ـ رصاصة في برقة جبهته، لااريد لامه ان تعلم انه تعذب كثيرا، قال الشيخ ذلك بحزم ويبس دمعته لئلا يفت في عضد العبد الذي تكاثف بخار منخريه على ماسورة البندقية واتصلت القطرات وانسكبت على مساحة ابهامه وسبابته.. بلع الخادم ريقه وحاول ان يقول شيئا، قاطعه الشيخ بحزم:
ـ لن تقتله لسواد عيوني هذه المرة، سيكون لك مال وحلال وتتزوج من تريد.
قبل الخادم يد الشيخ وقال مرشحا من صوته ارتعاشات الحزن لمفارقة ذلك الصبي البهي القوي كمهر والذي تعلم على يديه ركوب البغال والخيول الاصيلة، قال الخادم في سره مااقساك من اب، رددت قسمات العبد صوت سريرته فالتفت اليه الشيخ حانقا:
_ لقد فضحنا يانعمان وشمت بنا البعيد والقريب.
قال العبد بصوت خفيض:
_ انه طيش شباب يامولانا ولابد ان يعود يوما اليك إن نحن غادرنا ماعقدت العزم عليه.
تطاير الشرر من عيني الشيخ وصرخ في العبد بحدة:
-والله لو لم تكن امانة في عنقي لسرت بطنك حتى خصيتيك.
ساد صمت قبل ان تنطلق الرصاصة مخلفة ازيزا يشبه البكاء، مسح العبد دمعته بطرف ردائه وسقط على الارض مغشيا عليه وظلت عينا الشيخ شاخصتين الى الامام وسقطت دمعة ثقيلة حين راى راس ابنه سعيد يغط ويرتفع ثم غط ثانية ولم يبصره بعد ذلك اذ نزل الراس الى القرار بهدوء مخلفا سوارة ناعمة كانها نواح الماء. وضع الشيخ عباءته على وجهه وبكى ثم مالبث ان رفس جثة العبد الممدد عند قدميه بقوة:
قم انت حر.
احس سعيد بخيط الشمس على جبينه وهو يعبر الى الصوب الاخر ولكنه تواطأ مع الاستسلام الذي اعتراه لبرهة من الزمن ضغط له الاشياء دفعة واحدة فتذكر كل تاريخه في لحظة واحدة، راى اشياء كثيرة متداخلة، نساء يندبن، رجال يرقصون، خيم متفرقة، ثغاء ماشية، هلاهل جواميس ونواح اباعر، فرش يديه على الماء واستدار بقوة، احس تهشم عظام ناعمة، رأى في تلك اللحظة نعيمة بثوبها الفجري الالوان يشتد اشعاعه مع وهج التنور فيطفر الضوء من وجهها لاهبا ويتفصد العرق غزيرا لايلبث ان يجف ثم يتفصد من جديد مثل عين عصية على الطمر. كانت نعيمة تغرس في جنبيه الريش، على جسدها تعلم النعاس اللذيذ وعلى صحراء هذا الجسد المرمري الاسمر طارد ايائل اللذات وكانت برغم جبروت شبقها تموء كقطة وديعة تحت ثقل يديه المعروقتين، الى ان هوى من سماء احلامه ذات يوم عندما اخبرته ان (طارشا) من ابيه اخبرها ان تكف عنه وكان ذلك الطارش العبد نعمان نفسه وهدد العبد عن لسان الشيخ بالويل والثبور والطرد والتقتيل لعشيرتها ان لم تكف عنه، سأل نعمان عن الواقعة، فلف الرجل سجارته على مهل كأنه يريد ترتيب ماسيقول، بصق جذاذة ور قة (البافرة) الشفافة وسحب نفسا عميقا واعاد الدفتر الى الكيس وسحب الخيط بقوة فبدت فوهة الكيس كفم امراة عجوز ودفع الكيس امامه:
_ سأ قص عليك حكاية ذلك الصبي الذي اغرم بصبية لكن اهله منعوه عنها لانها من اكابر القوم فمرض لذلك مر ضا شديدا فبحثت له امه عن حكيم او عرافة تطببه وتنسيه صبية غرامه، فاقبلت امراة عجوز متوسلة ان ترى الصبي وتنظر ان كانت قادرة على فعل شيء له وكانت قد اعدت العدة بعد ان علمت اصل الحكاية وما ان دخلت عليه حتى اخرجت من كيسها عشر بيضات وصبغت كل واحدة بلون وطلبت منه ان يأكل كل يوم بيضة وما ان اتى الصبي على البيضات العشر حتى سألته:
هل رأيت كم هي لذيذة البيضة الحمراء المتوهجة كحبة الرمان؟ فقال لها الصبي والله ياخالة ليس ثمة فرق بين الحمراء او الخضراء او الصفراء، وانهن جميعا بطعم واحد، فانكرت العجوز رد الفتى وقالت له بانه يجهل مايضيفه اللون على البيض من طعم، فقال لها نافد الصبر:
-لقد ذهب اللون مع القشر وكل بيضة دخلت جوفي لااختلاف لها عن باقي البيض.
