابا مملا كي تتعلم الصبر وتحمله. الكتاب كان عن الأم في العام 1905 وكيف كانت تحمل أوراقا من أبنها كي توصلها إلى أصحابه. تلاقي البرد في الطريق. وهناك مدخنة في الجانب المقابل. الوقت شتاء بالطبع لأن تلك البلاد لا تعرف سوى الشتاء- قريبة من سيبيريا. فتقف الأم قليلا عند دكان عربي يبيع شوربة عدس. كانت الأم ترتجف فحملها البائع الى الداخل كي تكون قريبة من كانون الفحم. والنار في الكانون تشع بهجة وفرحا لأنها غريبة في وقت الشتاء. النار تخاتل وتضحك. لو كان الوقت صيفا لما كانت كذلك. النار. نار الشوربة نار الحب. حين شربت من الملعقة شعرت بالسخونة تسري في العروق فقامت وقد سرت الدماء. قال لها البائع بروسية تحمل لكنة عربية لماذا لا تقضين الوقت هنا حتى ينتهي الشتاء ويتعدل الجو وتصبح الطرقات من دون عواصف ثلجية. وتتفتح الأزهار. لماذا؟ لكن الأم التي احبت ابنها باول كثيرا رفضت. قالت له سوف يزعل مني.
لقد اقتفيت أثار الأم وهي تطبع قدميها على الثلج. لقد نزعت الحذاء وراحت تضربه على الأرض كي يقول الأثر أن الأم مرت من هنا. لكن المسكينة لا تعلم أن عملها لا ثمن له. عمل بارد لا روح فيه. لو كانت تعلم ذلك لظلت عند بائع الشوربة. تتدفأ وتشرب شوربة مع خبز محمص وملح وفليفلة حمراء ترفع الحرارة. وترمي الأوراق التي تحملها بين آن وآخر كي تغذي الكانون. لا تعلم إن مكان الأوراق في الكانون. مكانها هناك. فلماذا تحملها كل المسافة الى بيوت الأصحاب مع تحمل المجازفة والخطر؟ الرياح تثير زوبعة لا تنتهي فتغطي رأسها بيدها وتزم معطفها عند صدرها ثم تحني قامتها قليلا. الكثير يظن أن كل أم تفعل ما تفعله أم باول. حبها لأبنها هو الذي دفع الثورة كي تستيقظ وتحرك لسانها في البرد على شوربة مع خبز محمص والنار في الكانون ساخنة من دون كهرباء. أسال أمي لماذا إذن لا تفعلين كما فعلت الأم. فتقول لي بأنها عجوز لا تقدر أن تمشي. ثم الأمر هذه الأيام لا يريد حمل. لن نتعذب كما تعذب الناس في القرن الفائت. ففكرت بكلامها. بالفعل صحيح هناك طرق عديدة لإرسال رسالة باول: الى جميع الأصدقاء الذين حفظت عناوينهم في ذاكرتي. أضرب على الزر ضربة خفيفة ثم أرسلها وبدقيقة واحدة تنفتح عند الجميع. ثم بدقيقة واحدة يمحوها الجميع. ذلك لأن الأصدقاء لا يقرؤون رسائلي، أصابهم الملل، فحين يرون رسائلي يضغطون على ال Delete فتصيبني حيرة لماذا لم يتحرك أحد منهم؟ يجب أيتها الأم أن تتحركي. تقفي على قدميك مثل الأم في العام 1905 وتقومين تمشين في الثلج وفوق المياه وتزمين معطفك على جسدك الشيخ ذلك حتى ولو كان عملك من دون طائل، ولا روح فيه فيجب أن تمشي.
امشي- لكن من دون نتيجة. أوقدت نارا في الغرفة، نار الكهرباء وحملت عليه قدرا كبيرا وضعت فيه حجارة وماء وقالت أن الطبخة تريد أربع ساعات على الأقل حتى تنتهي. لأن فعل الطبخ هو فعل معقد- فعل كوانتم- تراكم كمي. قالها مرة ماكس بلانك وحققها بعد ذلك شرودنغر بمعادلاته النووية كي يقسم الذرة ويقسم العالم- تشظية وطبخ كوني للعالم الميكروي الذي لا تلمسه أصابع أم بل يحسه القلب حتى لو كان الفعل فعل ثلج ومجازفة حياة. كم يمكن أن تجازف أم في الثمانين. سنة أو سنتين؟ لن تصل أم باول إلى هذا العمر. لقد اختنقت بالدخان فوقعت رزم الورق من معطفها.
لكن الأم التي قرأت- في انتظار الطبخ - كل هذه الصفحات، صفحات أم باول. فكرت بأن، هناك بالتأكيد تكملة لهذه القصة.
وقعت رزم الورق على الأرض ثم ماذا؟