أشهد بالاغتراب، استشعره إزاء quot; الدور التاريخي quot; في الماضي، وما يلعبه في حياتنا المعاصرة، فهل أصبح ذلك عندي وهم، أم يحتاج إلى فهم، وتفسير، هناك مشقة تبعدني عنه في عالمنا، ما هو التغير الذي يجب أن يحدث؟! وحجتي بالاغتراب، هذه التساؤلات التي وصلت إليها quot;التاريخيةquot;، أصيلة، حقيقية، لا تستطيع أن تفعل وعيها لأتجاوزها، أن هذا النموذج الذي أوصلنا إلى الحروب، الاحتلال، الاستغلال، ليست فحسب تمد اغترابي بمدخل لفهم جديد، وإنما كمحاولة فاشلة لتجاوزه السائد في وعي الذاتي، أنه يربطني بخاصية لا مثيل لها من خلال حياتي اليومية في مكتبتي التي استيقظ فيها، إذ لا ضرورة لها، أبدأ بانتزاع كتابا من رف لا ضرورة له هو الآخر، أدور بين جدرانها على إيقاع مأزقي، أنني أحب قراءة الكتب التاريخية، لجهلي أحيانا بالأحداث الجارية في البلاد، ولو أتعبت نفسي أن أفسرها، وأفهمها تحت سقف الفوضى من كتب متناثرة، ومبعثرة، فهي كما لو تعي أن أقرأها، وكل ما يحيط بي من كتب فقد أصاب حافاتها التآكل، وانتشر الصدأ في الرفوف، لابد أن أفعل شيئا بعيون دامعة، كعادتي، وأدعو نفسي للنقاش الذي يشكل خطرا على نفسي، والمصادر المتوفرة لي عن كتب التاريخ هي أكثر من الكتب الأخرى في الفلسفة، وعلم الاجتماع، والجغرافية? الخ،كتب التاريخ تجذبني إليها ليست لأن لون شعرها أحمر، بل لأنها تبتدأ بسفينة نوح حين ترك شعبه في الطوفان، فارا من صخب المطر، والسيول، هربا من ضجيج التاريخ، وعيناه تتطلعان إلى أبعد نقطة في المياه.
دقت الباب، فنزلت سلم، وليتني ما نزلت، ففتحت الباب، لم يكن هناك أحد، فكدت أرى هابيل وقابيل، عدت إلى مكتبتي، وأنا أحدق في سطور الكتاب عن السلطة الأبوية، رميت قلمي بلا مبرر على الأرض، ورأيت نفسي أهمس شاحبا، خائفا، أرى الأشياء مقرفة، كأن فم الكتب ملطخة بالدم، لتريني آخر ما أنجزه التاريخ، دقت الباب مرة أخرى، فنزلت مقهورا، من عسى يدق الباب، ويختفي؟! هذا ما قلته في داخلي، فتحتها لم أجد أحدا، فعدت أيضا إلى كتبي، حلمت، أن هولاكو دمر العراق، أشاع الخراب في مكتباتها، أحرقها أو رماها في دجلة، لتكون المياه زرقاء، من هنا أيضا يمكن القول بأن quot; التاريخية quot; ابتدأت بحرق الكتب، وهذا ليس فقط موضوع أو مادة للتناول، بل أنه يمدنا بالدخول إلى quot; التاريخية quot; كمحاولة للشعور بالاغتراب، وهذه عموم المشكلة، بعنوان quot; التاريخية quot; لنحكم عليها بأنفسنا. دقت الباب، فنزلت مسرعا، وفتحتها، لم أجد أحدا، فانتابني القلق، والخوف، قد يكون واحدا من quot; التاريخية quot; ليدق عنقي، ويكسر عظامي من ذوي الخروف الأسود أو الأبيض، فعدت مسرعا إلى كتبي، كنت أتمنى أن أحدا لا يمسها بسوء لأنها توضح القهر سواء كان ذلك بعيدا أو قريبا، أنكره على الشكل الذي قد يكون فيه تعبير مشروع، وإن الأشياء لم تفقد قيمتها تماما وكمالا، إلا أنها عندي لا تلاقي قبولا، فان هناك كشف عن المقدس، والدين، وسقوط الآله ndash; ذات العزة ndash; التي فقدت دلالتها كصنم،وتجردت قيمته عند العرب. دقت الباب، فنزلت خائبا، حزينا، وفتحت الباب،فإذا بحشرة وحشية تطير، يرافقها صخب أجنحتها، تدخل مكتبتي، فركضت لئلا تمزق كتبي، دارت في المكتبة، وحطت على رفوف مكتبتي، كانت تشبه الجرادة الصفراء، إلا أن وجهها يشبه حصان عربي، انتظرت، ووجهي متجه إليها، وإلى الكتب، كانت أفكاري مضطربة، كان يجب أن أنتظر، فجأة تركت الرفوف، وحطت عل السقف، وهو أعلى نقطة في مكتبتي، كانت تنظر إلي بعينين لامعتين، وأنا منغمر في التفكير، متلبسا وجود آخر، منتحلا كيان آخر، صامتا، أستعير الإرشادات من quot; التاريخية quot;، أعبر عن احتجاج لا نهاية له، كان صبري لا حدود له من النظرات الثاقبة، مسكت الجزء الأول من تاريخ العرب قبل الإسلام، وأنا أشد عليه، وحاولت أن أبارزها به، كنت أخاف أن تهجم علي وتلسعني لسعة الموت، وأنسى المنهج في التاريخ، والإبداع، والحقيقة المنبثقة من الكتب ذاتها، وأتناسى العصور، هيمن علي ملل حاد، وكنت أقول لنفسي: (أنني ثانوي بالنسبة للحشرة)، همها أن تمزق الكتب، وهي تتحرك من مكان إلى آخر، تسحب الكتب من الرفوف، وترميها على الأرض، تملكني رعب لا مثيل له، كنت أبغض تصرفها، وسلوكها، ما سبق أن شاهدت من قبل، ثم خرجت طائرة مدوية بأجنحتها. دقت الباب من جديد، فنزلت، ثم فتحتها، لم أجد أحدا، عدت إلى مكتبتي، وأنا أرتب الكتب، وأعيدها إلى رفوفها، وأحاول بدلا من الخوف من quot; الوحشية التاريخية quot; أن أتعايش معها،وأكون حميما مع الكتب، أدركت حينها لم يدق أحد الباب، ولم تدخل حشرة وحشية، ولم تبعثر كتبي سواء أنني كنت مغتربا، وإن ما فعله في محاولة خراب الكتب هو أنا، أنا الذي أحيا في عالم غريب.