فصمتت العجوز قليلا وقالت:
-فاعلم ياولدي بان النساء كالبيض ليس بينهن فرق الا بالالوان.
سحب نعمان العبد كيس التبغ الذي امامه وفتحه بسبابته وسحب دفتر البافرة ووضع التبغ على ورقة استلها بلطف وادار اللفافة بمهارة ثم سحب اطراف الورقة الشفافة باسنانه وبلل حافتها بلعابه قبل ان يكمل كلامه:
ـ هل فهمت الان مااعني؟
تمتم سعيد ساخرا وضرب العبد برفق على ظهره وقال وهو ينظر الى خيام الغجر:
ـ ليست النساء كالبيض يانعمان.
ساد بين الاثنين صمت، كان نعمان يعلم ان عبوديته هي التي ارغمته على القناعة بمثل هذه الترهات يوم سل روحه فراق ابنة الاكابر التي اغرم بها حتى اتاه نذير الشؤم بزواجها من ابن عمها ولو لم تقنعه امه بمثل هذه الحكاية التي ردت اليه بعضا من رشده لانهى حياته بخنجره اليماني، وقد علم ان امه حسرت له عن حكاية عبوديته وما ودت ان تجرحه قبل ذلك وهو لما يزل يسرح ويمرح ن دون ان يعرف انه عبد ازلي ولا خيار امام العبيد سوى القناعة بان النساء كالبيض لافرق بين اميرة ولا فقيرة وما الالوان الا خداع بصيرة وبصر، اما الاحرار فان لكل بيضة عندهم طعما ونكهة ورائحة وانهم يعلمون علم اليقين بان الاختيار عرف جبلوا عليه وانهم يملكون نفوسهم. قطع نعمان تأملاته موجها كلامه الى سعيد:
ـ اذا خذ وطرك منها واعطها اجرها فلا يدركك غضب ابيك. احمر وجه سعيد غضبا وقال بحدة:
ـ كأنك لاتعرفني يانعمان وهل تضنها بهيمة؟ صمت نعمان واطرق الى الارض دون ان ينبس ببنت شفة.

سقطت ام سعيد في الحوش مغشي عليها عندما سمعت ان ابنها تزوج الغجرية، صاحت النسوة بعويل طويل:
ابحثوا عن ابنها، انها تحتضر واطلقت نائحة منهن صوتا حزينا:
ـ واحسرتاه على شبابك ياسعيد، ستجني قطيعا من الجراء تقودهم وفي يدك الشبابة مثل كلب اجرب، تمشي بين العربان مخفيا وجهك الحسن بيشماغ قذر.
تناهى الى سمع سعيد اصوا ت شجار من وراء الخيمة، سمع صوت نعيمة من وراء بيت الشعر مثل لبوة غاضبة:
ـ لست (بوا) تخيطون به لتكسروا ظهر الدابة على حوليها فان شئتم غادرناكم الى بلاد الله الواسعة.
سمع سعيد صوت عازف الربابة ذي الصوت المخنث يشكوها الى امها والربع الجالسين:
ـ هل سمعتم ماتقول؟ انها تريد لي اذرعنا وتعلم ان صوتها وحسنها سبب رزقنا. قالت نعييمة بصوت حاد خفيض:
ـ اذا فاحبسوا عني عتابكم، سعيد زوجي، من الان فصاعدا لاطامعة فيه بمال او جاه وقد شرد من عشيرته. قال عازف الربابة يائسا: اخر الكلام هذا؟ ردت الغجرية:
ـ وجفت الصحف. سادد صمت طويل قبل ان يرفع عازف الربابة آلته فوق راسه وقال قبل ان يضع القوس على الوتر:
ـ عرفناك عنيدة منذ ان كنت صغيرة، انت يانعيمة بعشرة رجال.سقط القوس على الوتر وتفتلت الغجريات على الايقاعات المجنونة وتراقص الشعر الذي يسترسل الى العجيزة ورنت قلائد النحاس وملأت المكان رائحة البخور الممزوجة برائحة القهوة والتبغ، صاح عازف الرق منتشيا:
ـ البسوا سعيد من ثيابنا فهو منذ هذي الساعة ابننا له مالنا وعليه ماعلينا.
قال سعيد وهو في خدر نعيمة:
نعيمة hellip;.
قالت له وهي تفك ازرار ثوبه فتهدل عن كتفيه:
ـ قل يانعيمة ياابنة عمي، هكذا يقولون لحليلاتهم، صمت سعيد ولم يحر جوابا hellip;

قال نعمان بارتعاشة فرح في صوته:
ـ العشيرة قائمة على قدم وساق بانتظار يوم عرسك وعمتي الشيخة اعدت البسط واللحف وعمي الشيخ اعد الذبائح وانا من سينحرها لكزه العبد على خاصرته مومئا الى خطيبته التي انحنت على قربتها وعيناها الكحيلتان تسترقات النظر الى سعيد بخفر، خطف منها نظرة منتشية وشم عبق العنبر مارا بحذاء النهر قبل ان يسمع صوت انهيار الجرف فيبصر في لحظة خاطفة عباءتها السموكن تطفو فوق الماء ولم تظهر العروس الا بعد ليلة ونهار مشبوكة الظفائر الى جذر شجرة نبا من القاع متطاولا تحت القنطرة التي هدمها الرعيان ودار همس بين النساء عن عين اصابت الصبية فاوردتها مورد التهلكة واشفقن على سعيد السقيم يقوده نعمان العبد شاحب الوجه الى خيام الغجر الذين دقوا اوتاد خيمهم عند بزائز النهر حيث يسرح الرعاة، قالت الشيخة لنعمان:
ـ دونك يانعمان سعيد خذه الى الغجر ومتعه بسمرهم. هناك عرف سعيد نعيمة.

احاطت نعيمة خصر سعيد بذراعيها ودفنت انفها في صدره، قال سعيد يائسا: لقد قتل ابناء عشيرتك وانت سجرت حياتك لي وانا كالقنفذ المذعور امضي من غار الى غار ومن جحر الى اخر تطاردني بنادق ابي الشيخ في كل مكان وابناء سلفكم يدفعون الثمن برصاصه، كل هذا من اجل من؟ من اجل فتى لم يتعلم حتى ضرب الدف او عد سخولكم. همست نعيمة بدلال: -لااريد لاصابعك الطرية ان تخشوشن ولشبابك الغض ان تحرقه شموس الرعي بالحلال.
انتفضت عندما احسته باردا كالثلج، وضعت يدها على اذنها وصاحت مغنية: اويلاه hellip; اويلاه..كم احبك ايها النجم الذي لاتطاله يدي.
هزت اوصالها بعنف امراة مجنونة محتشدة بانوثة صحراء بللها المطر فبدت مثل رخامة سمراء، تهدل ثوبها عن نهدين محتقنين وجسد يتشهى الرجل الحلم، امراة مشطت شعرها بامشاط المدينة اللدنة لم يدخل خدرها الا سعيد الذي يأتيها بالبخور والهيل والعنبر ويمضي مأخوذا بسحرها امام التنور منبسط الاسارير ترقبه صبايا القرية بغيض متعللات بالوقوف على تنانيرهن واذكاء النيران فيها، يتخطى بدشداشته والمسدس في الحزام وساعة يهج الرجال الى خيام الغجر ليسمروا يضع نعمان يده على كتف ابن الشيخ ليرقصا بوقار الاوز الجوبي تاركا السماء تتلقى قبلات مسدسه نمرة 13.
ـ افتقد الامان يانعيمة والقوم يطاردون حتى روحي التي ترفرف فوق ديارهم.
ترقرقت الدموع في عينيها ولملمت ثوبها من تحت جسدها وانكفأت على ركبتيها مطحونة بكلماته:
الم يكفك انك اصبحت الكبير فينا؟ جاءها صوته رخيا لكنه ينذر بما لم تكن تريده ابدا.
- يانعيمة، تحز رقبتي ذكرى الاهل والدار والصبا والنهر الذي اضعت فيه خواتمي وامي التي هوت في الحوش مغشيا عليها وابي الذي قطع ابهامه لكي لاينسى انني سبب عاره، كل هذا يجثم على صدري في كل ليلة وفي كل صباح.
عوى الذئب عواء قاسيا، رمى سعيد متاعه على ظهره وصاح بصوت عال:
لاتعوي ايها الذئب اتبعني وستنال مني مناك، تقلصت شفتا نعيمة وتراجعت الى الخلف مذعورة، شهقت مختنقة شهقة عاتية وتناهى اليه نواحها عندما ربط صرته على رأسه وانغمر في في ماء النهر وانحدر مع التيار. لم يتيقن ان كانت رصاصة نعمان اصابته في رأسه او في مكان اخر، لكنه احس برأسه يستدير بشكل لاارادي بعنف الى اليمين وسمع تكسر عظام فقرات رقبته العنقية، تراخت يداه واحس انه حر مثل شاهينيفرش جناحيه في كبد السماء قال في نفسه بنشوة غامرة قبل ان يغمض عينيه الى الابد:
انا حر ياابي
انا حر.


[email protected]